التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه

          ░4▒ بابُ الرَّجُلِ يَنْعَى إلى أَهْلِ الميِّتِ بِنَفْسِهِ.
          1245- ذَكَرَ فيه حديثَ أبي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ) الحديث.
          1246- وحديثَ أَنَسٍ أنَّه ◙ قَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ) الحديث.
          الشَّرح: قال المهلَّبُ: هذا صوابُ التَّرجمةِ: بابُ الرَّجلِ يَنْعَى إلى النَّاسِ الميِّتَ بنَفْسِه. وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ أخرجه مسلمٌ والأربعةُ، وحديثُ أَنَسٍ مِن أفرادِه ويأتي في الجهاد [خ¦2798] وعلاماتِ النُّبوَّة [خ¦3630] وفضلِ خالدٍ في المغازي [خ¦4262].
          والنَّعْيُ الإخبارُ، ولا بأس بالإعلامِ به للصَّلاةِ وغيرِها لهذينِ الحديثين، والحديثُ الآتي في الَّذي توفِّيَ ليلًا: ((مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي)) بخلافِ نَعْيِ الجاهليَّةِ فإنَّه مكروهٌ وهو النِّداءُ بِذِكْرِ مفاخرِه ومآثرِه، وكان الشَّريفُ إذا مات أو قُتل بعثوا راكبًا إلى القبائلِ ينعاه إليهم، وعليه يُحمل ما رواه ابنُ ماجه والتِّرمذيُّ مِن حديثِ حُذيفةَ قال: إذا متُّ فلا تؤذِنوا بي أحدًا إنِّي أخاف أنْ يكون نعيًا؛ فإنِّي ((سمعتُ رسولَ الله صلعم ينهى عن النَّعْيِ)) استغربه التِّرمذيُّ. وقال به الرَّبيع بن خُثَيم وابن مسعودٍ وعلقمة.
          وهذا التفصيل هو الصَّوابُ الَّذي تقتضيه الأحاديثُ الصَّحيحةُ، وحديثُ النَّجاشيِّ أصحُّ مِن حديثِ حُذَيفةَ. وقال صاحبُ «البيان» مِن أصحابِنا: يُكرَهُ نَعْيُ الميِّتِ وهو أن يُنادَى في النَّاسِ أنَّ فلانًا / قد ماتَ ليشهدوا جنازته، وفي وجهٍ حكاه الصَّيدلانيُّ لا يُكره، وفي «حلية» الرُّوْيَانِيِّ مِن أصحابِنا: الاختيارُ أن يُنادَى به ليكثُرَ المصلُّون.
          وقال الماورديُّ: اختلف أصحابُنا هل يُسَتحبُّ الإيذانُ للميِّتِ وإشاعةُ موتِه في النَّاسِ بالنِّداءِ عليه والإعلام؟ فاستحبَّه بعضُهم لكثرَةِ المصلِّينَ والدَّاعين له، وقال بعضُهم: لا يُسَتحبُّ ذلك، وقال بعضهم: يُسَتحبُّ ذلك للغريبِ دونَ غيرِه، وبه قالَ ابنُ عُمَرَ، وجزمَ البَغَويُّ وغيرُه _مِن أصحابِنا_ بكراهةِ النَّعْيِ والنِّداءِ عليه للصَّلاةِ وغيرِها. وقال ابنُ الصَّبَّاغ: قال أصحابُنا: يُكره النِّداءُ عليه ولا بأسَ أنْ يُعرَّف أصدقاؤه، وبه قال أحمد.
