التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في قبر النَّبِيِّ وأبى بكر وعمر

          ░96▒ بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبيِّ صلعم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ☻.
          {فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ: إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا، وَقَبَرْتُهُ: دَفَنْتُهُ، {كِفَاتًا} [المرسلات:25] يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا.
          1389- 1390- 1391- 1392- ذَكَرَ فيه حديثَ عائشةَ: (إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلعم لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أينَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غدًا؟ اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبْضَهُ اللهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي).
          وعنها قالتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي مَرَضِهِ الَّذي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: (لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ _أَوْ خُشِيَ_ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
          وَعَنْ هِلَالٍ الرَّاوِي عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي.
          وحَدِيثَ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: / (أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبيِّ صلعم مُسَنَّمًا).
          وَعَنْ عُرْوَةَ، لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ رَسُولِ اللهِ صلعم فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ، حَتَّى قال لَهُمْ عُرْوَةُ: لَا والله مَا هِيَ قَدَمُ رسُول الله صلعم مَا هِيَ إِلَّا قَدَمُ عُمَرَ.
          وَعَنْ هِشَامِ بْن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَوْصَتْ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ: لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا.
          وَحَدِيثَ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لابْنِهِ عبدِ اللهِ: اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ عَلَيْكِ السَّلَامَ. الحديث في دفنِهِ مع صاحِبَيْهِ.
          الشَّرح: غرضُ البُخاريِّ في هذا البابِ أن يُبيِّنَ فَضْلَ أبي بكرٍ وعُمَرَ ☻ بما لا يشاركُهُما فيه أحدٌ، وذلك أَنَّهُمَا كانا وزيرَيْهِ في حالِ حياتِه وصارا ضجيعَيْهِ بعدَ مماتِه، فضيلةٌ خصَّهُما الله بها وكرامةٌ حباهُما بها لم تحصُلْ لأحدٍ، ألا ترى وصيَّةَ عائشةَ إلى ابنِ الزُّبير ألَّا يدفِنَها معهم خشيةَ أن تُزكَّى بذلك؟ وهذا مِن تواضعِها وإقرارِها بالحقِّ لأهلِه وإيثارِها به على نفسِها مَن هو أفضلُ منها، ولم ترَ أن تُزكَّى بدفْنِها مع رسولِ الله صلعم ورأتْ عمرَ لذلكَ أهلًا، فمجاورَتُهُما مَلْحَدَهُ لا يُشبِهُهُ فضْلٌ، وأيضًا لِقُرْبِ طينَتِهِمَا مِن طينَتِه ففي حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: مرَّ رسُولُ الله صلعم بجنازةٍ عندَ قبرٍ فقالَ: ((قَبْرُ مَنْ هَذا؟)) فقالَ: فلانٌ الحبشيُّ، فقال صلعم: ((لا إله إلا الله، سِيقَ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ إِلَى تُرْبَتِه الَّتي مِنْهَا خُلِقَ)) قال الحاكم: صحيحُ الإسنادِ وله شواهدُ أكثرُها صحيحةٌ.
          وإِنَّمَا استأذنَها عمرُ في ذلك ورَغِبَ إليها فيه لأنَّ الموضِعَ كان بيتَها، ولها فيه حقٌّ ولها أن تُؤْثِرَ به نفْسَها لذلكَ فآثرَتْ بهِ عُمرَ، وقد كانتْ عائشةُ رأتْ رؤيا دلَّتْها على ما فعلتْ حينَ رأتْ ثلاثةَ أقمارٍ سقَطْنَ في حِجْرِها فقصَّتْهَا على والِدِها لَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله صلعم ودُفِنَ في بيتِها فقال لها أبو بكرٍ: هذا أوَّلُ أقمارِكِ وهو خَيْرُها.
          ففيهِ مِنَ الفقه الحرصُ على مجاورةِ الموتَى الصَّالحينَ في القبورِ طَمَعًا أن تُنزَّلَ عليهم رحمةٌ تصيبُ جيرانَهم، أو رغبةً أن ينالَهم دعاءُ مَن يزورُ قبورَهم مِن الصَّالحينَ.
          وقولُ عمرَ: (إِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ) فيه مِن الفقه أنَّ مَنْ وَعَد بعِدةٍ أَنَّهُ يجوزُ له الرُّجوعُ فيها ولا يُقْضَى عليهِ بالوفاءِ بها لأَنَّ عمرَ لو عَلِمَ أَنَّ عائشةَ لا يجوزُ لها أن ترجِعَ في عِدَتِهَا ما قال ذلك، وسيأتي بَسْطُ ذلك في الهبةِ إن شاء الله.
