التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها

          ░68▒ بَابُ مَنْ أَحَبَّ الدَّفن فِي الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ وَنَحْوِهَا.
          1339- ذَكَرَ فيه حديثَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى ♂ فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقال: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ) الحديثَ. (فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُدنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ فِي جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ).
          هذا الحديثُ ذَكَرَهُ أيضًا في أحاديثِ الأنبياءِ [خ¦3407] وقال في آخِرِه: وأخبرنا مَعْمَرٌ عن همَّامٍ حدَّثَنا أبو هُريرة عن النَّبيِّ صلعم نحوَه. أي مِثْلَ ما ذَكَرَهُ سواءً، وفيه زيادةُ الرَّفْعِ الَّذي عابه به الإسماعيليُّ بقولِه: أوَّلُ هذا الحديثِ موقوفٌ، وهو ما خرَّجه مسلمٌ عن محمَّدِ بن رافعٍ حدَّثنا عبدُ الرَّزَّاق أخبرَنا مَعمَرٌ عن همَّامٍ قال: هذا ما حدَّثَنَا أبو هُريرة عن رسولِ الله صلعم: ((جاء مَلَكُ الموت)) الحديث، وفي بعضِ نُسَخِه: قال أبو إسحاق _يعني إبراهيمَ بن سفيان:_ حدَّثنا محمَّد بن يحيى حدَّثنا عبد الرَّزَّاق أخبرنا معمَرٌ بمثلِه، ووقعَ في الحُميديِّ أنَّ مسلمًا رواه مِنْ جِهَةِ همَّامٍ منفردًا به عن البُخاريِّ وصوابُه العكسُ.
          إذا تقرَّر ذلكَ فقدْ أنكرَ بعضُ أهلِ البِدَعِ والجَهْمِيَّةُ هذا الحديثَ كما قالَ ابن خُزَيمةَ، وقالوا: لا يخلو أنْ يكونَ موسى عَرفَ مَلَك الموتِ أو لمْ يعرِفْهُ، فإنْ كانَ عَرَفَهُ فقد استخفَّ به وإنْ كان لمْ يَعْرِفْهُ فرِوَايةُ مَنْ رَوَى أنَّه كان يأتي موسى عِيانًا لا معنى لها، ثُمَّ إنَّ الله تعالى لم يقتَصَّ لِمَلَكِ الموتِ مِنَ اللَّطمَةِ وَفَقْءِ العينِ، واللهُ تعالى لا يظلِمُ أحدًا.
          وهذا اعتراضُ مَنْ أعمَى اللهُ بصيرتَه، ومعنى الحديثِ صحيحٌ وذلكَ أنَّ موسى لم يَبْعَثِ اللهُ / إليه المَلَك وهو مريدٌ قبضَ روحِه حينئذٍ، وإنَّمَا بعثَهُ اختبارًا وابتلاءً كما أمَرَ اللهُ خليلَه بذبْحِ ولَدِهِ ولم يُرِدْ إمضاءَ ذلك، ولو أرادَ أن تُقبَضَ روحُ موسى حين لَطَمَ الملَك لكان ما أرادَ.
          وكانتِ اللَّطمَةُ مباحةً عندَ موسى إذْ رأى آدميًّا دخَل عليه ولا يعلَمُ أنَّه ملَكُ الموتِ، وقد أباحَ الشَّارِعُ فقْءَ عينِ النَّاظِرِ في دارِ المسلمِ مِنْ غيرِ إذنٍ، ومحالٌ أن يعلَمَ موسى أنَّه مَلَكُ الموتِ وَيَفقأُ عينَه، وقد جاءت الملائكةُ إلى إبراهيمَ فلمْ يعرفْهم ابتداءً ولو علِمَهُم لكان مِنَ المحالِ أن يقدِّم إليهم عِجْلًا لأنَّهم لا يَطعَمُون، وقد جاء الملَكُ إلى مَريمَ فلم تعرِفْهُ ولو عرفَتْهُ لما استعاذتْ منه، وقد دخلَ الملَكان على داودَ في شَبَهِ آدميَّين يختصمان عنده فلم يعرفْهُما، وقد جاءَ جبريلُ إلى سيِّدِنا رسولِ الله صلعم وسأَلَه عن الإيمانِ ولمْ يعرفْهُ، وقال: ((ما أتاني في صورةٍ قطُّ إلَّا عرفْتُهُ فيها غيرَ هذِه المرَّة)) فكيف يُسْتنكر ألَّا يعرِفَ موسى الملَكَ حين دخلَ عليه؟
          واعتُرِضَ على هذا بما في الحديثِ: (يا ربِّ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ المَوْتَ) فلو لمْ يعرِفْهُ موسى لما صحَّ هذا مِنَ الملَك.