          وقال أبو حنيفةَ: لا بأس به، ونقلَهُ العَبْدَرِيُّ عن مالكٍ أيضًا، ونقلَ ابنُ التِّينِ عن مالكٍ كراهةَ الإنذارِ بالجنائزِ على أبوابِ المساجدِ والأسواقِ لأنَّه مِن النَّعْي، قال عَلقمةُ بن قيسٍ: الإنذارُ بالجنائزِ مِن النَّعْيِ وهو مِن أَمْرِ الجاهليَّةِ. وقال البيهقيُّ: ويُروى النَّهيُ أيضًا عن ابنِ عُمَرَ وأبي سعيدٍ وسعيدِ بن المسيِّب وعَلقمةَ وإبراهيمَ النَّخَعيِّ والرَّبيعِ بن خُثَيم. قلتُ: وأبي وائلٍ وأبي مَيْسَرةَ وعليِّ بن الحُسينِ وسُويدِ بن غَفَلَةَ ومُطَرِّفِ بن عبدِ الله ونَصْرِ بن عِمْرَانَ _أبي جَمْرَةَ_ كما حكاهُ عنهم في «المصنَّف».
          و(النَّجَاشيُّ) مَلِكُ الحبشةِ واسمُه أَصْحَمةُ _كما سيأتي في البُخاريِّ_ [خ¦1334] [خ¦3878] [خ¦3879] بنُ أَبْجَر، وجاءَ: صحمة بتقديم الحاء على الميم، وعكسِه، وقيل بالخاءِ المعجمةِ. وقال مقاتلٌ في «نوادره»: اسمه مَكْحُول بن صِصَّة. ووقعَ في «صحيح مسلمٍ»: ((كتبَ رسولُ الله صلعم إلى النَّجاشيِّ، وهو غيرُ النَّجاشيِّ الَّذي صَلَّى عليه)) ولعله عبَّرَ ببعضِ مُلوكِ الحبَشَةِ عن الملِكِ الكبير _ويُسمَّى الأَمْحَرِيَّ_ أو لآخَرَ قام مُقامَهُ بعدَهُ؛ فإنَّه اسمٌ لكلِّ مَن مَلَكَ الحبشةَ وقد تقدَّم.
          وفي بعضِ طُرُقِهِ: ((مات اليومَ رجلٌ صالحٌ فقوموا للصَّلاةِ على أخيكم)).
          ومعنى أصحمةَ عطيَّة، والنّجاشِي بتشديدِ الياءِ وتخفيفِها، بفتح النُّونِ وكسْرِها، وفيه نزلتْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية [آل عمران:199] وذلك لَمَّا صَلَّى عليه قال قومٌ من المنافقين: صَلَّى عليه وليس مِن أهل دينِه فنزلت. وكان آمَنَ به على يدِ جعفر بن أبي طالبٍ، وأخذ عمَّن هاجر إليه مِن أصحابِه فآواهم وأسرَّ إيمانَه لمخالفةِ الحبشةِ له، فلمَّا مات نعاهُ النَّبيُّ صلعم في اليومِ الَّذي ماتَ فيه، وهو مِن علامات نُبوَّتِه. وقيل: سقطت عنه الهجرةُ إذْ لم يمكِنْهُ ذلك.
          وقولُه: (خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى) يقتضي أنَّ ذلكَ أمرٌ يتعيَّنُ عندهم في الصَّلاةِ على الجنازة، وفي السُّهيليِّ مِن حديثِ سَلَمَةَ بنِ الأكوعِ أنَّه صَلَّى عليه بالبقيع، وقد يُستدلُّ به على منْعِ الصَّلاةِ في المسجدِ، ويُجابُ بأنَّه خرجَ لِكثرةِ المصلِّينَ والإعلامِ.
          وفيه حُجَّةٌ لمن جوَّزَ الصَّلاةَ على الغائبِ وبه قال الشَّافعيُّ وابنُ جريرٍ وأحمدُ خلافًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ، وعن أبي حنيفةَ جوازُه فيما قرُبَ مِن البلادِ، حكاهُ ابنُ التِّين. وكانت صلاتُه عليه في رجبٍ سنةَ تسعٍ. ومَن ادَّعى أنَّ الأرضَ طُويَتْ له حتَّى شاهدَه لا دليل له وإنْ كانت القدرةُ صالحةً لذلك. وسواءٌ كان الميِّتُ في جهةِ القِبلةِ أم لا فالمصلِّي يستقبلُ، صُلِّي عليه أم لا، بعُدَت المسافة أم قرُبت.
