التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ثناء الناس على الميت

          ░85▒ بَابُ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى المَيِّتِ.
          1367- 1368- ذَكَرَ فيه حديثَ أَنَسٍ: (مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا) الحديث.
          وحديثَ عُمَرَ: (أيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ) فَقُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟ قال: (وَثَلَاثَةٌ) فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ فقال: (وَاثْنَانِ)، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ.
          أمَّا حديثُ أَنَسٍ فأخرجَهُ مسلمٌ أيضًا، وسيأتي في البخاريِّ في الشَّهادات في باب تعديل كم يجوز؟ [خ¦2642]
          وحديثُ عمرَ مِن أفرادِ البُخاريِّ وذَكَرَهُ مُسنَدًا عن شيخِه عفَّان بن مسلمٍ، ووقَعَ في البَيهَقيِّ أَنَّهُ رواه معلَّقًا عنه، وأسندهُ الإسماعيليُّ أيضًا وأبو نُعيمٍ مِن طريقِ ابنِ أبي شيبةَ عنه، وأسندهُ البَيهَقيُّ مِن حديثِ الصَّغانيِّ عن عفَّان، ولأحمدَ: ((فيشهدُ له أربعةُ أبياتٍ مِنْ جيرانِه الأَدْنَيْنَ إلَّا قاَلَ الله تعالى: قد قبلتُ عِلمَهُم فيه وغفرتُ له ما لا يعلمونَ)).
          إذا تقرَّرَ ذلك فالكلام عليه مِنْ أوجُهٍ:
          أحدُها: قولُه في حديثِ عمرَ: (فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا) كذا هو في أصل الدِّمْياطيِّ (خَيْرًا) في الموضعين، (ثمَّ مُرَّ بِثَالِثَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا) بالأَلِفِ في الثَّلاثة، وهو واضحٌ إذا قُرِئَ (فَأَثْنَى) بفتْحِ الأَلِفِ، وقال ابنُ التِّيْنِ: قولُه: (خَيْرًا) صوابُه خيرٌ، قال: وكذلكَ هو في بعضِ الرِّواياتِ وشرٌّ مثله، وكأنَّهُ أرادَ إذا قُرئَ مبنيًّا، قال: وفي نَصْبِهِ بُعْدٌ في اللِّسانِ.
          ثانِيها: عارضَ بعضُهم قولَه: (فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا) بالحديثِ الآخَر: ((نَكِّبُوا عَنْ ذِيْ قَبْرٍ)) أي مِنْ أهل الإيمان، وجوابُه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: أنَّه على تقديرِ صحَّتِهِ _ولا نعلمُها_ يحتملُ أن يكونَ مجاهِرًا.
          ثانِيها: أنَّهُ لم يُقبَرْ فيكونَ ذا قبرٍ، ويردُّهُ قولُه بعدَ هذا: ((لا تَسبُّوا الأمواتَ فإنَّهم قد أفضَوْا إلى ما قدَّمُوا)) وسيأتي قريبًا في البخاريِّ [خ¦1393].
          ثالثُها: أَنَّهُ كانَ في زمانهِ صلعم وأصحابِه لأَنَّهُ كان زمانٌ يُنْطِقُهم الله فيه بالحكمةِ ويُجرِيها على ألسِنَتِهم، فأَمَّا الآن فلا إلَّا أن يُثنِيَ أهلُ العدالةِ.
          وقيل إنَّ حديثَ أنَسٍ يجري مَجرى الغِيبةِ في الأحياء، فإنْ كان الرَّجُلُ أغلبَ أحوالِه الخيرُ وقد يكونُ منه الفَلْتَةُ فالاغتيابُ له محرَّمٌ، وإن كان فاسقًا معلِنًا فلا غيبةَ فيه، فكذلِكَ الميِّتُ إذا كان أغلبَ أحواله الخيرُ لم يَجُزْ ذِكْرُ ما فيه مِنْ شرٍّ ولا سبُّهُ به، وإنْ كانَ أغلبَ أحوالِه الشَّرُّ فيُباح ذكرُه منه، وليس ذلك ممَّا نُهي عنه مِن سبِّ الأمواتِ، ويؤيِّدُ ذلك إجماعُ أهل العلمِ مِن ذِكْرِ الكذَّابينَ وتجريحِ المجروحين.
          وقيل: إنَّ حديثَ ((لَا تَسبُّوا الأمواتَ)) عامٌّ، وحديثَ: ((أَمْسِكُوا عَنْ ذِي قَبْرٍ)) يحتملُ أن يكونَ أباحَ ذِكْرَ الميِّتِ بما فيه مِنْ غالبِ الشَّرِّ عندَ موتِه خاصَّةً ليتَّعِظَ بذلكَ فُسَّاقُ الأحياءِ، فإذا صارَ في قبرِهِ أُمسكَ عنه لإفضائِه إلى ما قدَّم، فإنِ اعتُرضَ على التَّجريحِ بأنَّ الضَّرورةَ دعتْ إلى ذلكَ حياطةً لحديثِه فيُقال له: هو مِثْلُ الَّذي غَلَبَ عليه الفِسْقُ فوجَبَ ذِكْرُ فِسْقِه تحذيرًا مِن حالِه، وهو مِن هذا البابِ. ومِثْلُه ممَّا لا اعتراضَ له فيه: ذِكْرُهُ صلعم للَّذي لم يعمَلْ حَسَنَةً قطُّ وهو مؤمنٌ فبذلكَ غُفِرَ له فَذَكَرَهُ بِقَبِيحِ عمله إذْ كان الغالبُ على عَمَلِه الشَّرَّ لكنَّه انتفعَ بخشيةِ الله تعالى.
