التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اتباع النساء الجنائز

          ░29▒ بَابُ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ.
          1278- ذَكَرَ فيه حديثَ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: (نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا).
          هذا الحديثُ سلفَ في باب الطِّيبِ للمرأةِ عند غُسلِها مِن المحيض.
          ومعنى (وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا) أي لم يُوجَبْ ويُفرَضْ، أو لم يُشدَّدْ. وقال الدَّاوديُّ: يعني اتِّباعها إلى الكُدَى وهي القبور. قال: ولعلَّ قولَها: (وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا) أي أَلَّا نأتِيَ أهلَ الميِّتِ، وقد رُوي أنَّه صلعم رأى فاطمةَ في ممشاهُ، فسألَها: ((أين أردتِ؟)) فقالت: أتيتُ آلَ فُلانٍ أُعَزِّيهِم، فقال: ((لعلَّكِ بلغتِ معهم الكُدَى؟)) فقالت: معاذَ اللهِ وقد سمعتُ منكَ ما سمعتُ، قال: ((لو بلغتِ معهم الكُدَى ما رأيتِ الجنَّة حتَّى يراها جدُّ أبيكِ)) قال الحاكم فيه: حديثٌ صحيحٌ على شرْطِ الشَّيخينِ.
          وقولُ أمِّ عطيَّة دالٌّ لِقولِ ابنِ حبيبٍ: يُكرَه خروجُ النِّساءِ في الجنائز مِن غيرِ نَوحٍ وبكاءٍ في جنازة الخاصِّ مِن قرابَتِهنَّ، وغيرُه قال: ينبغي للإمامِ منعُهنَّ مِن ذلك؛ ففي الحديثِ: ((ارجِعْنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ)) وفي «المدوَّنة»: كان مالكٌ يوسِّعُ للنِّساءِ في الخروجِ إلى الجنائز، وقد خرجتْ أسماءُ تقودُ فرسًا للزُّبير وهي حاملٌ حتَّى عُوتِبَ في ذلك. فإنْ قلنا بإباحةِ ذلك فتخرُجُ الْمُتَجَالَّةُ على القريبِ وغيرِه، وتخرجُ الشَّابةُ على الولدِ والوالدِ والزَّوجِ والأخِ، ومَن لم يكن مثلهم فيُكرَهُ خروجُها لجنازته، وقد سلفَ في باب الأمرِ باتِّباع الجنائزِ شيءٌ ممَّا نحن فيه أيضًا.
          قال ابنُ المنذر: رُوِّينا عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عُمَرَ وأبي أُمامةَ وعائِشَةَ أنَّهم كرهوا للنِّساءِ اتِّباعَ الجنائزِ وكَرِهَ ذلك إبراهيمُ ومسروقٌ والنَّخَعيُّ والحسنُ ومحمَّدُ بن سِيرِينَ، وهو قولُ الأوزاعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ. وقال الثَّوريُّ: اتِّباعُ النِّساءِ بِدعةٌ، / وعن أبي حنيفةَ: لا ينبغي ذلك للنِّساء، ورُوي إجازةُ اتِّباعِ النِّساءِ الجنائزَ عن ابنِ عبَّاسٍ والقاسمِ وسالمٍ، وعن الزُّهريِّ وربيعةَ وأبي الزِّنَاد مثلُه، ورخَّص مالكٌ في ذلك وقال: قد خرج النِّساءُ قديمًا في الجنازةِ، وخرجتْ أسماءُ تقودُ فرسَ الزُّبيرِ وهي حاملٌ، ما أرى بخروجِهنَّ بأسًا إلَّا في الأمْرِ المستنكَرِ.
          وقد احتجَّ بعضُ مَن كَرِهَ ذلك بحديثِ البابِ ومَن أجازه أيضًا، وقال المهلَّبُ: هذا الحديثُ يدُلُّ على أنَّ النَّهْيَ مِن الشَّارعِ على درجاتٍ فمنه نَهْيُ تحريمٍ ونَهْيُ تنزيهٍ ونَهْيُ كراهةٍ، وقال القُرْطبيُّ: ظاهرُ الحديثِ التَّنزيهُ وإليه صار الجمهورُ وبه قال الشَّافعيُّ.