          واستَحسَنَ في «البحر» ما ذهب إليه الخطَّابيُّ أنَّه يُصَلَّى عليه إذا لم يُصلِّ عليه أحدٌ، وكذا كانت قِصَّة النَّجاشيِّ، ووقعَ في كلامِ ابنِ بطَّالٍ تخصيصُ ذلك بالنَّجاشيِّ قال: بدليلِ إطباقِ الأُمَّةِ على تَرْكِ العملِ بهذا الحديثِ _وأخطأ في ذلك_ قال: ولم أجدْ لأحدٍ مِن العلماءِ إجازةَ الصَّلاةِ على الغائب إلَّا ما ذكرهُ ابنُ أبي زيدٍ عن عبدِ العزيز بن أبي سَلَمَة فإنَّه قال: إذا استؤذنَ أنَّه غَرِقَ أو قُتل أو أكلته السِّباعُ ولم يوجد منه شيءٌ صُلِّي عليه كما فُعِل بالنَّجاشيِّ، وبه قال ابن حبيبٍ.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: أكثرُ أهلِ العلم يقولون إنَّ ذلك مخصوصٌ به، وأجازه بعضُهم إذا كان في يومِ الموتِ أو قريبٍ منه. قلتُ: وأبعدَ الحسنُ فيما حكاه عنه في «المصنَّف»: إنَّما دعا له، يعني ولم يصلِّ عليه، وهو عجيبٌ.
          فَرْعٌ: لو صَلَّى على الأمواتِ الَّذين ماتوا في يومِه وغُسِّلوا في البلدِ الفلانيِّ ولا يَعرِفُ عددَهم جاز، قاله في «البحر» وهو صحيحٌ لكنْ لا يختصُّ ببلدٍ.
          فَرْعٌ غريبٌ: مِن فروعِ ابن القطَّانِ أنَّ الصَّلاةَ على الغائبِ وإنْ جازتْ لكنَّها لا تُسقِطُ الفرضَ.
          وقولُه: (فَصَفَّ بِهِمْ) دليلٌ على أنَّ سنَّةَ هذه الصَّلاةِ الصفُّ كسائرِ الصَّلواتِ.
          وقولُه: (فَكَبَّرَ أَرْبَعًا) هذا آخِرُ ما استقرَّ عليه آخِرُ أمْرِه ◙، وقال ابنُ أبي ليلى: يكبِّرُ خمسًا، وإليه ذهبت الشيعةُ. وقيل ثلاثٌ، قاله بعضُ المتقدِّمين، وقيل: أكثرُه سبعٌ / وأقلُّه ثلاثٌ، ذكره القاضي أبو محمَّد، وقيل سِتٌّ، ذكره ابنُ المنذِرِ عن عليٍّ، وقال عن أحمدَ: لا يُنقَصُ مِن أربعٍ ولا يُزاد على سبعٍ، وقال ابنُ مسعودٍ: يُكبِّر ما كبَّر إمامُه.
          ووقع في كلامِ ابنِ بطَّالٍ: إنَّما نَعَى النَّجاشيَّ وخصَّه بالصَّلاةِ عليه وهو غائبٌ عنه لأنَّه كان عند الإسلامِ على غيرِ الإسلامِ فأرادَ أن يُعلِم بإسلامِه، وفيه نظرٌ لأنَّه ◙ نَعَى جعفرَ بن أبي طالبٍ وأصحابَه.
