التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد

          ░60▒ بَابُ الصَّلاَةِ عَلَى الجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالمَسْجِدِ.
          1327- 1328- ذَكَرَ فيه حديثَ أبي هُريرةَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم النَّجَاشِيَّ اليَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ)
          وَعَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا).
          1329- وعن ابن عمرَ: (أَنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إِلَى النَّبِيِّ _صلعم_ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا، فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ).
          الشَّرح: حديثُ النَّجاشيِّ سَلَفَ [خ¦1245] وحديثُ ابنِ عمرَ يأتي في موضعِه إنْ شاء الله [خ¦3635] وإنَّما ذَكَرَ المسجدَ في التَّرجمةِ لاتِّصاله بمصلَّى الجنائز، قال ابنُ حَبيبٍ: إذا كان مصلَّى الجنائزِ قريبًا مِنَ المسجدِ أو لاصِقًا به _مثل مصلَّى الجنائزِ بالمدينةِ فإنَّه لاصقٌ بالمسجدِ مِنْ ناحِيةِ الشَّرْقِ_ فلا بأسَ بوضْعِ الجنائزِ في المصلَّى خارجًا مِنَ المسجِدِ، وتمتدُّ الصُّفوفُ بالنَّاس في المسجد كذلك، قال مالكٌ: فلا يعجبني أنْ يُصلَّى على أَحَدٍ في المسجدِ. وهو قولُ ابنِ أبي ذئبٍ وأبي حَنِيفةَ وأصحابِه ورُوي مثلُه عن ابن عبَّاسٍ. /
          قال ابنُ حَبيبٍ: ولو فَعَلَ ذلك فاعلٌ ما كان ضيِّقًا ولا مكروهًا فقد صلَّى رسول الله صلعم على سُهَيل بن بَيْضاء في المسجدِ، وصلَّى صُهَيبٌ على عمرَ في المسجدِ، وأخرجه مالكٌ وغيرُه، وهو قولُ عائشةَ.
          وقال ابنُ المُنْذِر: صُلِّيَ على أبي بكرٍ وعمرَ في المسجدِ، وأسندهُ ابنُ أبي شَيبةَ عنهما وقال: تجاهَ المِنْبرِ. وأجاز الصَّلاةَ في المسجدِ الشَّافِعِيُّ مِن غيرِ كراهةٍ بل استحبَّها به كما صرَّح به الماوَرْديُّ وغيرُه، وحكاه ابنُ المُنْذِر عن أبي بكرٍ وعمرَ وسائرِ أمَّهاتِ المؤمنينَ وأحمدَ وإسحاقَ وبعضِ أصحاب مالكٍ. قال إسماعيلُ بن إسحاقَ: لا بأس بالصَّلاة عليها فيه إن احتيجَ إلى ذلك، وقال إسماعيلُ المتكلِّم فيما ذكره ابنُ حَزْمٍ: الصَّلاةُ عليه فيه مكروهةٌ كراهَةَ تحريمٍ.
          وحديثُ صلاتِه على سُهَيلٍ حُجَّةٌ للشَّافِعِيِّ والحديثُ أخرجه مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي النَّضْر عن أبي سَلَمةَ عن عائشةَ لَمَّا توفِّي سعدُ بن أبي وقَّاصٍ وطلبتْ دخولَه المسجدَ فأنكروا ذلك عليها، فقالت: ((واللهِ لقدْ صلَّى رسولُ اللهِ صلعم على ابنَي بيضاءَ في المسجد)) وفي لفظٍ: ((سَهلٍ وسُهيلٍ)).
          نعمْ في الحديثِ علَّةٌ لأنَّ الواقِديَّ ذَكَرَ أنَّ سهلًا ماتَ بعدَ رسولِ الله صلعم والَّذي ماتَ في أيَّامِه سُهيلٌ سنَةَ تِسعٍ، ولابن الجَوزيِّ: سهيلٌ وصفوان، وهو وهمٌ لأنَّ صفوانَ قُتِلَ ببدرٍ ولم يمتْ بالمدينةِ. وأولاد بيضاءَ ثلاثةٌ لا رابع لهم، وقد نبَّه على ذلك عبدُ الغنيِّ في «أوهام كتاب الصَّحابة» وقال: لا نعلم قائلًا بأنَّ صفوان صلَّى عليه رسول الله _صلعم_ مع أخيه سُهيلٍ.
          وأعلَّه الدَّارَقُطْنيُّ بوجهٍ آخرَ حيث قال في «تتبُّعه»: رواه مسلمٌ مِنْ حديث أبي فُدَيكٍ عن الضَّحَّاكِ عن أبي النَّضْرِ عن أبي سَلَمةَ عن عائشةَ، وقد خالفَ الضَّحَّاكَ بنَ عثمانَ حافظان: مالكٌ والماجِشُونُ فرَوَياه عن أبي النَّضْرِ عن عائشةَ مرسَلًا، وقيل: عن الضَّحَّاك عن أبي النَّضْرِ عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ ولا يصحُّ إلَّا مرسَلًا. ولكَ أن تقولَ: الضَّحَّاكُ ثقةٌ وقد زادَ الوصْلَ فقُدِّمَ.
