التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما قيل في أولاد المشركين

          ░92▒ بَابُ مَا قيلَ فِي أوْلَادِ المُشْرِكِينَ.
          1383- 1384- 1385- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنِ عبَّاسٍ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ، فَقال: (اللهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ).
          وحديثَ أبي هُريرة: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ، فَقَال: (اللهُ أَعْلَمُ بَمَا كَانُوا عَامِلِينَ).
          وحديثَه أيضًا: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) الحديث.
          الشَّرح: الحديثُ الأخيرُ سَلَفَ قريبًا واضحًا، وقد اختلَفَ العلماءُ في أولادِ المُشركين على أقوالٍ:
          أحدُها: أنَّهم مِن أهلِ الجَنَّةِ لأنَّهم وُلِدُوا على الفِطْرَةِ، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّساء:40]. ومعنى: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) أي قد عَلِمَ أنَّهم لا يعملونَ شيئًا ولا يرجعونَ في وقتٍ يعمَلونَ فيه، وهذا هو المختارُ.
          ثانِيها: أنَّهم خَدَمَةُ أهلِ الجَنَّةِ.
          ثالثُها: أنَّهم مِن أهلِ النَّارِ لحديثِ الذَّراريِّ يصابونَ في شَنِّ الغارةِ: ((هُم مِن آبائِهم)) وجوابهُ أنَّ ذلكَ في أمْرِ الدُّنيا أي أنَّهم إِنْ أُصِيبُوا في التَّبْييتِ والإِغَارةِ لا قَوَدَ فيهم ولا دِيَةَ، وقد نَهَى رسولُ اللهِ صلعم عن قتْلِ النِّساءِ والصِّبيانِ في الحربِ.
          رابعُها: أنَّ الله تعالى يبعثُهُم ومَن ماتَ في الفتْرَةِ والصُّمَّ والبُكمَ والمجانينَ، وتؤجَّجُ لهم نارٌ ثُمَّ يُبعثُ إليهِم رسولٌ يأمرُهم باقتحامِها، فمَنْ عَلِمَ اللهُ أنَّهُ لو وهَبَهُ عَقْلًا في الدُّنيا أطاعَه دَخَلَها ولا تَضُرُّه ويَدْخُلُ الجَنَّةَ، ومَن عَلِمَ أنَّهُ لو وَهَبَهُ عقلًا لم يدخُلْهَا فيدخُلُ النَّارَ، قال ابنُ بَطَّالٍ: هو قولٌ لا يَصِحُّ لأنَّ الآثارَ الواردةَ بذلكَ ضعيفةٌ لا تقُومُ بها حجَّةٌ.
          وَقال الدَّاوُديُّ: وهذا لا يصحُّ في العقلِ والاعتبارِ لقولِه تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة:113] فَجَعَلَهم مِن أصحابِ الجحيم، ولو كان لهم موضعٌ يُرجَى لهم فيه لم يُنهَ عن الاستغفارِ لهم، وهذا الاستدلالُ غيرُ صحيحٍ كما قال ابنُ التِّيْنِ لأَنَّهُ إِنَّمَا نُهِيَ عن الاستغفارِ لعبدِ الله بن أُبيٍّ ومَن هو مثلُه، ولم يُنْهَ عن الاستغفارِ لولدانِهم.
          خامسُها: الوقفُ في أمْرِهم لأنَّهُ صلعم قال: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) ونَقَل ابنُ بَطَّالٍ عن أكثرِ العلماءِ أنَّهم في المشيئةِ، وتأوَّلُوا قولَه تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثَّر:39] أنَّهم أطفالُ المؤمنينَ، وقيل: هم أصحابُ الملائكةِ.
          وقد رتَّبَ بعضُ العلماءِ هذِه الأحاديثَ الأربعة بحيثُ لا يختلفُ منها حديثٌ مع الآخَرِ فقال: أصْلُها حديثُ التَّأجيجِ، قال: فَمَن دخلَ النَّارَ كان مِن خَدَمَةِ أهلِ الجَنَّةِ وكانَ الله أعلمُ بما سيعملُ لو أحياهُ حينَ يبلُغُ التَّكليفَ، وإنْ لم يدخُلْها كانَ في النَّارِ وهو الحديثُ الآخرُ: ((هُمْ مِنْ آبائِهم)) فتتَّفق هذِهِ الأحاديثُ الأربعةُ.
          وقولُه: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) أخبرَ بعِلْمِ الشَّيءِ لو وُجِدَ كيفَ يكونُ مثل قولِه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام:28] ولم يُرِدْ أنَّهم يُجازَوْنَ بذلكَ في الآخرةِ لأنَّ المرءَ لا يُجازى بما لا يفعلُ، ولا خلافَ أنَّ مَن نَوَى شُرْبَ خمرٍ ولم يفعلْ أَنَّهُ لا يُقام عليه بذلكَ حكمٌ، فالصَّغيرُ أبيَنُ لأَنَّهُ لم يكنْ منهُ فِعْلُ شيءٍ، وكذلك أولادُ المسلمينَ اللهُ أعلم بما يعملونَ لو عاشُوا.
          وعن ابن القاسمِ في وَلَدِ المسلمِ يولَدُ مخبولًا أو يصيبهُ ذلكَ قبلَ بلوغِه قال: ما سمعْتُ فيه شيئًا غيرَ أنَّ اللهَ تعالى قالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية [الطور:21] فأرجُو أن يكونوا معهم. وأمَّا مَنْ أُصيبَ بعْدَ الحُلُمِ قال ابنُ التِّينِ: سمعتُ بعضَ أهلِ العلمِ والفضلِ أَنَّهُ يُطبَعُ على عملِه كمَنْ مات، ومِن كتابٍ آخَرَ أنَّ المجنونَ والمخبولَ والمعتوهَ يُصلَّى عليهم.
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: يَحتمل قولُه: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) وجوهًا مِن التَّأويلِ:
          أحدُها: أن يكونَ قَبْلَ إعلامِه أنَّهم مِن أهلِ الجَنَّةِ.
          ثانِيها: أيْ على أيِّ دينٍ كانَ يُميتُهم لو عاشُوا فبَلَغُوا العملَ، وأمَّا إذا عُدِمَ منهمُ العملُ فَهُمْ في رحمةِ الله الَّتي ينالُها مَن لا ذنبَ له.
          ثالثُها: أَنَّهُ مجملٌ يُفسِّرُه قولُه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية [الأعراف:172] فهذا إقرارٌ عامٌّ يدخلُ فيه أولادُ المسلمينَ والمُشركينَ، فمَن ماتَ منهم قبْلَ بلوغِ الحِنث ممَّن أقرَّ بهذا الإقرارِ مِن أولادِ النَّاسِ كلِّهُم فهو على إقرارِه المتقدِّمِ لا يُقضى له بغيرِه لأنَّهُ لم يدخلْ عليه ما ينقضُه إلى أن يبلُغَ الحِنْثَ، وأَمَّا مَن قال: حكمُهم حكمُ آبائِهم فهو مردودٌ بقولِه تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَهٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].