          وفيه أنَّ مَن بَعَثَ رسُولًا في حاجةٍ مهمَّةٍ لهُ أن يسألَ الرَّسُولَ قَبْلَ وصولهِ إِلَيهِ وقَبْلَ أدائه الرِّسَالةَ عليهِ، ولا يُعَدُّ ذلكَ مِنْ قلَّةِ الصَّبرِ ولا يُذَمُّ فاعلُه، بل هو مِن الحرصِ على الخيرِ لقولِهِ لابنِه وهو مقبِلٌ: (مَا لَدَيْكَ؟) وفيه أنَّ الخَلِيفةَ مباحٌ له ألَّا يستخلِفَ على المسلمينَ غيرَه اقتداءً بالشَّارعِ صريحًا. وأَنَّ للإمامِ أنْ يترُكَ الأمْرَ شُورَى بينَ الأُمَّةِ إذا عَلِمَ أَنَّ في النَّاسِ بعدَه مَن يُحْسِنُ الاختيارَ للأمَّةِ.
          وفيه إنصافُ عمرَ وإقرارُه بفضْلِ أصحابِه. وفيه أَنَّ المدْحَ في الوجْهِ بالحقِّ لا يُذَمُّ المادحُ بهِ لأَنَّ عمرَ لم يَنْهَ الأنصاريَّ حينَ ذَكَرَ فضائِلَه، فبانَ بهذا أَنَّ المدْحَ في الوجهِ المنهيَّ عنه إِنَّمَا هو المدحُ بالباطلِ.
          وقولُه: (لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ) إِنَّمَا لم يذكُرْ أَبا عُبيدةَ لأَنَّهُ كان قد ماتَ، وسعيدُ بنُ زيدٍ كان غائبًا، وقال بعضُهم: لم يذكُرْهُ لأَنَّهُ كان قريبَهُ وصهرَهُ ففعَلَ كما فعلَ مع عبدِ الله بنِ عمرَ.
          وفيه أنَّ الرَّجُلَ الفاضلَ ينبغي لهُ أن يخافَ على نفْسِه ولا يثِقَ بعمَلِه ويكونَ الغالبُ عليه الخشيةَ ويصغِّرَ نفْسَهُ لقولِه: (لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ كَفَافًا) وقد سُئِلَتْ عائشةُ عن قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] فقالتْ: هم الَّذينَ يعملونَ الأعمالَ الصَّالحةَ ويخافونَ ألَّا تُتقبَّلَ منهم. وعلى هذا مضى خيارُ السَّلَفِ، كانوا مِنْ عبادةِ ربِّهم بالغايةِ القصوى ويَعُدُّونَ أنفُسَهُم في الغايةِ السُّفْلَى خوفًا على أنفُسِهِم، ويستقلُّون لِرَبِّهم ما يستكثرُهُ أهلُ الاغترارِ.
          وقد ثبتَ عن عمرَ أَنَّهُ تناولَ تِبْنَةً مِنَ الأرضِ وقال: يا ليتَنِي هذِه التِّبْنَةُ يا ليتَنِي لم أكُ شيئًا يا ليتَ أمِّي لم تلدْني يا ليتَنِي كنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وقال: لو كانت ليَ الدُّنيا لافتديتُ بها مِن النَّارِ ولم أرَها. وقال قَتَادةُ: قال الصِّدِّيقُ: ودِدْتُ أنِّي خَضِرةٌ أكلتْنِي الدَّوَابُّ. وقالتْ عائشةُ عندَ موتِها: وَدِدْتُ أنِّي كنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وقال أبو عُبيدةَ: وَدِدْتُ أنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أهلي فيأكلونَ لَحْمِي ويحتسونَ مَرَقِي. وقال عِمرانُ بن حُصين: وَدِدْتُ أنِّي رمادٌ على أَكَمَةٍ تَسْفِينِي الرِّياحُ في يومٍ عاصفٍ، ذَكَرَهُ أجمعُ الطَّبريُّ، ويأتي إن شاء الله تعالى في الزُّهدِ في بابِ الخوف مِنَ الله زيادةٌ فيه.
