التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من النياحة على الميت

          ░33▒ بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى المَيِّتِ.
          وَقَالَ عُمَرُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ.
          وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ.
          1291- 1292- وذَكَرَ فيه حديثَ المُغِيرَةِ: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وَ(مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ).
          وحديثَ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ: (المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ). تَابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيعٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حدَّثَنا قَتَادةُ. وقال آدمُ، عن شُعْبَةَ: (المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ).
          الشَّرح: أمَّا تعليقُ عُمَرَ فأسندهُ البيْهَقِيُّ مِن حديثِ الأعمشِ عن شَقِيقٍ قال: لَمَّا ماتَ خالدُ بن الوليد اجتمع نِسوةٌ مِن آلِ المغيرةِ يبكينَ عليه، فقيل لعُمَرَ: أرْسِلْ إليهنَّ فانْهَهُنَّ، فقال عُمَرُ: ما عليهِنَّ أنْ يُهْرِقْنَ دُمُوعَهنَّ على أبي سُلَيمانَ ما لم يكنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ.
          وأما قولُه: (وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ) فهو أحدُ الأقوالِ فيه، وقال ابنُ فارسٍ: النَّقْعُ الصُّراخُ، ويُقال هو النَّقِيعُ، والنَّقْعُ الغُبَارُ، وقال الهرويُّ: إنَّه رفْعُ الصَّوتِ. (وَاللَّقْلَقةُ) كأنَّها حكايةُ الأصواتِ إذا كثُرتْ. قال شِمْرٌ في قولِه: (مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ وَلَا لَقْلَقَةٌ) أي شقُّ الجُيوبِ، وقال الإسماعيليُّ: النَّقْعُ هنا الصَّوتُ العالي، واللَّقْلَقَةُ حكايةُ ترديدِ النَّوَّاحَةِ. وقال صاحبُ «المطالع»: النَّقْعُ الصَّوتُ بالبكاء، قال: وبهذا فسَّره البُخاريُّ. وهو غريبٌ فالَّذي فسَّرَهُ ما قدَّمناهُ عنه.
          وقال الأزهريُّ: هو صوتُ لَدْمِ الخُدودِ إذا ضُرِبَتْ. وقال في «المحكم»: إنَّه الصُّراخُ، ويُقال هو النَّقيع. وقيل: هو وَضْعَهُنَّ على رؤوسِهِن النَّقْعَ وهو الغُبارُ. وهو موافقٌ لتفسيرِ البُخاريِّ. وقال الكِسائيُّ: هو صنْعَةُ الطَّعامِ في المآتم. قال أبو عُبَيدٍ: النَّقيعَةُ طعامُ القُدومِ مِن السَّفَرِ لا هذا. وقال الجوهريُّ: النَّقِيعُ الصُّراخُ. ونَقَعَ الصَّوتُ واستنقعَ أي ارتفعَ. وفي «الموعَب»: نَقَعَ الصَّارِخُ بصوتِه وأنقَعَ إذا تابَعَهُ. وفي «الموعَب» و«الجمهرة» أنَّه الصَّوتُ واختلاطُه في حربٍ أو غيرِها. فتحصَّلنا على ثلاثةِ أقوالٍ فيه.
          وأما قولُه: (وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ) فهو كما قال، وقد أسلفْنَا كلامَ الهرويِّ فيه وكذا كلامَ الإسماعيليِّ. وقال القزَّاز: هي تتابُعُ الصَّوتُ كما تفعلُ النِّساءُ في المآتمِ وهو شِدَّةُ الصَّوتِ. وقال ابنُ سِيْدَه عن ابنِ الأعرابيِّ: تقطيعُ الصَّوتِ، وقيلَ الجَلَبةُ.
          قال الدَّاوديُّ: لَمَّا قال عمرُ: دَعْهُنَّ يبكينَ على أبي سُلَيْمانَ _يعني خالدًا_ قال له طلحةُ: أمَّا الآنَ تقولُ هذا! وأمَّا في حياتِه فبِعْتَهُ بالرَّسَنِ، وما مَثَلُكَ ومَثَلُه إلَّا كما قالَ الأوَّلُ:
لَأُلْفِيَنَّكَ بَعْدَ المَوْتِ تَنْدُبُنِي                     وَفِي حَيَاتِيَ مَا زَوَّدْتَنِي زَادَا
          وذلك أنَّ عُمَرَ حين قَتَلَ خالدٌ قومًا ممَّن كان ارتدَّ ثمَّ تابَ ولم يَرَ أنَّ توبتَه تنفعُه فأراد عُمَرُ أبا بكرٍ على أنْ يُقِيدَ منه فأبى عليه، فلمَّا أكثر عليه قال له: ليس ذلك عليك منه، تأوَّلَ فأخطأَ، وودَاهُم أبو بكرٍ. فأرادَ عمرُ أبا بكرٍ على عَزْلِ خالدٍ مِن الشَّامِ وقال له: إنَّه جَعَل يُعطِي المالَ ذا الشَّرفِ وذا البلاءِ فاكتُبْ إليه ألَّا يُنْفِق درهمًا إلَّا بإذنك، فقال أبو بكرٍ: ما كنتُ لأفعلَ ذلك به وهو بإزاءِ العَدُوِّ، فلم يزل به عمرُ حتَّى كتبَ إليه بذلك، فكتب إليه: ما أُطِيق ذلك وأنا بإزاء العدُوِّ فجِئْ على عملِك بمَن بدا لك، فقال أبو بكرٍ: مَن يعذُرُني مِن عُمَرَ؟ مَن يقوم لي مقام خالدٍ؟ فقال عمر: أنا، ولا أُنفِقُ مِن المالِ درهمًا إلَّا بإذنكَ فأمرَهُ بالخروج، فلمَّا فَرَغَ مِن جهازِه قال بعضُ مَن لا ينفس على عُمَرَ: عمدْتَ إلى رجُلٍ كَفاكَ أكثرَ أمرِكَ تُغيِّبه عن وجهك! فقال: صدقتَ، قل له: أقِمْ فقد بدا لنا، فقال: سمعٌ وطاعة. فلم يلبثْ أن تُوفِّي أبو بكرٍ فقال عمرُ: كذبتُ اللهَ إنْ أشرتُ على أبي بكرٍ برأيٍ أخالفُه / فكتبَ إلى خالدٍ: أَلَّا تنفقْ مِن المالِ إلَّا بإذني، فكتبَ إليه لا أطيقُ ذلك وأنا بإزاءِ العدُوِّ فجَئْ على عملِك بمَن بدا لك. فعزَلَهُ وأمَّرَ أبا عُبَيدةَ مكانَه.
