التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في عذاب القبر

          ░86▒ بَابُ مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.
          وَقَوْلِهِ ╡: {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْملَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93] والْهُونُ: الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] وَقَوْلُهُ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45-46].
          1369- 1370- 1371- 1372- 1373- 1374- ذَكَرَ فيه ستَّةَ أحاديث:
          أحدُها: حديثُ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: (إِذَا أُقْعِدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَلَّا إِلَه إِلَا اللهُ وَأَنَّ محمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [إبراهيم:27])، وقال شُعْبَةُ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.
          ثانِيها: حديثُ ابنِ عُمَرَ: (اطَّلَعَ النَّبيُّ صلعم عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ) الحديث.
          ثالثُها: حديثُ عائِشَةَ: إِنَّمَا قال النَّبيُّ صلعم: (إِنَّهم لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]).
          رابعُها: حديثُها أيضًا أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقالتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقال: (نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ. قالتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) زَادَ غُنْدَرٌ: عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ.
          خامسُها: حديثُ أسماءَ (قَامَ النَّبيُّ صلعم خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يُفْتَنُ فِيهَا الْمَرْءُ...) الحديث.
          سادسُها: حديثُ أَنَسٍ (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ) الحديث بِطُولِه.
          الشَّرحُ: هَذهِ الأَحَادِيثُ سلفَتْ أَو أكثرُها، والأخيرُ سَلَفَ في باب الميِّت يسمعُ خفق النِّعالِ [خ¦1338].
          و{غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] شدائدُه. {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي بالعذاب. و{الْهُونِ} الهوانُ كما سَلَفَ. قال ابن جُرَيجٍ: عذابُ الهُونِ في الآخرةِ، وقال غيرُه: لَمَّا بُعِثُوا صاروا إلى النَّار قالت الملائكةُ: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} قال: الهَوانُ. وقولُ الملائكةِ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} عَلَى معنى التَّوْبِيخ أي أنْتُم تفارقونَ أنفُسَكُم. والهَوْنُ بفتح الهاءِ السَّكينةُ والوقارُ. /
          وقولُه: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} الآية [التوبة:101] قيل: عذابُ يومِ بدرٍ بالقتلِ ثُمَّ في القبرِ، ثُمَّ يردُّون إلى عذابِ جهنَّم، وقيل: بالسِّباء ثُمَّ بالقتل ثُمَّ بجهنَّم، وقال مُجاهدٌ: بالجُوعِ والقتْلِ ثُمَّ بجهنَّم، وقيل: بالزَّكاةِ تُؤخَذُ منهم كرهًا.
          {وَحَاقَ} [غافر:45] نَزَلَ. وقولُه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وعَشِيًّا} قال ابنُ مَسْعودٍ: إنَّ أرواحَ آلِ فِرعونَ في أجوافِ طيرٍ سودٍ تُعرضُ على النَّارِ مرَّتين يُقال لهم: هَذِهِ دارُكُم. وعن أبي هريرة أنَّهُ كان إذا أصبحَ قال: أصبَحْنَا والحمدُ لله، وعُرِضَ آلُ فرعونَ على النَّارِ، وكذلك إذا أمسى فلا يسمعُه أحدٌ إِلَّا تعوَّذَ بالله مِنَ النَّارِ، وقالَ مجاهِدٌ: {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} مِن أيَّامِ الدُّنيا، وَقال الفرَّاءُ: ليس في القيامةِ غدوٌّ ولا عشيٌّ لكنْ مقدارُ ذلكَ، ويَرُدُّ عليه قولُه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فدلَّ على أنَّ الأوَّلَ بمنزلةِ عذابِ القبرِ.
          وحديثُ البراءِ مفسِّرٌ للآيةِ، وقد اختُلفَ في قولِه: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] فَقال طاوسٌ: قولُ لا إله إلَّا الله، وقال قَتَادةُ: يُثَبِّتُهم بالحَذَرِ والعملِ الصَّالِحِ، وقيلَ: الحياةُ حياتانِ دُنيا وهي الَّتي نحن فيها لأنَّهَا تقدَّمَتْ ودَنَتْ، والثَّانيةُ الآخرةُ لأنَّهَا تأخَّرَتْ.
          وحديثُ ابنِ عمرَ في أهل القَليبِ قد يكون هو المحفوظ لأنَّهُ لا يكلِّمُ مَنْ لا يَسْمَعُ كلامَه، وإذَا أرادَ اللهُ إسماعَ شيءٍ أسمعَهُ، ألَا تراه أنَّهُ عرضَ الأمانةَ على السَّماواتِ والأرضِ والجبالِ، وأنَّ النَّارَ اشتكَتْ إلى ربِّهَا تعالى، ويكونُ معنى قولِه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية [النمل:80] مثلَ قولِه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ويعني بالموتى وأهلِ القبورِ مَن سَبقَ في علمِ الله أنَّهُ لا يُسلِمُ، ويكونُ قولُ عائشةَ إِنَّمَا حملَتْهُ على التَّأويلِ، وإنْ كانتْ ما قالتْهُ عائشةُ محفوظًا فَإِنَّمَا حَمَلَهُ ابنُ عمرَ على التَّأويلِ.