          وفيه أَنَّ الرَّجُلَ الفاضلَ والعالِمَ ينبغي لهُ نُصْحُ الخليفةِ وأَنْ يوصِيَه بالعَدْلِ وحُسْنِ السِّيرةِ في مَن ولَّاهُ الله رِقابَهم مِن الأُمَّة، وأَنْ يحضَّهُ على مراعاةِ أُمورِ المسلمينَ وتفقُّدِ أحوالِهم وأن يَعْرِفَ / الحقَّ لأهلِه.
          وفيه أَنَّ الرَّجُلَ الفاضلَ يَنبغي لهُ أن تُقَالَ عَثَرَتُه ويُتَجَاوزُ عنه لقولِه في الأنصارِ: أَنْ (يُعْفَى عنْ مُسِيئِهِمْ) فيما لم يكن للهِ فيهِ حدٌّ ولا للمسلمينَ حقٌّ، ويُشبِهُ ذلك قولُه صلعم: ((أَقِيْلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ زَلَّاتِهِم)) فسَّرَهُ أهلُ العلمِ أنَّ ذوي الهيئاتِ أهلُ الصَّلاحِ والفضْلِ الَّذينَ يكونُ مِنْ أحدِهِم الزَّلَّةُ والفلْتَةُ في سبِّ رجُلٍ مِن غيرِ حدٍّ ممَّا يجب في مثلِه الأدبُ فيُتجاوز له عن ذلكَ لفضْلِه، ولأَنَّ مثلَ ذلكَ لم يُعهَدْ منهُ.
          وفي استبطاءِ الشَّارعِ يومَ عائشةَ مِن الفقهِ أَنَّهُ يجوزُ للفاضلِ الميلُ في المحبَّةِ إلى بعضِ أهلِه أكثرَ مِن بعضٍ وأَنَّهُ لا إِثمَ عليه في ذلكَ إذا عدلَ بينهنَّ في النَّفقةِ والقِسْمَةِ.
          وقد بيَّنتْ عائشةُ العلَّةَ في البناءِ على قبْرِهِ وتحظيرِه وذلكَ خشيةَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا. وقولُ سفيانَ: إِنَّهُ رأى قبرَه صلعم مسنَّمًا قد رُوِيَ ذلكَ عن غيرِه، قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: أخبرني مَن رأَى قبْرَ رسولِ الله صلعم وصاحِبَيْهِ مسنَّمةً ناشِزةً مِن الأرضِ عليها مَرْمَرٌ أبيضُ. وقال الشَّعبيُّ: رأيتُ قبورَ شهداءِ أُحُدٍ مسنَّمَةً وكذا فُعِلَ بقبْرِ ابنِ عمرَ وابنِ عبَّاسٍ.
          وقال اللَّيثُ: حَدَّثَنِي يزيدُ بن أبي حَبيبٍ أَنَّهُ يُستحبُّ أن تُسنَّمَ القبورُ ولا تُرفعَ ولا يكونَ عليه ترابٌ كثيرٌ، وهو قولُ الكوفيِّينَ والثَّوريِّ ومالكٍ وأحمدَ واختاره جماعةٌ مِنْ أصحابِنا ومنهم المُزَنيُّ أَنَّ القُبورَ تُسَنَّمُ؛ لَأَنَّه أمنعُ مِن الجلوسِ عليها واحتجُّوا بما سَلَفَ، وقال أشهب وابن حَبيبٍ: أحبُّ إِلَيَّ أن يُسنَّمَ القبرُ وإن رُفِعَ فلا بأسَ، وقال طاوسٌ: كان يعجِبُهم أن يُرفَعَ القبرُ شيئًا حَتَّى يُعلَمَ أَنَّهُ قبرٌ.
          وقال الشَّافعيُّ: تُسطَّحُ القبورُ ولا تُبنَى ولا تُرفَعُ، تكون على وجه الأرضِ نحوًا مِنْ شبرٍ، قال: وبَلَغَنَا أَنَّ النَّبيَّ صلعم سطَّح قبرَ ابنِه إبراهيمَ، وأَنَّ مقبرةَ المهاجرينَ والأنصارِ مسطَّحةٌ قبورُهم، وقال أبو مِجْلَزٍ: تسويةً القبورِ مِنَ السُّنَّةِ، واحتجَّ أيضًا بحديثِ القاسم بن محمَّدٍ قال: ((رأيتُ قبرَ النَّبيِّ صلعم وصاحبَيْهِ لا مُشْرِفَةً ولا لاطِئَةً مبطوحةً ببطْحَاءِ العَرْصَةِ الحمراءِ)) رواه أبو داودَ، وقال الحاكمُ: صحيحُ الإسنادِ. وفي روايةِ الحاكمِ: ((فرأيتُ رسولَ الله صلعم مقدَّمًا، وأبا بكرٍ رأسُه بين كَتِفَيِ النَّبيِّ صلعم، وعمرَ رأسُهُ عند رِجْلَيِ النَّبيِّ صلعم)).
