التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الإذن بالجنازة

          ░5▒ بَابُ الإِذْنِ بِالجَنَازِةِ.
          وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَلَا آذَنْتُمُونِي).
          1247- ثمَّ ذَكَرَ حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَعُودُهُ، فَمَاتَ بِاللَّيلِ، فَدَفَنُوهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: (مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي؟) قَالُوا: كَانَ اللَّيلُ فَكَرِهْنَا، وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
          الشَّرح: أمَّا تعليقُ أبي رافعٍ فسلفَ مُسنَدًا في باب كَنسِ المسجد [خ¦458].
          وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ أخرجه مسلمٌ مختصرًا أنَّه ◙ صَلَّى على قبرٍ بعدما دُفِنَ فكبَّر عليه أربعًا، والبُخاريُّ أخرجه عن محمَّدٍ حدَّثَنا أبو معاويةَ، وأبو معاويةَ روى عنه المحمَّدان ابنُ المثنَّى وابنُ سَلَامٍ شيخا البُخاريِّ. ورُوي عن الشَّعْبيِّ مرَّةً فقال: بعد موتِه بثلاثٍ. ورُوِيَ: بعدما دُفِنَ بليلتين. ورُوي: بعدَ شهرٍ، قال الدَّارَقُطنيُّ: تفرَّد بهذا بِشرُ بن آدمَ وخالفه غيرُه فقال: بعدما دُفِنَ.
          أمَّا فقه الباب: ففيه الإذنُ بالجنازة والإعلامُ به وقد سلف ما فيه في الباب قَبْلَه، وهو سنَّةٌ بخلافِ قولِ مَن كَرِهَ ذلك كما سلف، ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه كان إذا ماتَ له ميِّتٌ تحيَّنَ غفلةَ النَّاسِ ثمَّ خرج بجنازتِه، والحُجَّةُ في السُّنَّةِ لا فيما خالفها، وقد رُوي عن ابن عُمَرَ في ذلك ما يوافقُ السُّنَّةَ وذلك أنَّه نُعِيَ له رافعُ بنُ خَدِيجٍ، قال: كيف تريدون أن تصنَعُوا به؟ قالوا: نحبسُهُ حتَّى نرسِلَ إلى قُباءٍ وإلى قُرى حولَ المدينة فليشهدوا، قال: نِعْمَ ما رأيتم. وكان أبو هُرَيْرَةَ يمرُّ بالمجالِسِ فيقول: إنَّ أخاكم قد ماتَ فاشهدوا جنازتَه.
          وصلاتُه ◙ على هذا الفتى لأنَّه كان يخدُمُ المسجدَ، وقد رَوَى أبو هُرَيْرَةَ في هذا الحديثِ أنَّ رجُلًا أسودَ _أو امرأةً سوداءَ_ كان يكون في المسجدِ يقمُّه فمات. وروى مالكٌ عن ابن شهابٍ عن أبي أُمامةَ بن سهل / بن حنيفٍ أنَّ مِسكينةً مرضت فأُخبِرَ رسولُ الله صلعم بمرضِها _وكان صلعم يعودُ المساكين_ فقال: ((إذا ماتت فآذِنُوني)) فخُرِج بجنازتها ليلًا... وذكر الحديث. فإنَّما صَلَّى على القبرِ لأنَّه كان وَعَدَ ليُصَلِّي عليه لِيكرمَه بذلك لإكرامِهِ بيتَ الله ليحتمل المسلمون مِن تنزيهِ المساجدِ ما ينالون به هذه الفضيلةَ.
          وسيأتي اختلافُ العلماء في الصَّلاةِ على القبر بعدما يُدفَنُ في بابِه، ومشهورُ مذهبِ مالكٍ أنَّه لا يُصَلَّى على القبرِ، فإنْ دُفِن بغيرِ صلاةٍ فقولان، وعلى النَّفي أقوالٌ ثالثُها: يُخرَجُ ما لم يَطُلْ.
          والخروجُ بالجنازةِ ليلًا جائزٌ والأفضلُ نهارًا لانتفاءِ المشقَّةِ وكثرة المصلِّين، فإنْ كان لضرورةٍ فلا بأس، رواه عليٌّ عن مالكٍ. وكراهتُهم المشقَّةَ عليه مِن باب تعظيمِه وإكرامِه، مع أنَّه كان لا يوقَظُ مِن نومِه لأنَّهم كانوا لا يدرون ما يحدُثُ له في نومِه. وفيه تعجيلُ الجنازةِ فإنَّهم ظنُّوا أنَّ ذلك آكدُ مِن إيذانه.
          وقولُه: (فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ) ظاهرٌ في الصَّلاةِ عليه، وقد سلف ما فيه عن مشهورِ مذهبِ مالكٍ كما نقله ابن الحاجب، وقال ابنُ التِّين: جمهورُ أصحابِهم على الجواز خلافًا لأشهبَ وسُحنُون فإنَّهما قالا: إنْ نَسِيَ أنْ يُصَلِّيَ على الميتِ فلا يُصَلِّي على قبرِه ولْيَدْعُ له. قال سُحنُون: ولا أجعله ذريعةً إلى الصَّلاةِ على القبور.
          قال ابنُ القاسم: وسائرُ أصحابِنا يُصَلِّي على القبرِ إذا فاتت الصَّلاةُ على الميِّت، فأمَّا إذا لم تَفُتْ وكان قد صُلِّيَ عليه فلا يُصَلِّي عليه، وقال ابنُ وهبٍ عن مالكٍ: ذلك جائزٌ، وبه قال الشَّافعيُّ وعبدُ الله بن وهبٍ صاحبُ مالكٍ وابنُ عبدِ الحكَمِ وأحمدُ وإسحاقُ وداودُ وسائرُ أصحابِ الحديث.
          قال أحمدُ بنُ حنبل: رُوِيَ الصَّلاةُ على القبرِ عن النَّبيِّ صلعم مِن ستَّةِ وجوهٍ كلُّها حِسَانٌ. قال أبو عُمَر: وقد ذكرْنا مِن ثلاثةِ أوجُهٍ حِسانٍ أيضًا لتتمة تسعةٍ، وزاد بعضُ شيوخِنا سبعةً أُخَر. وكرِهَها النَّخَعيُّ والحسنُ وهو قولُ أبي حنيفةَ والثَّوريِّ والأوزاعيِّ والحسنِ بن حيٍّ والليثِ بن سعدٍ. قال ابن القاسم: قلت لمالكٍ: فالحديثُ الَّذي جاء في الصَّلاة عليه. قال: قد جاءَ وليس عليه العملُ. قلتُ: وبعضُهم أجاب بالخصوصيَّةِ بأنَّ صلاته عليهم نورٌ كما صحَّ، وبأنَّه الوليُّ فلا تسقطُ بصلاةِ غيرِه، وهو قولُ جماعةٍ منهم، ومنهم مَن قال: تسقطُ ولا تُعاد.
          قال أبو عُمَرَ: وأجمع مَن رأى الصَّلاةَ على القبر أنَّه لا يُصَلَّى عليه إلا بِقُرْبِ ما يُدفن، وأكثرُ ما قالوا في ذلك شهرٌ، وقال أبو حنيفةَ: لا يُصَلَّى على قبرٍ مرَّتين إلَّا أن يكونَ الَّذي صَلَّى عليها غير وليِّها فيعيد وليُّها الصَّلاة عليها إن كانت لم تُدفَن، فإن دُفنت أعادها على القبرِ.