          واحتجَّ بعضُ الفقهاءِ بقولِه صلعم: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ) بأنَّ العمومَ لا يصحُّ في الأفعالِ، وهو مذهبُ المحقِّقينَ قالوا: لأنَّهَا قضيَّةُ عينٍ لا يجب أن يُلحَقَ بها غيرُها، وكذلِكَ قولِه صلعم للمرأةِ الَّتي رَفعَتْ إليه صبيًّا، ثُمَّ قالتْ: أَلِهَذَا حجٌّ؟ قال: ((نعم، ولكِ أجرٌ)) فظنَّ بعضُ مَن لم يحقِّقِ الكلامَ أنَّ غيرَ هذِهِ الأشياءِ يُحمَلُ عليها.
          وحديثُ عائشةَ مع اليهوديَّة فيه أنْ يُتحدَّثَ عن أهلِ الكتابِ إذا وافقَ قولَ الرَّسُولِ صلعم وأنْ يوقَفَ عن خبرِهِم حَتَّى يُعرَفَ أصِدْقٌ هو أم كَذِبٌ. وفيه أنَّ المؤمنَ يتذكَّرُ إِذا سمعَ شيئًا، فَرُبَّ كلمةٍ ينتفعُ بها سامعُها دونَ قائلِها.
          وقولُه: (وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً) أي مِنْ رَجُلٍ حَنِقٍ شديدِ الغضبِ، قاله الشَّيْخُ أبو الحسن، واحتُجَّ لأهلِ السُّنَّةِ القائلينَ إنَّ الأرواحَ كلَّها باقيَةٌ أرواحُ السُّعَداءِ منعَّمَةٌ وأرواحُ الأشقياءِ معذَّبَةٌ بالآية السَّالفةِ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] وبقولِه: {وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام:93] ولم يقل: إنَّهم يُميتُونَ أنفُسَهُم، وقيل في قولِه: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] إنَّهُ قَولُ الرُّوح.
          وقولُه تعالى: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} اختُلفَ في النَّفْسِ والرُّوحِ، فقال القاضي أبو بكرٍ وأصحابُه: إِنَّهُمَا اسمانِ لشيءٍ واحدٍ، وقال ابن حَبيبٍ: الرُّوحُ هو النَّفَسُ الجاري يدخُلُ ويخرُجُ لا حياةَ للنَّفْسِ إلَّا بهِ والنَّفْس تألَمُ وتَلَذُّ، والرُّوحُ لا تألَمُ ولا تلذُّ. وعن ابن القاسمِ عن عبدِ الرَّحيمِ بن خالدٍ: بلغني أنَّ الرُّوحَ له جَسَدٌ ويدانِ ورِجلانِ ورأسٌ وعينانِ يُسَلُّ مِنَ الجسَدِ سلًّا، وعنه أيضًا: أنَّ النَّفْس هي الَّتي لها جَسَدٌ مُجسَّدٌ.
          قال ابن حَبيبٍ: وهي في الجسد تَخَلُّقٌ في جَوفِ خَلْقٍ تخرج مِنَ الجسد عندَ الوفاةِ ويبقى الجسد حيًّا، ونحوَهُ حكى ابنُ شعبان عن ابن القاسم وزاد قال: الرُّوح كالماء الجاري، قال أبو بكرِ بن مجاهدٍ: أجمع أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ عذابَ القبرِ حقٌّ وأنَّ النَّاسَ يُفتَنونَ في قُبورهِم بعدَ أن يحيَوْا فيها ويُسألون ويثبِّتُ اللهُ مَنْ أحبَّ تثبيتَه منهم، وقال أبو عثمان بن الحدَّاد: وإِنَّمَا أنكرَ عذابَ القبرِ بِشْرٌ المَرِيْسيُّ والأصمُّ وضِرارٌ، واحتجُّوا بقولِه تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوتَةَ الأُولَى} [الدُّخان:56] وبمعارضةِ عائشةَ لابنِ عمرَ.