          وأجابوا عن خبر سفيان التَّمَّار بأَنَّهُ أوَّلًا كَان مُسطَّحًا كما قال القاسمُ ثُمَّ لَمَّا سقَطَ الجِدارُ في زمَنِ الوليدِ بن عبدِ الملِكِ _وقيل عمرِ بنِ عبد العزيز_ جُعِلَ مُسنَّمًا، قال البَيهَقيُّ: حديثُ القاسمِ أصحُّ وأوْلَى أَن يكونَ محفوظًا، وأَمَّا قولُ عليٍّ ☺: ((أمَرَني رسُولُ الله صلعم أَلَّا أَدَعَ قبرًا مُشْرِفًا إِلَّا سوَّيتُهُ)) أخرجه مسلمٌ، فالمرادُ بالتَّسويةِ التَّسطيحُ جمعًا بين الأحاديثِ.
          وما ذكرَهُ البُخاريُّ في (أَقْبَرْتُ) هو بالألِفِ وهو كذلكَ في اللُّغةِ، وفي روايةِ أبي الحسَنِ بحذْفِها. وما ذكرَهُ في تفسيرِ {كِفَاتًا} [المرسلات:25] هو ما ذكره أهلُ اللُّغةِ، نصَّ عليه الفرَّاءُ وغيرُه، وقال ابنُ التِّيْنِ: هو قولُ قَتَادةَ، وقال مجاهدٌ: تُكْفَتُ إذا هم أحياء ويُقبَرُونَ فيها، وقال ابن سِيدَهْ: عندي أنَّ الكِفاتَ في الآية مصدرٌ مِنْ كَفَتَ.
          ومعنى (لَيَتَعَذَّرُ) في حديثِ عائشةَ هو كالتَّمنُّعِ والتَّعسُّرِ، ولأبي الحسنِ بالقافِ قال الدَّاوُديُّ: معناه يسأَلُ عن قَدْرِ ما بَقِيَ إلى يومِها لِيَهُونَ عليه بعضُ ما يجدُ لأنَّ المريضَ يجدُ عندَ بعضِ أهلِه ما لا يجدُه عندَ غيرِه مِن الأُنْسِ والسُّكونِ.
          والسّحرُ بفتْحِ السِّينِ والحاءِ وبإسكانِها وبِضَمِّ السِّين وإسكانِ الحاء، ما التَزَمَ بالحُلقومِ والمريءِ مِن أعلى البَطْنِ، والسّحرُ أيضًا الرِّئةُ والجمع سُحُور، ذكرَهُ ابنُ سِيدَهْ. وفي «غريبِ ابن قتيبة»: بلغَنِي عن ابن عُمارةَ بن عَقيل بن بلال بن جَريرٍ أَنَّهُ قال: إِنَّمَا هو شَجْرِي بالشِّينِ والجِيمِ، فسُئل عن ذلك فشبَّك بينَ أصابعِه وقدَّمَهَا مِن صدْرِه، كأَنَّهُ يضمُّ شيئًا إليْه، أراد أَنَّهُ قُبِضَ وقد ضمَّتْهُ بِيَدَيْهَا إلى نَحْرِها وصَدْرِها، والشَّجْرُ التَّشبيكُ، وفي «المخصَّص» الشَّجْرُ: طَرَفُ اللَّحْيَيْنِ وقيل: هو الذَّقَنُ بِعَينِه، حيثُ اشتَجَرَ طَرَفَا اللَّحيينِ مِن أسفل، وقيل: هو مؤخَّرُ الفَمِ، وفي حديثٍ آخَرَ: ((ماتَ بينَ حاقِنَتِي وذاقِنَتِي)) وهو نحوُهُ.