          وهل يُشترَطُ أن يكونَ ثناؤهم مطابقًا لأفعالِه؟ فيه / احتمالان. وقال القُرْطُبيُّ: يحتمل أن يكونَ النَّهْيُ عن سبِّ الموتى متأخِّرًا عن هذا الحديثِ فيكونَ ناسخًا.
          ثالثُها: قال الدَّاوُدِيُّ: معنى هذا الحديثِ عندَ الفُقهاءِ: إذا أثنى عليهِ أهلُ الفضلِ والصِّدقِ لأَنَّ الفَسَقةَ قد يُثْنُونَ على الفاسِقِ فلا يدخلونَ في معنى هذا الحديثِ. والمرادُ والله أعلم إذا كان المُثْنِي بالشَّرِّ مِمَّن ليسَ لهُ بعَدُوٍّ؛ لأَنَّهُ قد يكونُ للرَّجُلِ الصَّالحِ العَدُوُّ فإذا ماتَ عدوُّهُ ذَكَرَ عندَ ذلكَ الرَّجلُ الصَّالحُ شرًّا، فلا يدخُلُ الميِّتُ في معنى هذا الحديثِ لأَنَّ شهادَتَه كانتْ لا تجوزُ عليه في الدُّنيا _وإن كان عَدْلًا_ للعداوةِ والبشرُ غيرُ معصومينَ.
          رابعُها: حديثُ أنسٍ لم يَشترِطْ في الَّذين أثنَوا عددًا مِن النَّاسِ لا يُجزئُ أقلُّ منهم بخلافِ حديثِ عمرَ، وأحال في ذلك صلعم ما يغلبُ على الرَّجُلِ بعدَ موتِه عندَ جُملةٍ مِنَ النَّاسِ مِن ثناءِ الخيرِ والشَّرِّ، وأَنَّهُ المحكومُ له به في الآخرةِ، وقد جاء بيانُ هذا في حديثٍ آخَرَ: ((إنَّ الله ╡ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَمَرَ الملائكَةَ أَنْ تُنَادِيَ في السَّمَاء: ألا إنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُجْعلُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا كَذَلِكَ)) فهذا معنى قولِه: (أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ) لأنَّ المحبَّةَ والبِغْضَةَ مِنْ عندِه تعالى، ويشهدُ لِصِحَّةِ هذا قولُه تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحبَّةً مِنِّي} [طه:39].
          فإنْ قلتَ: فهذا المعنى مخالفٌ لحديثِ عمرَ لأنَّهُ شَرَطَ فيهِ أربعةَ شُهداء أو ثلاثةً أو اثنين بخلافِ الأوَّلِ، قيل: ليسَ كَمَا توهَّمْتَ، وإِنَّمَا اختلفَ العددانِ لاختلاف المعْنَيَيْنِ؛ وذلك أنَّ الثَّنَاءَ قد يكونُ بالسَّمَاعِ المتَّصِلِ على الألسنةِ، فاستُحِبَّ في ذلك التَّواتُرُ والكثرةُ، والشَّهادةُ لا تكونُ إلَّا بالمعرفةِ والعلمِ بأحوالِ المشهودِ له فنابَ في ذلك أربعةُ شهداءَ، وذلك أعلى ما يكونُ مِن الشَّهَادَةِ لأنَّ الله تعالى جعل في الزِّنَا أربعةَ شُهَداء، فإنْ قصَّروا نَاب فيه ثلاثةٌ، فإنْ قصَّروا عن ذلك ناب فيه شاهدانِ وذلك أقلُّ ما يجزئ مِن الشَّهَادَةِ على سائرِ الحقوق رحمةً مِنَ الله لعبادهِ المؤمنينَ وتجاوزًا عنهم حينَ أجرى أمورَهم في الآخرةِ على ما أجراه في الدُّنْيَا وقَبِلَ شهادةَ رجلين مِن عبادِه المؤمنين بعضِهم على بعضٍ في أحكامِ الآخرةِ.
          وقال أبو سليمان: هذا مِن ظاهِرِ العلم الَّذي تقدَّمَ أَنَّهُ أِمارةٌ مُحيلَةٌ على الباطِن، وقال البَيهَقيُّ: فيه دِلالةٌ على جواز ذِكْرِ المرء بما يعلمُه إذا وقعتِ الحاجةُ إليه نحوُ سؤالِ القاضي المزكِّي ونحوَه.
          فائدةٌ: الثَّناءُ ممدودٌ يُستعملُ في الخير ولا يُستعمل في الشَّرِّ، وقيل يُستعمل فيهما، وأَمَّا النَّثَا _بتقديمِ النُّونِ وبالقصْرِ_ ففي الشَّرِّ خاصَّةً، وقد يُستعمَلُ في الخَيْرِ أيضًا، واستُعمل الثَّنَاءُ هنا بالمدِّ في الشَّرِّ بناءً على اللُّغَةِ الشَّاذَّةِ أو للتَّجانُسِ كقولِه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].