          فإنْ قلتَ: نَهَى عُمَرُ صُهَيبًا عن بكائِه عليه فيما مضى وهنا لم ينهَ عنه. قلتُ: لأنَّ صُهَيبًا بَكَى عُمَرَ بِنَدْبٍ وصياحٍ فقال: وَاصَاحِبَاهُ وا أَخَاهُ، فنهاه لأجْلِ ذلك.
          وحديثُ المغيرة: (مَنْ نِيحَ عَلَيهِ...) إلى آخرِه أخرجه مسلمٌ بزيادةٍ عن عليِّ بن ربيعةَ قال: أوَّلُ مَن نيحَ عليه بالكوفةِ قَرَظَةُ بن كعبٍ، فقال المغيرة بن شُعْبَةَ: سمعتُ رسولَ الله صلعم فَذَكَرَهُ. وحديثُ عُمَرَ أخرجه مسلمٌ أيضًا.
          أمَّا حُكمُ الباب فالنَّوْحُ حرامٌ بالإجماعِ لأنَّه جاهليٌّ وكان صلعم يَشترِط على النِّساء في مبايعتِهنَّ على الإسلام ألَّا يَنُحْنَ.
          وفي البابِ عن أربعةَ عَشَرَ صحابيًّا في لَعْنِ فاعلِه والوعيدِ والتبرُّؤ: ابنِ مسعودٍ وأبي موسى وأمِّ عطيَّة وعبد الله بن مَعْقلِ بن مُقَرِّن وأبي مالكٍ الأشعريِّ وأبي هُرَيْرَةَ وأمِّ سَلَمَة وابنِ عبَّاسٍ ومعاويةَ وأبي سعيدٍ وأبي أُمَامةَ وعليٍّ وجابرٍ وقيسِ بن عاصمٍ وجُنَادةَ بنِ مالكٍ.
          وأمَّا حديثُ: يا رسول الله، إلَّا آلَ فلانٍ فإنَّهم كانوا أسعدوني في الجاهليَّةِ فلا بُدَّ لي أن أُسعِدَهم فقال: ((إلَّا آل فلانٍ)) فجوابُه إمَّا الخصوصيةُ بها، أو كان قبل تحريمِها وهو فاسدٌ، أو يكونُ قولُه: ((إلَّا آل فلانٍ)) إعادةً لكلامِها على وجهِ الإنكار. والبابُ دالٌّ على أنَّ النَّهيَ عن البكاءِ على الميِّتِ إنَّما هو إذا كان فيه نَوْحٌ، وأنَّه جائزٌ بدونِه، فقد أباحَ عمرُ لهنَّ البكاءَ بدونِهِ.
          وشَرَط الشَّارعُ في حديثِ المغيرة أنَّه يُعذَّبُ بما نِيح عليه فَدَلَّ أنَّ البكاءَ بدونِه لا عذاب فيه، وحديثُ جابرٍ الآتي في البابِ بعدَه دالٌّ له لأنَّ زوجتَه بكتْ عليه بحضْرَتِه، ولم يزِدْ على أكثر مِن تسليتِها بقولِه: ((إنَّ الملائكةَ تُظِلُّهُ بأجنحتِها حتَّى رُفع)) فسلَّاها عن حزنِها عليه بكرامةِ الله تعالى له، ولم يقل لها: إنَّه يُعذَّب ببكائِكِ عليه.
          وحديثُ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا...) إلى آخرِه سلفَ أوَّلَ الكتاب بشرْحِه مبسوطًا [خ¦110] والكذبُ حقيقةً الإخبارُ بالشَّيءِ على ما ليس هو به، وشرطت المعتزلةُ فيه العَمْدِيَّة، والخطابُ دالٌّ على أنَّ مِن الكذِبِ ما لم يتعمَّدْهُ قائلُه ويقعُ عليه اسمُ كاذِبٍ، فهو ردٌّ عليهم.