          وأمَّا قولُ الجَهْمِيِّ: إنَّ الرَّبَّ تعالى لم يقتصَّ للمَلَك فهو دليلٌ على جهْلِهِ، ومَنْ أخبَرَهُ أنَّ بينَ الملائكةِ والآدَمِيِّين قِصاصًا؟ ومَنْ أخبرَهُ أنَّ ملَكَ الموتِ طلبَ القِصاصَ مِنْ موسى فلم يُقتصَّ له؟ وقد أخبر اللهُ تعال أنَّ موسى قَتلَ نَفْسًا ولم يُقتصَّ منه، وما الدَّليلُ على أنَّ ذلكَ كانَ عَمْدًا؟
          وقد أَخبرَ نبيُّنا صلعم أنَّ الله تعالى لم يقبِضْ نبيًّا حَتَّى يُريَه مَقعدَه مِنَ الجَنَّة ويخيِّرَه، فلَمْ يَرَ أنْ يقبِضَ روحَه قبل أن يُريَه مَقعدَه مِنَ الجَنَّة ويخيِّرَه، ويدلُّ على صحَّةِ هذا أنَّه لَمَّا رجعَ إليه ثانيًا استسلمَ. وقولُ مَنْ قال: فَقَأَ عيْنَهُ بالحُجَّةِ، ليسَ بشيءٍ لِمَا في الحديثِ: (فَرَدَّ اللهُ عَيْنَهُ) فإنْ قيلَ: رَدَّ حُجَّتَهُ فغيرُ جيِّدٍ أيضًا.
          وقال ابنُ قُتيبةَ في «مختلِفِه»: أَذْهَبَ مُوسى العينَ الَّتي هي تخييلٌ وتمثيلٌ وليستْ على حقيقَتِه، وعادَ ملَكُ الموتِ إلى حقيقَةِ خَلْقِهِ الرُّوحانيِّ كما كانَ لم يَنقُصْ منه شيءٌ، وذَكَرَ ابنُ عَقيلٍ أنَّه يجوزُ أن يكونَ موسى أُذِنَ له في ذلك الفعلِ بالملَكِ، وابتُلِيَ الملَكُ بالصَّبرِ عليه كما جَرَى له مع الخَضِرِ.
          وفي قولِه: (يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ يَدُهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ) دِلالةٌ أنَّ الدُّنيا بقِيَ منها كثيرٌ وإنْ كانَ قدْ ذهبَ أكثرُها، لأنَّه لم يكُنْ لِيَعِدَهُ ما لا تبقَى الدُّنيا إليه، وقيل: فيه الزِّيادةُ في العُمْرِ مِثْلُ الحديثِ الآخَرِ: ((مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبسَطَ لَه في رِزقِه ويُنسَأَ له في أَثَرِه فلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) وهو يؤيِّدُ قَوْلَ مَنْ قال في قولِه تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} الآية [فاطر:11] أنَّه زيادةٌ ونقصٌ في الحقيقةِ.
          وقولُه: (ثُمَّ مَاذَا؟) وفي روايةٍ: ((ثمَّ مَهْ؟)) وهي ما الاستفهاميةُ لَمَّا وَقَف عليها زادَ هاءَ السَّكْتِ.