          قال القاضي أبو بكرِ بن الطَّيِّبِ وغيرُه: قد وردَ القرآنُ بتصديقِ الأخبارِ الواردةِ في عذابِ القبرِ قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] وقام الاتِّفاقُ على أَنَّهُ لا غُدُوَّ ولا عَشِيَّ في الآخرةِ، وإِنَّمَا هما في الدُّنيا وقد سَلَفَ ذلك، فهم يُعرضونَ بعْدَ مماتِهم على النَّارِ قَبْلَ يومِ القيامةِ، ويومَ القيامة يُدخلونَ أشَدَّ العذابِ، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فإذا جاز أن يكونَ المكلَّفُ بعدَ موتِه معروضًا على النَّارِ غُدوًّا وعَشيًّا جازَ أن يسمعَ الكلامَ ويُمْنع الجوَابَ لأنَّ اللَّذَّةَ والعذابَ لا تأثيرَ لهما إلَّا لحيٍّ حسَّاسٍ، فإذا كان ذلكَ وجبَ اعتقادُ / ردِّ الحياةِ في تلك الأجسامِ وسماعِهم للكلامِ، والعقلُ لا يدفع هذا ولا يوجبُ حاجةً إلى بللٍ ورطوبةٍ، وإِنَّمَا يقتضي حاجَتَها إلى المحلِّ فقط، فإذا صحَّ ردُّ الحياةِ إلى أجسامِهم مع ما هم عليه مِنْ نَقْضِ البنْيَةِ وتقطيعِ الأوصالِ صحَّ أن يوجَدَ فيهم سماعُ الكلامِ والعجزُ عن ردِّ الجوابِ.
          وقد ذَكَرَ البخاريُّ في غزوةِ بدرٍ بعدَ قولِه صلعم: ((ما أنتم بأسمَع لِمَا أقول منهم)) قال قَتَادة: أحياهم الله حَتَّى أسمعَهم توبيخًا ونِقْمةً وحسرةً وندَمًا [خ¦3976] وعلى تأويلِ قَتَادةَ فقهاءُ الأمَّةِ وجماعةُ أهلِ السُّنَّةِ، وعلى ذلك تأوَّلَهُ عبدُ الله بن عمرَ وهو راوي الحديث.
          قال القاضي: وليس في قولِ عائشةَ ما يعارِضُ روايةَ ابنِ عمرَ لأنَّهُ يُمكنُ أن يكونَ قد قالَ في قتلى بدرٍ القولينِ جميعًا ولم تحفظْ عائشةُ إلَّا أحدَهما؛ لأنَّ القولينِ غيرُ متنافيَيْنِ أنَّ ما دُعوا إليه حَتَّى لا يبقى ردُّ الحياةِ إلى أجسامِهم وسماعِهم للنِّدَاءَ بعدَ موتِهم إذا عادُوا أحياء.
          وقال الطَّبريُّ في معنى قولِه: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ) اختلفَ السَّلَفُ مِن العلماء في تأويلِه، فقال جماعةٌ يكثُرُ تعدادُها بعمومِ الحديثِ، وقالت: إنَّ الميِّت يسمعُ كلامَ الأحياءِ ولذلك قال صلعم لأهلِ القَليبِ ما قال وقالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ).
          واحتجُّوا بأحاديثَ في معنى قولِه صلعم في الميت: ((إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قرعَ نِعَالِهِم)) ثُمَّ رُوِيَ أنَّهم يَسمعُون كلامَ الأحياءِ ويتكلَّمُونَ عن أبي هريرة، ثُمَّ رويَ عن ابن وهبٍ عن العَطَّاف بن خالدٍ عن خالتهِ _وكانت مِن الغوابر_ أَنَّهَا كانت تأتي قُبُورَ الشُّهداء، قالت: صلَّيْتُ يومًا عندَ قبرِ حمزةَ بن عبدِ المطَّلِبِ فلمَّا قمتُ قلتُ: السَّلامُ عليكم فسمعتْ أذنايَ ردَّ السَّلام يخرُجُ مِن تحْتِ الأرضِ أعرفُه كما أعرفُ أنَّ الله خلقني، وما في الوادي داعٍ ولا مجيبٌ، فاقشعرَّتْ كلُّ شعرةٍ منِّي.
          وعن عامرِ بن سعدٍ أنَّهُ كانَ إذا خرجَ إلى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ يقولُ لأصحابِه ألَا تسلِّمُونَ على الشُّهداءِ فيردُّون عليكم؟ وقال آخَرون: معناه ما أنتم بأعلمَ أنَّهُ حقٌّ منهم، وروَوا ذلك عن النَّبيِّ صلعم وذَكَرُوا قولَ عائشةَ حين أنكرتْ على ابنِ عمرَ وقالت: إِنَّمَا قال صلعم: (إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ) قالوا: فخبَرُ عائشةَ يُبيِّنُ ما قلنا مِنَ التَّأويلِ إلاَّ أنَهُ أخبرَ أنَّهم يسمعونَ أصواتَ بني آدمَ وكلامَهم، قالوا: ولو كانوا يسمعون كلامَ النَّاسِ وهم موتَى لم يكن لقولِه تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] معنًى.