          وقولُها: (وَدُفِنَ فِي بَيْتِي) نَسبَتِ البيتَ إليها كقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لأنَّ البيوتَ كانتْ لرسُولِ الله صلعم. وهذا كلُّهُ مِن فضلِها وكأنَّ هذا الكلامَ خرجَ منها في موطنٍ هُضِمَتْ فيه مِن حقِّهَا أو سُئلَتْ فأتَتْ بالحديثِ على وجهِه.
          و(هِلَالٍ) المذكورُ في حديثِ عائشةَ هو ابنُ أبي حُميدٍ ويُقال ابنُ حُميدٍ، وفي التِّرمِذيِّ: ابنُ مِقلاصٍ الجُهَنيُّ. وقيل ابنُ عبدِ الله، وقيل ابنُ عبدِ الرَّحمن. يُكنى أبا عمرٍو، ويُقال أبو أميَّة، ويُقال أبو الجهم الوزَّانُ الصَّيرفيُّ.
          وقولُه: (كَنَّانِي عُرْوَةُ وَلَمْ يُولَدْ لِي) فَعَلَهُ تبجيلًا وتفاؤلًا، وقد كنَّى الشَّارعُ عائشةَ بابنِ أختِها عبدِ الله بن الزُّبير.
          وأثَرُ سفيانَ التَّمَّار مِن أفرادِ البُخاريِّ، زادَ ابنُ أبي شَيبةَ: ((وقبْرَ أبي بكرٍ وعمرَ مسنَّمين)) وكذا أخرجه أبو نُعيمٍ عن سفيانَ بن دينارٍ التَّمَّار قال: دخلتُ... فَذَكَرَهُ، وفي «تاريخ البخاريِّ»: سفيان بن زيادٍ، ويُقال ابن دينارٍ التَّمَّار العُصْفُريُّ، وفرَّق بعضُهم بين ابن زيادٍ وابن دينارٍ كما ذكره الباجيُّ وَزَعم أَنَّهُ هو المذكورُ عندَ البُخاريِّ في «الصَّحيح» وقال بعضُهم: ابنُ عبد الملِكِ، ووقع في ابنِ التِّينِ: حُذيفةُ التَّمَّار في موضعينِ وهو سهوٌ. وكأنَّ البُخاريَّ أراد بهذا الأثَرِ بيانَ مذهبِهِ في ذلك، أو أراد مخالفةَ حديثِ عليٍّ السَّالفِ. /
          وفي «أخبار المدينة» لابن النَّجار الحافظِ أنَّ قبرَه صلعم وقبْرَ صاحِبَيْهِ في صُفَّةِ بيتِ عائشةَ، قال: وفي البيتِ موضِعُ قبرٍ في السَّهوةِ الشَّرقيَّة، قال سعيدُ بنُ المسيِّب: فيه يُدفَنُ عيسى بنُ مريمَ صلعم، وعن عبدِ الله بن سلامٍ قال: يُدفَنُ عيسى معَ رسولِ الله صلعم فيكونُ قبرُه رابعًا.
          وعن عثمانَ بن نِسْطَاس قال: رأيتُ قبرَ النَّبيِّ صلعم لَمَّا هَدَمَهُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ مرتفعًا نحوَ أربعةِ أصابع، ورأيتُ قبرَ أبي بكرٍ وراءَ قبْرِ رسولِ الله صلعم، وقبرَ عمرَ أسفَلَ منه.
          وعن عَمْرَةَ عن عائشةَ قالتْ: رأسُ النَّبيِّ صلعم مِمَّا يلِي المغْرِبَ، ورأسُ أبي بكرٍ عندَ رِجلَيْهِ وعمرُ خلفَ ظَهْرِهِ. وعن نافعِ بنِ أبي نُعَيمٍ: قبرُ النَّبيِّ صلعم أمامَهُمَا إلى القِبْلَةِ مقدَّمًا، ثُمَّ قبرُ أبي بكرٍ حِذاءَ مَنكِبَي رسولِ الله صلعم، وقبرُ عمرَ حذاءَ مَنكِبَي أبي بكرٍ.
          وعن محمَّدِ بنِ المُنْكَدِر قال: قبرُ النَّبيِّ صلعم هكذَا، وأبو بكرٍ خلْفَهُ، وقبرُ عمَرَ عندَ رِجْلَيْ رسولِ الله صلعم. وقال ابنُ عَقيلٍ: قبرُ أبي بكرٍ عندَ رجلَيْهِ صلعم، وقبرُ عمرَ عندَ رِجْلَيْ أبي بكرٍ. وقال ابنُ التِّيْنِ: يُقال: إِنَّ أَبا بكرٍ خَلْفَ رسُولِ الله صلعم قد جاوَزَ مَلْحَدُهُ مَلْحَدَ رسُولِ الله صلعم، ورأسُ عمرَ عندَ رِجْلَيْ أبي بكرٍ قد جازَتْ رجلاهُ رِجْلَيْ رسولِ اللهِ صلعم.