          وقولُه: (قَالَ: فَالْآنَ) هو ظرفُ زمانٍ غيرُ متمكِّنٍ، وهو اسمٌ لزمانِ الحالِ، وهو الزَّمانُ الفاصلُ بينَ الماضي والمستقبَلِ، وهو يدُلُّ على أنَّ موسى لَمَّا خيَّرهُ اللهُ تعالى اختارَ الموتَ شوقًا إلى لقاءِ ربِّه تعالى كما خُيِّر نبيُّنا صلعم فقالَ: ((الرَّفيقَ الأعلَى)).
          وقولُه: (أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ) هي بيتُ المقدِسِ، وكان موتُه بالتِّيهِ، وسؤالُه الدُّنوَّ منه ولم يسأَلْ نَفْسَ البيتِ لأنَّه خافَ أن يكونَ قبرُه مشهورًا فيَفْتَتِنَ به النَّاسُ كما أخبَرَ الشَّارعُ أنَّ اليهود والنَّصارى اتَّخذُوا قُبورَ أنبيائِهم مساجدَ، وسؤالُه الدُّنوَّ منها لفضْلِ مَنْ دُفِنَ في الأرضِ المقدَّسةِ مِنَ الأنبياءِ والصَّالحينَ فاستَحبَّ مجاورَتَهُمْ في المماتِ كما في الحياةِ، ولأنَّ الفُضَلاءَ يقصِدُونَ المواضِعَ الفاضلةَ ويزُورونَ قبورَها ويَدْعُونَ لأهلِها.
          وقال المهلَّبُ: إنَّما سأل الدُّنُوَّ منها ليُسهِّلَ على نفْسِه ويُسقِطَ عنها المشقَّةَ الَّتي تكونُ على مَنْ هو بعيدٌ منها وصعوبتَه عندَ البعْثِ والحشرِ، ومعنى بُعدِه منها بِرَمْيَةِ حَجَرٍ ليُعَمَّى قبرُه كما سَلَفَ.
          وقوله: (فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ) هو اسمُ إشارةٍ وهو مفتوحُ الثَّاءِ، ولَمَّا عُرِجَ بنبيِّنا صلعم رأى مُوسى قائمًا يصلِّي في قَبْرِه، وذَكَرَ ابنُ حِبَّانَ في «صحيحِه» أنَّ قبْرَ مُوسَى بمَدْيَنَ بينَ المدينةِ وبينَ بيتِ المقدِسِ، واعتَرَضَ الضِّيَاءُ محمَّدُ بنُ عبدِ الواحدِ في كتابِه على أحاديثَ في هذا الصَّحيح فقال: قولُه بمَدْيَنَ فيه نظرٌ لأنَّ مَدْيَن ليست قريبةً مِنَ القُدْسِ ولا مِنَ الأرْضِ المقدَّسةِ، وقد اشتُهِرَ أنَّ قبرًا بأريحَا _وهي مِن الأرضِ المقدَّسة_ يُزارُ ويُقال إنَّه قبرُ مُوسى، وعندَه كثيبٌ أحمر _كما في الحديثِ_ وطريقٌ. وقد زُرناهُ وخَتَمْنَا به خَتمةً وقرأْنَا به جُزءًا في فضائلِه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.
          وقال ابنُ التِّيْنِ: قولُه: (أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ) يعني الشَّامَ، وتفسيرُ (المقَدَّسَةِ) المطهَّرة. قال: وقولُه: (عَلَى رَمْيَةِ حَجَرٍ) يحتمل أنْ يكون على قُربِها دُونَها قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ، أو مَحَلٍّ مِنْ طَرَفِها قَدْرَ ذلكَ، قيل: والأوَّلُ أشبَهُ أنَّه سَأَلَ أنْ يُقرَّبَ إليها ولو (رَمْيَةً بِحَجَرٍ) على وجْهِ الرَّغبةِ في القُربِ منها، قال: وإنَّما سألَهُ ذلك لأنَّه لم يُدفَنْ نبيٌّ إلَّا حيثُ قُبِضَ، وكلُّ هذا سَبَقَ في عِلْمِ الله كونُه.
          و(الْكَثِيبِ) الكُدْيَةُ مِنَ الرَّملِ.