          وادَّعَى ابنُ سُحْنُون أنَّ حديثَ النَّجاشيِّ ناسخٌ لحديثِ سُهيلٍ مع انقطاعِه، كذا قال.
          وقال ابنُ العربيِّ: ثبَتَ أنَّ رسولَ الله صلعم صلَّى على الميِّت في المسجدِ، وله صورتانِ: إحداهُما أنْ يُدْخِلَ الميِّتَ في المسجدِ، وكَرِهَهُ علماؤنا لئلَّا يَخرُجَ مِنَ الميِّتِ شيءٌ، وتعريضُ المساجِدِ للنَّجاساتِ لا معنى له. والحديثُ محتمِلٌ لأن يكون حرفُ الجرِّ متعلِّقًا بفِعْلِ ((صَلَّى)) أو باسم فاعلٍ مضمَرٍ، والأَوْلى الأوَّلُ فيكونُ ◙ في المسجدِ والميِّتُ خارجَه وهذا لا بدَّ منه، وإنَّما أَذِنتْ عائشةُ بمرورِ الميِّتِ فيه لأنَّها أَمِنَتْ أنْ يخرُجَ منه شيءٌ لقُرْبِ مُدَّةِ المرور، وكان صلاةُ النَّاسِ على عمرَ كصلاتِه صلعم على سُهيلٍ، كذا قالَ لكنَّ روايةَ ابنِ أبي شَيبةَ: تجاه المنبر. تَرُدُّه. وزعم صاحبُ «المبسوط» أنَّه صلعم كان ذلكَ الوقت معتكفًا فلم يُمكنْهُ الخروجُ فوُضعتْ خارجَه فصلَّى عليه، وَعَلِمَ ذلكَ الصَّحابةُ لبُروزِهم وخَفي على عائشةَ.
          وأمَّا حديثُ أبي هُريرةَ مرفوعًا: ((مَنْ صلَّى على جِنازةٍ في المسجدِ فلا شيءَ له)) أخرجه أبو داودَ، فعنه أجوبةٌ:
          أحدُها: ضَعْفُه كما نصَّ عليه أحمدُ وغيرُه، بل قال ابنُ حِبَّانَ: إنَّه خبرٌ باطلٌ على رسولِ الله صلعم، وكيفَ يُخبِرُ المصطفى بذلك ويصلِّي على سُهيلٍ فيه!؟
          ثانِيها: أنَّ الَّذي في الأصولِ المعتَمَدةِ: ((فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)) ولا إشكالَ إذنْ، ولفظُ ابنِ ماجَهْ: ((فليسَ عليه شيءٌ)) وفي لفظٍ: ((فلا أجْرَ له)) قالَ عبدُ الحقِّ: والصَّحيحُ روايةُ: ((لا شيءَ له)).
          ثالثُها: على تقديرِ صِحَّته يُؤوَّل ((له)) بمعنى عليهِ، كقولِه تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7].
          رابعُها: أنَّه محمولٌ على نقصانِ أجْرِه إذا لم يتَّبعْها للدَّفن.
          خامسُها: نسْخُه بحديثِ سُهيلٍ، قاله ابنُ شاهينٍ وعَكَسَ ذلك الطَّحاويُّ وقد سَلَفَ، نعمْ لو ظهرتْ أَماراتُ التَّلويثِ مِن انتفاخٍ وشبهِه لم يُدخَل المسجدَ.
          قال أبو عمرَ: والصَّلاةُ في المسجِدِ قَوْلُ جُمهورِ أهلِ العلم وهي السُّنَّةُ المعمولُ بها في الخَليفتَيْنِ، وما أعلمُ مَن يَكرهُ ذلك إلَّا ابن أبي ذئبٍ، ورُوِيَت كراهةُ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ مِنْ وجهٍ لا يثبُتُ ولا يَصحُّ، وبعضُ أصحابِ مَالكٍ رواه عنه، وقد رُوي عنه جوازُ ذلك مِنْ روايةِ أهلِ المدينةِ، وقد قال في المعتكِفِ: لا يخْرُج إلى جِنازةٍ فإن اتَّصلت الصُّفوفُ به في المسجدِ فلا بأسَ أن يصلِّيَ عليها مع النَّاسِ.
          فَرْعٌ: في «الأوسط» للطَّبرانيِّ مِنْ حديثِ أَنسٍ ((أنَّ رسولَ الله صلعم نَهى أن يُصلَّى على الجنائزِ بينَ القبورِ)).
          وأمَّا حديثُ ابنِ عمرَ فسيأتي إن شاء الله في التَّفسيرِ في حكمِ اليهودِ إذا ترافعُوا إلينا [خ¦4556].
          وقولُه فيه: (فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ) يدلُّ على أنَّه كان للجنائزِ موضعٌ معروفٌ.