التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصبر عند الصدمة الأولى

          ░42▒ بَابُ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى.
          وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ العِدْلاَنِ، وَنِعْمَ العِلاَوَةُ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة:156-157] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
          1302- وذَكَرَ فيه حديثَ أَنَسٍ: (الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى).
          أمَّا حديثُ أنسٍ فسلفَ في الباب [خ¦1283] وأمَّا أثر عُمَرَ فأخرجه البَيْهَقِيُّ مِن حديثِ سعيد بن المسيِّب عنه.
          و(الْعِدْلَانِ) كما قال المهلَّبُ: الصَّلواتُ والرَّحمةُ، و(الْعِلَاوَةُ) {وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة:157] وقيل: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] والعِلَاوةُ: الَّتي يُثابُ عليها.
          وقال ابنُ التِّين عن أبي الحسَنِ: العِدلُ الواحدُ قولُ المصاب إنَّا لله... إلى آخرِها، والعِدْلُ الثَّاني الصَّلواتُ الَّتي عليهم مِن الله تعالى، والعِلاوةُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] وهو ثناءٌ مِن الله تعالى عليهم. وقال الدَّاوديُّ: إنَّما هو مَثَلٌ ضَرَبَهُ للجزاء، فالعِدْلانِ عِدْلا البعير أو الدَّابَّةِ، والعِلاوةُ الغَرارةُ الَّتي تُوضَعُ في وسط العِدلين مملوءةً، يقولُ: وكما حَمَلَتْ هذه الرَّاحلةُ وُسعَها فأنَّها لم يبقَ موضعٌ تحمِلُ عليه فكذلك أُعطِيْ هذا الأجر / وافرًا، فعلى قولِ الدَّاوديِّ يكونُ العِدلانِ والعِلَاوةُ {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} إلى {الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157].
          وقال صاحبُ «المطالع»: العِدْلُ هنا نصفُ الحِملِ على أحدِ شِقَّي الدَّابَّةِ، والحِملُ عِدلان، والعِلاوةُ ما جُعل فيهما، وقيل: ما عُلِّق على البعير، ضَرَبَ ذلك مثلًا لقولِه {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} قال: فالصَّلواتُ عِدلٌ والرحمة عِدلٌ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} العِلاوةُ.
          وأحسنُ ما جاء في التَّعزية حديثُ أمِّ سَلَمَة الثَّابتُ: ((مَن أصابته مصيبةٌ فقال كما أمره الله: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللَّهُمَّ أْجُرْني في مصيبتي وأَعقِبني خيرًا منها، إلَّا فعلَ الله به ذلك)) قالت أمُّ سَلَمَة: قلتُ ذلك عند موتِ أبي سَلَمَة، ثمَّ قلتُ في نفسي: فمن خيرٌ مِن أبي سَلَمَة؟ فأعْقَبَها اللهُ برسولِه صلعم، فتزوَّجَها. فيقولُ الْمُعَزِّي: آجركم اللهُ في مصيبتِكم وعوَّضكم خيرًا منها {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. ومعنى {إِنَّا لِلَّهِ} نحن وأموالُنا وعبيدُنا للهِ يبتلينا بما شاء، ونحنُ إليه نرجعُ فيجزينا على صبرِنا، وبيَّن ذلك بقولِه: {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} وهي الغفرانُ والثَّناءُ الحسنُ، ومنه الصَّلاةُ على الميِّتِ إنَّما هي الدُّعاء.
          (وَقَوْلُهٌ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:145]) في الصَّبرِ قولان: أحدُهما: الصَّومُ، قاله مجاهدٌ. والثَّاني: عن المعاصي {وَالصَّلَاةِ} أي عند المصائبِ كما قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّها الاستعانةُ بالصَّلاةِ عند المصائب. فكان إذا دَهَمَهُ أمرٌ صَلَّى. قال عليُّ: الصَّبرُ مِن الإيمانِ بمنزلةِ الرَّأسِ مِن الجسدِ.
          والضَّميرُ في قولِه: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:145] إمَّا عائدٌ إلى الصَّلاةِ أو إنْ فعلتُم ذلك. والخَاشِعُونَ المؤمنون حقًّا، والخشوعُ التَّواضعُ، والمؤمنُ حقًّا متواضعٌ.
          وإنَّما كان (الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى) لأنَّها أعظمُ حَرارةً وأشدُّ مَضاضةً، يريدُ الصَّبرَ المحمودَ عليه صاحبُه ما كان عند مفاجأةِ المصيبةِ لأنَّه يسلُو على مرِّ الأيَّامِ فيصيرُ الصَّبرُ طبْعًا، وقد قال بعضُ الحكماء: لا يُؤجر الإنسانُ على مصيبةٍ في نفْسٍ أو مالٍ لأجْلِ ذاتِها، فإنَّ ذلك طبعٌ لا صُنعَ له فيه، وقد يصيبُ الكافِرَ مثلُه فيصبرُ، وإنَّما يُؤْجَر على قَدْرِ نِيَّتِهِ واحتسابِه.
          فإن قلتَ: قد علمتُ أنَّ العبدَ منهيٌّ عن الهُجْرِ وتسخُّطِ قضاء الرَّبِّ في كلِّ حالٍ، فما وجهُ خصوصِ نزول النَّائبةِ بالصَّبر في حالِ حدوثِها؟ قيل: وجهُ خصوصِ ذلك أنَّ النَّفْسَ عندَ هجومِ الحادثةِ محرِّكٌ على الجَزَع ليس في غيرِها مِثْلُه، وبتلك يضعُف على ضبْطِ النَّفْس فيها كثيرٌ مِن النَّاس، بل يصير كلُّ جازعٍ بعدَ ذلكَ إلى السُلُوِّ ونسيانِ المصيبة، والأخذُ بقهر الصَّابرِ نفْسَه وغلبتِه هواها عند صدمتِه إيثارًا لأمر الله على هوى نفْسِه، ومُنجِزًا لموعودِه.
          بل السَّالي عن مصابِه لا يستحقُّ اسمَ الصَّبرِ على الحقيقةِ لأنَّه آثر السُلُوَّ على الجزعِ واختاره، وإنَّما الصَّابرُ على الحقيقةِ مَن صَبَرَ نفْسَهُ وحبَسَها عن شهوتِها وقهَرَها عن الحزنِ والجَزَعِ والبكاء الَّذي فيه راحةُ النَّفْسِ وإطفاءٌ لنار الحزن، فإذا قابَلَ سَوْرَةَ الحُزن وهجومَه بالصَّبرِ الجميلِ واسترجَعَ عند ذلك، وأشعَرَ نفْسَه أنَّه لله مِلْكٌ لا خروجَ له عن قضائِه وإليه راجعٌ بعد الموت، ويَلْقَى حُزنَه بذلكَ انقمعتْ نفسُه وذلَّتْ على الحقِّ فاستحقَّتْ جزيلَ الأجر.