          وقال ابن حزمٍ: لا يُمَنعن مِن اتِّباعِها، وآثارُ النَّهْيِ عن ذلك ليست تصحُّ لأنَّها إمَّا عن مجهولٍ أو مرسلةٌ أو عمَّن لا يُحتجُّ به، وأشبهُ شيءٍ فيه حديثُ البابِ وهو غيرُ مسنَدٍ لأنَّا لا ندري مَن هو النَّاهي ولعلَّه بعضُ الصَّحابةِ، ثمَّ لو صحَّ مسنَدًا لم يكن فيه حُجَّةٌ بل كان يكون كراهةً فقط، وقد صحَّ خلافُه: رَوَى ابنُ أبي شيبةَ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ أنَّه صلعم كان في جنازةٍ فرأى عمرُ امرأةً فصاح بها، فقال له رسولُ الله صلعم: ((دعها يا عمرُ، فإنَّ العينَ دامعةٌ، والنفسَ مصابةٌ، والعهدَ قريبٌ)).
          قلتُ: أخرجه الحاكمُ وقال: صحيحٌ على شرطِ الشَّيخينِ، وليس بجيِّدٍ لأنَّه منقطعٌ كما بيَّنهُ البَيْهقيُّ، قلتُ: وفيه مجهولٌ، وإنَّما قالت أمُّ عطيَّةَ: (وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا) لأنَّها فهمتْ مِن الشَّارعِ أنَّ ذلكَ النَّهي إنَّما أراد به تَرْكَ ما كانت الجاهليَّةُ تقولُه مِن الهُجْرِ وزُورِ الكلامِ وقبيحِه ونِسْبَةِ الأفعالِ إلى الدَّهرِ، فهي إذا تركتْ ذلكَ وبدَّلتْ منه الدُّعاءَ والترحُّمَ عليه كان حقيقًا، فهذا يدلُّ أنَّ الأوامِرَ تحتاجُ إلى معرفةِ تلقِّي الصَّحابةِ لها ونَظَرِ كيف تلقَّوْها.
          تنبيه: ما أسلفناه عن ابن حزمٍ في دعواهُ أنَّ حديثَ أمِّ عَطِيَّةَ غيرُ مسندٍ ليس بجيِّدٍ منه، فقد أخرجه ابنُ شاهين مِن حديثِ خالدٍ الحذَّاء عن أمِّ الهُذَيل عن أمِّ عطيَّةَ قالت: ((نهانا رسولُ الله صلعم عن اتِّباع الجنائزِ ولم يَعزِم علينا)) ثمَّ قال: وقد رُوِيَ عن يزيدَ بن أبي حبيبٍ أنَّه ◙ حضرَ جنازةَ رجلٍ فلمَّا وُضعتْ ليُصَلِّيَ عليها أبصَرَ امرأةً فسأل عنها فقيل: هي أختُ الميِّتِ فقال لها: ((ارجعي)) فلم يُصَلِّ عليها حتَّى توارتْ، وقال لامرأةٍ أُخرى: ((ارجِعِي وإلَّا رَجَعْتُ)) وأحسنُ حالاتِ المرأةِ مع الجنازةِ أنَّها لا تُؤجرُ في حضورِها. وقال الحازميُّ: أمَّا اتِّباع الجنائزِ فلا رُخصةَ لهنَّ فيه.
          فَرْعٌ: انفردَ الشَّعْبيُّ فقال: لا تُصلِّي النِّساءُ على الجنازةِ، وما أبعدَه ولا خفاء في فِعلها وَحْدَهُنَّ، قال ابنُ القاسمِ: يُصَلِّين أفرادًا، وقال أشهبُ: تؤمُّهُنَّ واحدةٌ منهن، وعبارةُ ابنِ الحاجبِ: وإذا لم يكن إلَّا نساءٌ صلَّيْنَ أفرادًا على الأصحِّ واحدةً بعدَ واحدةٍ على الأصحِّ.