          وقد ذُكِرَ في صِفَةِ قبورِهم أقوالٌ:
          فالأكثر هكذا:
          
          
          
وقيل هكذا:
          
          
          
وقيل هكذا:
          
          
          
          وقولُه: (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ) ذَكَرَ خَلَفٌ وأبو نُعيمٍ الحافظُ أَنَّ البُخاريَّ رواه عن فَروة، كالحديثِ قَبْلَهُ في سقط الجدارِ، وأخرجه البخاريُّ أيضًا في الاعتصامِ مسنَدًا عن عُبيدِ بن إسماعيلَ عن أبي أسامة عن هشامٍ بزيادةِ: ((وعن هشامٍ عن أبيهِ أَنَّ عمرَ أرسلَ إلى عائشةَ، ائذني لي أن أُدفَنَ مع صاحِبَيَّ)) وفي «الإكليلِ» عن وَردانَ وهو الَّذي بنَى بيتَ عائشةَ لَمَّا سَقَطَ شِقُّه الشَّرقيُّ أيامَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وأنَّ القدمينِ لَمَّا بَدَتَا قال سالمُ بنُ عبدِ الله: أيُّهَا الأميرُ هذانِ قَدَمَا جَدِّي وجدِّكَ عمرَ. فتحصَّلْنَا على قولينِ:
          أحدُهما: أنَّ قائلَ ذلكَ عروةُ وذا في البخاريِّ.
          ثانيهِما: أنَّهُ سالمٌ وذا هنا، وقال أبو الفرجِ الأمويُّ في «تاريخه»: وَردانُ هذا هو أبو امرأَةِ أشعبَ الطَّامِعِ، وفي «الطَّبقاتِ» قال مالكٌ: قُسِّمَ بيتُ عائشةَ ثُلُثَيْنِ، قِسْمٌ فيه القبرُ وقِسْمٌ كان يكونُ فيه عائشةُ وبينَهُما حائطٌ، فكانتْ عائشة رُبَّمَا دخلتْ جَنْبَ القبرِ فُضُلًا، فلمَّا دُفِنَ عمرُ لم تدخُلْهُ إلَّا وهي جامعةٌ عليها ثيابَها.
          وقال عمرُو بنُ دينارٍ وعُبيدُ الله بنُ أبي يزيدَ: لم يكنْ على عهدِ رسولِ الله صلعم على بيتِ النَّبيِّ صلعم حائطٌ، فكان أوَّلَ مَن بَنَى عليهِ جدارًا عمرُ بنُ الخطَّابِ، قال عُبيدُ الله: كان جدارُه قصيرًا ثُمَّ بناهُ عبدُ الله بنُ الزُّبيرِ وزادَ فيه.
          وَقَال ابنُ النَّجَار: سقطَ جِدارُ الحُجْرَةِ ممَّا يلِي موضِعَ الجنائزِ في زمانِ عمرَ فظهرَتِ القبورُ، فما رُئيَ باكيًا أكثرَ مِن يومئذٍ، فأمَرَ عمرُ بقبَاطِيٍّ يُستَرُ بها الموضِعُ، وأَمَرَ ابنَ وَرْدانَ أَنْ يكشِفَ عن الأساسِ، فلمَّا بدتِ القدمانِ قامَ عمرُ فَزِعًا فقالَ لهُ عُبيدُ الله بنُ عبدِ الله بنِ عمرَ _وكانَ حاضرًا_ أيُّهَا الأميرُ لا تُرَعْ فهُمَا قَدَمَا جَدِّكَ عمرَ، ضاقَ البيتُ عنهُ فحُفِرَ له في الأساسِ، فقال عمرُ: يا ابنَ وَرْدان غَطِّ ما رأيتَ فَفَعَلَ.