          ومعنى قولِه في حديثِ أنسٍ: (لَتَذْرِفَانِ) يعني الدَّمعَ. وفيه جوازُ البكاءِ على الميِّت. وفيه أنَّ الرَّحمةَ الَّتي تكونُ في القلب محمودةٌ. وفيه جوازُ التأسِّي بفِعْلِ الشَّارعِ. وفيه ما يغلِبُ البشرَ مِن الوجْدِ.
          وقولُه: (ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ) يعني أنَّه لم يُسَمِّهِ حينَ قال: إن قُتِلَ فلانٌ ففلان. وفيه جوازُ المبادرةِ للإمامةِ إذا خاف ضياعَ الأمر فرضِيَ به الشَّارعُ فصار أصلًا في الضَّروراتِ إذا وقعتْ في معالِم أمر الدِّين.
          وفيه أنَّ مَن تغلَّبَ مِن الخوارجِ ونَصَّبَ حاكمًا فوافق حكمُه الحقَّ فإنَّه نافذٌ كحكمِ أهلِ العَدْلِ، وكذلك أنكحتُهم. وفيه أنَّ الإمامَ الَّذي لا يَدَ على يدِه يحكُم لنفْسِه بما يحكُمُ لغيرِه ويعقِدُ النِّكاحَ لنفْسِه، وقد قطعَ الصِّدِّيقُ يدَ السِّارقِ الَّذي سَرَقَ الحُلِيَّ مِن بيتِه فَحَكَم لنفْسِه، وكذا إنْ كان لِولَدِه فهو حُكْمٌ له، وهو عندنا خاصٌّ بالشارعِ. وفيه جوازُ دخولِ الحظر في الوكالاتِ وتعليقِها بالشَّرائطِ، ذكره الخطَّابيُّ. وما ذكره مِن القطْعِ لنفْسِه هو قولُ مالكٍ ولكنَّه لا يغرِّمه، وقال محمَّد بن عبد الحكم: لا يَقطَعُ ولا يُغرِّمُه.
          فَرْعٌ: لم يُذكَر التَّسليمُ هنا في حديثِ النَّجاشيِّ وذُكِرَ في حديثِ سعيدِ بنِ المسيِّب، رواه ابنُ حبيبٍ عن مُطَرِّفٍ عن مالكٍ، واستغربه ابنُ عبد البَرِّ قال: إلَّا أنَّه لا خلاف علمتُه بين العلماءِ مِن الصَّحابةِ والتابعين فمَن بعدَهم مِن الفقهاءِ في السَّلامِ منها وإنَّما اختلفوا هل هي واحدةٌ أو اثنتان؟ فالجمهورُ على تسليمةٍ واحدةٍ وهو أحدُ قولَي الشَّافعيِّ، وقالت طائفةٌ: تسليمتين وهو قولُ أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، وهو قول الشَّعْبيِّ ورواه عن إبراهيمَ. وممَّن رُوي عنه واحدةٌ عُمَرُ وابنُه وعليٌّ وابنُ عبَّاسٍ وأبو هُرَيْرَةَ وجابرٌ وأنسٌ وابنُ أبي أوفى وواثلةٌ وسعيدُ بن جُبَيرٍ وعطاءٌ وجابرُ بن زيدٍ وابنُ سِيرِينَ والحسنُ ومكحولٌ وإبراهيمُ في روايةٍ.
          وقال الحاكم: صحَّت الرواية في الواحدةُ عن عليٍّ وابن عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ وجابرٍ وأبي هُرَيْرَةَ وابنِ أبي أوفى أنَّهم كانوا يسلِّمونَ تسليمةً واحدةً.
          قال ابنُ التِّين: وسأل أشهبُ مالكًا: أتَكرهُ السَّلامَ في صلاةِ الجنائز؟ قال: لا، وقد كان ابنُ عُمَرَ يُسلِّم. قال: فاستنادُ مالكٍ إلى فِعْلِ ابنِ عُمَرَ دليلٌ على أنَّه ◙ لم يُسلِّمْ في صلاتِه على النَّجاشيِّ ولا غيرِه.