التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القيام للجنازة

          ░46▒ بَابُ القِيَامِ للِجَنَازِةِ.
          1307- ذَكَر فيه حديثَ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهريِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ، فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ).
          قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم. وفي بعضِ نُسَخِ البُخارِيِّ: <زَادَ الحُمَيْديُّ: حَتَّى تَخْلُفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ>.
          هذا الحديثُ أخرجه مسلمٌ أيضًا ولفظُهُ: ((حَتَّى تَخْلُفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ)) وفي لفظٍ له: ((إذا رأى أحدُكُم الجنازةَ فإنْ لم يكن معها فَلْيَقُم حينَ يراها تُخَلِّفه، إذا كان غيرَ متَّبِعها)).
          إذا تقرَّر ذلك فمعنى القيامِ للجنازة _واللهُ أعلمُ_ على التَّعظيم لِأَمْرِ الميِّتِ والإجلالِ لأمْرِ الله لأنَّ الموتَ فَزَعٌ، فيُستقبَلُ بالقيام له والجِدِّ، وقد رُوِيَ هذا المعنى مرفوعًا مِن حديثِ ابنِ عَمْرٍو: ((إنَّما تقومونَ إعظامًا لمَنْ يقبِضُ النُّفُوس)) رواه أحمدُ والحاكمُ وقال: صحيحُ / الإسناد. ورُوِيَ مِن حديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((الموتُ فَزَعٌ، فإذا رأيتم الجنازةَ فقوموا)) رواه ابنُ أبي الدُّنيا مِن هذا الوجه، وابنُ أبي شيبةَ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، وقد أَخَذَ بِظَاهِرِ حديثِ البابِ جماعةٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ والفقهاءِ كما سنقفُ على ذلك في البابِ بعدَ بعدِه.
          ورأتْ طائفةٌ ألَّا يقومَ للجنازةِ إذا مرَّت به وقالوا: لِمَن تبِعَها أن يجلِسَ وإن لم تُوضَع، ونقله الحازميُّ عن أكثرِ أهلِ العلمِ، واحتجُّوا بحديثِ عليٍّ: ((أنَّه صلعم كان يقومُ للجنازةِ ثُمَّ جلس بعدُ)) أخرجه مسلمٌ. ولابنِ حِبَّان: ((كان يأمُرُ بالقِيامِ في الجنازةِ ثمَّ جلس بعدَ ذلك)) وفي لفظٍ: ((قام ثمَّ قعد)) وفي آخَرَ: ((قام فقمنا، ورأيناه قعدَ فقعدْنا)) وقال عليٌّ: ((ما فَعَلَهُ رسولُ الله صلعم إلَّا مرَّةً، فلمَّا نُسِخَ ذلك نهى عنه)) وفي لفظٍ: ((قام مرَّةً ثمَّ نهى عنه)).
          فدلَّ هذا أنَّ القيامَ منسوخٌ بالجلوس، وإلى هذا ذهب سعيدُ بن المسيِّب وعُرْوةُ ومالكٌ وأبو حنيفةَ وأصحابُه والشَّافعيُّ. وكان ابنُ عُمَرَ وأصحابُ رسولِ الله صلعم يجلِسون قبل أن تُوضَعَ الجنازةُ، فهذا ابن عُمَرَ يفعلُ هذا.
          وقد رُوي عن عامر بن ربيعةَ عن رسولِ الله صلعم خلافُ ذلك، فدلَّ تَرْكُهُ لذلك ثبوت نسخِ ما حدَّث به عامرٌ، وأنكرت عائشةُ القيامَ لها وأخبرت أنَّ ذلك كان مِن فِعْلِ الجاهليَّةِ. وقال عبدُ الملك بنُ حبيبٍ وابنُ الماجِشُون: ذلك على التَّوسعةِ، والقيامُ فيه أجرٌ وحُكْمُهُ باقٍ، وقولُ مالكٍ أَولى لحديثِ عليٍّ السَّالفِ، وقال صاحبُ «المهذب»: هو مخيَّرٌ بين القيامِ والقعود. وقال جماعةٌ: يُكره القيام إذا لم يُرِدِ المشْيَ معها، وبه قال أبو حنيفةَ، وقال المتولِّي: يُسَتحبُّ القيام وحديثُ عليٍّ مبيِّنٌ للجواز، فأمَّا القيامُ على القبر حتَّى تُقبَرَ فقال القُرْطبيُّ: كَرِهَهُ قومٌ وعمِلَ به آخَرون، رُوي ذلك عن عليٍّ وعُثْمَانَ وابنِ عُمَرَ، وأَمَرَ به عمرو بن العاصي.