          وفي روايةٍ أنَّ عمرَ أمَرَ أبا حفصَةَ مَولَى عائشةَ وناسًا معهُ فبنَوُا الجدارَ وجعلوا فيه كُوَّةً، فلمَّا فَرَغُوا منهُ ورفعُوهُ دَخَلَ مُزاحِمٌ مولى عمرَ فَقَمَّ ما سقَطَ على القَبْرِ مِن التُّرابِ، وبَنَى عمرُ على الحُجرةِ حاجِزًا في سقْفِ المسجِدِ إلى الأرْضِ وصارَتِ الحُجْرَةُ في وسطِهِ وهو على دَوَرَانِها، فلمَّا وَلِيَ المتوكِّلُ آزَرَها بالرُّخامِ مِن حولِها، فلمَّا كانَ في خلافةِ المقتفِي بعدَ الخمسِ مئة جُدِّدَ التَّأزيرُ وجُعِلَ قامةً وبَسْطَةً وعُمِلَ لها شبَّاكٌ مِنَ الصَّنْدَلِ والآبَنُوسِ وأدَارَهُ حولَها ممَّا يلي السَّقْفَ.
          ثُمَّ إِنَّ الحسنَ بنَ أبي الهيْجَاءِ صِهْرَ الصَّالحِ وزيرَ المصريِّينَ عمِلَ لها ستارةً مِنَ الدَّيبقِيِّ الأبيضِ مرقومةً بالإِبْرَيْسَمِ الأصفَرِ والأحمرِ، ثُمَّ جاءتْ مِن المستضيءِ بأمرِ الله ستارةٌ مِنَ الإِبْرَيْسَمِ البَنَفْسَجِيِّ وعلى دَوَرَانِ جَامَاتِها مرقومٌ الخلفاءُ الأربعةُ، ثُمَّ شِيلَتْ تلكَ ونُفِّذَتْ إلى مشهَدِ عليِّ بن أبي طالبٍ وعُلِّقَتْ هذِه، ثُمَّ إِنَّ النَّاصرَ لدينِ اللهِ نَفَّذَ ستارةً مِنَ الإبْرَيْسَمِ الأسودِ وطَرْزُهَا وجامَاتُها أبيضُ، فعُلِّقَتْ فوقَ تلكَ، ثُمَّ لَمَّا حجَّتِ الجهةُ الخليفِيَّةُ عَمِلَتْ ستارةً على شكْلِ المذكورةِ ونفَّذَتْها فعُلِّقَتْ.
          وقولُ عائشةَ: (لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ) دالٌّ _كما قال ابنُ التِّيْنِ_ على أَنَّهُ بَقِيَ في البيتِ موضِعٌ ليسَ فيه أَحَدٌ. ويُعارِضُه قولُها لَمَّا طُلِبَ منها أن يُدفَنَ عمرُ معهُما: أردْتُه لنَفْسِي؛ لأنَّ ظاهرَهُ أَنَّ البيتَ ليس فيه غيرُ موضِعِ / عمرَ، وقيل: كان ظَنًّا مِن عائشةَ، وفي «التَّكمِلَةِ» لابنِ الأبَّارِ مِن حديثِ محمَّدِ بنِ عبدِ الله العُمَرِيِّ حدَّثَنا شُعيبُ بن طَلحةَ مِن وَلَدِ أبي بكرٍ عن أبيهِ عن جدِّهِ عن عائشةَ قالتْ: قلتُ للنَّبِيِّ صلعم إِنِّي لا أَراني إلَّا سأكونُ بعْدَكَ فتأذنُ لي أن أُدفَنَ إلى جانِبِكَ؟ قال: ((وأنَّى لكِ ذلكَ الموضع، ما فيه إِلَّا قبْرِي وقبرُ أبي بكرٍ وعمرَ وقبرُ عيسى بنِ مريم)).
          وقولُها: (ادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ، لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا) إِنَّمَا ذلكَ لئلَّا يقولَ النَّاسُ: زَكَتْ بهم فتنجُو بالدَّفْنِ معهم، وشِبهَ هذا مِن القولِ، وقيل: فعلتْهُ تواضعًا للهِ ليرْحَمَها. واستئذانُ عمرَ عائشةَ لأَنَّ الرَّبَّ جلَّ جلالُه نَسَبَ تلكَ البيوتَ إلى أزواجِه. وهمُّهُ ألَّا يكونَ ينالُ ذلكَ خوفًا أن يكونَ قُصِّرَ به عن اللَّحاقِ بهم لتقصيرٍ كان منه، وهذِه صفةُ المؤمنِ قالَ تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} الآية [المؤمنون:60].