          وصوَّبَ الطَّبريُّ تصحيحَ كلٍّ مِن الرِّوايتينِ، والواجبُ الإيمانُ بها والإقرارُ بأنَّ الله يُسْمِعُ مَن يشاءُ مِن خلْقِه ما شاء مِن كلامِ خلقِه، ويُفهِم مَن يشاءُ منهم ما يشاء، وينعِّم مَن أحبَّ منهم ويُعذِّب في قبرهِ الكافرَ ومَن استحقَّ العذَابَ كيف أراد، على ما صحَّتْ به الرِّوَاياتُ عن سيِّدِ البشَرِ، وليسَ في قولِه: {إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} حجَّةٌ في دفْعِ ما صحَّتْ به الآثارُ في قرْعِ النِّعال وقصَّةِ القليبِ إذْ كان قولُه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} و{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} محتمِلًا لأنْ يكونَ معناهُ فَإِنَّكَ لا تُسمع الموتى بقُدرتِكَ إِذْ خالقُ السَّمع غيرُك، ونظيرُه {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} [النمل:81] وذلك بالتَّوفيقِ، والهدايةُ بِيَدِ اللهِ، فنفَى الرَّبُّ عن نبيِّهِ القدرةَ أن يُسمِعَ الموتَى إلَّا بمشيئتِه كما في الهدايةِ، وإِنَّمَا أنتَ نذيرٌ فَبلِّغْ ما أُرْسِلْتَ به. ويحتمل أنْ يكونَ المرادُ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الموتى إِسماعًا ينتفعونَ بهِ لانقطاعِ أعمالِهم وانتقلُوا إلى دارِ الجزَاء فَلا ينفعُ الدُّعَاءُ إِذنْ لأَنَّ الله ختمَ عليهم أَلَّا يؤمِنُوا.
          وكذا قولُه: {إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يُريدُ إِنَّك لا تقدِرُ على إسماعِ مَن جعلهُ الله أصمَّ عن الهُدى، وفي صدْرِ الآية ما يدلُّ على هذا لأنَّهُ تعالى قال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:19] يعني بالأعمى الكافرَ، وبالبصيرِ المؤمنَ {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} [فاطر:20] يعني بالظُّلُمَاتِ الكفرَ وبالنُّورِ نُورَ الإيمانِ {وَلَا الظِّلُّ} [فاطر:21] أي الجَنَّةُ {وَلَا الْحَرُورُ} أي النَّارُ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ} العقلاء {وَلَا الْأَمْوَاتُ}: الجُهَّال ثُمَّ قال: {إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} يعني إِنَّكَ لا تُسمِع الجُهَّالَ الَّذين كأنَّهم موتَى في القُبورِ، ولم يُرد بالموتى الَّذين ضربَهُم مثلًا للجُهَّالِ شهداءَ بدْرٍ المؤمنينَ فيحتجُّ بهم، أولئك أحياءٌ كما نطقَ به التَّنزيلُ.
          ولا يعارِضُ ما ثَبَتَ في عذابِ القبرِ الآيةَ السَّالِفَةَ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدُّخان:56] لأنَّ الله تعالى قد أخبرَ في كتابِه بحياةِ الشُّهداءِ قبْلَ يومِ القيامةِ فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية [آل عمران:169] ولَمَّا كانت حياتُهم قبْلَ محشرِهم ليست رادَّةً لهذِه الآية كانتْ حياةُ المقبورينَ في قبورِهم مِنْ قَبْلِ محشرِ النَّاسِ ليستْ رادَّةً لقولِه: {لَا يَذُوقُونَ}.
          ومَنْ أنكرَ حياةَ الشُّهَدَاءِ قَبْلَ المحْشَرِ وادَّعَى أنَّ قولَهُ: {أَحْيَاءٌ} أَنَّهُ في يومِ القيامَّةِ أبطَلَ ما اقتضاهُ قولُه: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران:170] لأنَّ الشُّهَدَاء وغيرَهم مِن جميعِ البشر يتوافَوْنَ يومَ القيامةِ، ويستحيلُ فيمَن وافاهُ غيرُه أن يُقالَ في الَّذي وافاه إِنَّهُ سيلحقُهُ، أَو يُقَالَ فيه بِأَنَّهُ خَلْفَهُ، فالأخبارُ إِذنْ في عذابِ القبرِ صحيحةٌ متواترةٌ لا يصحُّ عليها التَّواطؤُ، / وإن لم يصِحَّ مثلُها لم يَصِحَّ شيءٌ مِن أمْرِ الدِّين.