          وقولُه: (لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ) يعني أَنَّهُ إِنْ أُخِذَ بالأفضلِ كانَ أَوْلَى، ليس أنَّهُ لا يجوزُ غيرُه، ففيه دِلالةٌ على جوازِ وِلايةِ الفاضلِ على أفضلَ منهُ حين جَعَلَ إليهم أن يولُّوا مَن شاؤُوا منهم، وقال: إِنْ أصابَت الخلافةُ سَعْدًا فذلِكَ وإِلَّا فليستعِنْ به الخليفةُ. وبعضُهم أفضلُ مِن بعضٍ، ولو لم يجُزْ ذلكَ لَزِمَهُ أن يستخلفَ أفضلَهم، وأَنَّهُ لو لم يفعَلْ لم يَجُزْ أن يجعلَ إليهم أن يولُّوا مَن شاؤوا منهم.
          ويدلُّ على جوازِ ذلكَ قولُ أبي بكرٍ: قد رضيتُ لكم أَحَدَ صاحِبَيَّ هذين، يعني عمرَ وأبا عُبيدة، وقولُ عمرَ لأبي عُبيدةَ: امدُدْ يدكَ أُبايِعْكَ، وبيعةُ سعْدٍ وسعيدٍ وابنِ عمرَ معاويةَ وهم أفضلُ منهُ، وتسليمُ الحسَنِ الأمرَ إليه، وقولُه صلعم: ((ولعلَّ الله أن يُصْلِحَ بهِ بين فِئَتينِ عظيمتينِ مِنَ المسلمين)) وبيعةُ سائرِ الصَّحابةِ لمعاويةَ بحضْرَةِ بقيَّةِ أهلِ بدْرٍ مِن قريشٍ ومَن أنفقَ مِن قَبْلِ الفتحِ وقاتلَ، وبيعةُ ابنِ عمرَ ليزيدَ وقولُه لبنِيهِ: لئن نكثَ أحدُكُم بَيْعَتَه إِلَّا كانت الفَيْصَلَ بَيْنِي وبينَهُ، وبيعتُهُ لعبدِ المَلِكِ.
          وأَمَّا قولُه حينَ قال معاويةُ: مَن أحقُّ بهذا الأمْرِ منَّا؟ أَنَّهُ هَمَّ أنْ يقولَ لهُ: أحقُّ بذلكَ مَن أَدخلَكَ فيه كرهًا، يريدُ لو كان الفضْلُ لكانَ ثَمَّ مَن هو أفضلُ منه. وبعضُهم لا يرَى أن يليَ أحدٌ بحضْرَةِ مَن هو أفضلُ منهُ، والأوَّلُ أصحُّ لِمَا فيه مِنَ الطَّعْنِ على مَنْ سَلَفَ.
          وفيه التَّعزيةُ لِمَن يحضرهُ الموتُ بما يُذكَرُ مِن صالحَ عَمَلِه. والمهاجرونَ الأوَّلونَ الَّذينَ صلَّوا القِبلَتَيْنِ وأنفقُوا مِن قَبْلِ الفتْحِ وقاتلُوا.
          وقولُه: (تَبَوَّءُوا الدَّارَ) يعني المدينةَ، قدِمَها عمرُو بنُ عامرٍ حين رَأَى بِسَدِّ مأرِبَ ما دلَّهُ على فسادِه، فاتَّخَذ المدينةَ وطنًا لَمَّا أرادَ اللهُ مِن كرامةِ الأنصارِ لنُصْرَةِ نبيِّهِ وبالإسلامِ.
          وقولُه: (وَالإِيمَانَ) قال محمَّد بن الحسن: الإيمانُ اسمٌ مِن أسماءِ المدينةِ. فإنْ لم يكنْ كذلكَ فيحتملُ أن يريدَ تبوَّءُوا الدَّارَ وأجابُوا إلى الإيمانِ مِن قَبْلِ أن تُهاجروا إليهم.
          وقولُه: (يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ) يقول: يُفعَل بهم مِن التَّلطُّفِ والبِرِّ ما كان يفعَلُهُ الرَّسُولُ صلعم والخليفتانِ بعْدَهُ.
          وقولُه: (وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ) يعني ما دونَ الحدودِ وحقوقِ النَّاس، وقيل لِأهلِ المدينة ذِمَّةٌ للعهدِ الَّذي له، قال تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة:90] فالإلُّ اللهُ، وقيل القرابةُ، وقيل العهدُ، والذِّمَّةُ العهدُ.