التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب زيارة القبور

          ░31▒ بَابُ زِيَارةِ القُبُورِ.
          1283- ذَكَرَ فيه حديثَ أَنَسٍ أنَّه صلعم (مَرَّ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ) الحديث. وقد سلف في بابِ قول الرَّجلِ للمرأةِ عند القبرِ اتَّقي الله واصبرِي [خ¦1252].
          أهلُ العلمِ قاطِبةً _كما قال الحازميُّ_ على الإذن في زيارةِ القُبورِ للرِّجالِ، وفي «صحيح مسلم» مِن حديثِ عائِشَةَ أنَّه صلعم كان يَخرُجُ مِن آخِرِ اللَّيلِ إلى البقيعِ فيقول: ((السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين)) ومِن حديثِ بُرَيْدَةَ ((كان رسولُ الله صلعم يُعلِّمُهم إذا خرجوا إلى المقابرِ يقولوا)) الحديث. وغير ذلك مِن الأحاديث.
          وكَرِهَ قومٌ ذلك لأنَّه رُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم أحاديثُ في النَّهْيِ عنها، وقال الشَّعْبيُّ: لولا أنَّ رسولَ الله صلعم نَهَى عن زيارةِ القبورِ لَزَرْتُ قبرَ ابنتِي. قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: كانوا يكرهون زيارةَ القبورِ. وعن ابن سِيرِينَ مثلُه.
          ثمَّ وردتْ أحاديثُ بِنَسْخِ النَّهْيِ وإباحةِ زيارتِها ففي أفرادِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: ((زوروا القبورَ فإنَّها تُذكِّرُ الموتَ)) ومِن حديثِ بُرَيدةَ: ((نهيتكم عن زيارةِ القبورِ فزوروها)) ورَوَى ابنُ أبي شيبةَ مِن حديثِ أنسٍ: نهى رسولُ الله صلعم عن زيارةِ القبور، ثمَّ قال: ((زوروها ولا تقولوا هجرًا)) ورُوي مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ أيضًا. وفي «المستدرك» مِن حديثِ أبي ذرٍّ قال: قال لي رسولُ الله صلعم: ((زُر القبورَ تذكَّرُ بها / الآخرةَ)) ثمَّ قال: رواتُه ثِقَاتٌ. وللزَّمْخَشريِّ: ((ولا تزرْها باللَّيل)).
          وحديثُ البابِ يشهدُ لأحاديث الإباحةِ لأنَّه ◙ إنَّما عَرَض عليها الصَّبرَ ورغَّبها فيه، ولم يُنكِرْ عليها جلوسَها عنده ولا نهاها عن زيارتِه؛ لأنَّه لا يَترُكُ أَحَدًا يستبيحُ ما لا يجوزُ بحضْرَتِه ولا ينهاه، لأنَّ الله فَرَضَ عليه التَّبليغَ والبيانَ لِأُمَّتِه. فحديثُ أَنَسٍ وشبهُهُ ناسخٌ لأحاديث النَّهْيِ في ذلك، وحديثُ بُرَيدةَ صريحٌ فيه، وأظنُّ الشَّعْبيَّ والنَّخَعيَّ لم تبلُغْهُما أحاديثُ الإباحة.
          وكان الشَّارعُ يأتي قبورَ الشُّهداءِ عند رأسِ الحوْلِ فيقول: ((السَّلامُ عليكم بما صبرتم فَنِعْمَ عُقْبى الدَّار)) وكان أبو بكرٍ وعَمُرُ وعُثْمَانُ يفعلون ذلك. وزارَ الشَّارعُ قَبْرَ أُمِّه يومَ الفتْحِ في أَلْفِ مُقَنَّعٍ. ذكرَهُ ابنُ أبي الدُّنيا. وذَكَرَ ابنُ أبي شيبةَ عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ وأنسٍ إجازةَ الزِّيارةِ. وكانت فاطمةُ تزورُ قَبْرَ حمزةَ كلَّ جمعةٍ. وكان ابنُ عُمَرَ يزورُ قبرَ أبيه فيقفُ عليه ويدعو له. وكانت عائشةُ تزورُ قبْرَ أخيها عبدِ الرَّحمن وقبرُه بمكَّةَ، ذَكَرَهُ أَجْمَعَ عبدُ الرزَّاق.
          وقال ابنُ حبيبٍ: لا بأسَ بزيارةِ القُبورِ والجلوسِ إليها والسَّلامِ عليها عند المرورِ بها، وقد فعلَ ذلكَ رسولُ الله صلعم. وسُئل مالكٌ عن زيارتِها فقال: قد كان نُهِيَ عنه ثمَّ أُذِنَ فيه، فلو فَعَل ذلك إنسانٌ ولم يقل إلَّا خيرًا لم أرَ بذلك بأسًا. ورُوِيَ عنه أنَّه كان يضعِّفُ زيارتَها، وقولُه الَّذي تُضَعِّفُه الآثارُ، وعمَلُ السَّلفِ أَوْلَى بالصَّواب. وحَمَلَ بعضُهم حديثَ لَعْنِ زوَّاراتِ القبورِ على مَن يُكثِرُ منها لأنَّ ((زوَّارات)) للمبالغة.
          قال القُرْطبيُّ: ويمكنُ أن يُقال إنَّ النِّساء إنَّما يُمنعن مِن إكثارِ الزِّيارةِ لِمَا يؤدِّي إليه الإكثارُ مِن تضييعِ حقوقِ الزَّوجِ والتبرُّجِ والشُّهرةِ والتَّشبُّهِ بمَن يُلازِمُ القبورَ لتعظيمِها، ولِمَا يُخافُ عليها مِن الصُّراخِ وغيرِ ذلك مِن المفاسد، وعلى هذا يُفرَّق بين الزائراتِ والزوَّاراتِ.
          قلتُ: الحديثُ وَرَدَ بهما، والأُمَّةُ مُجْمِعةٌ على زيارةِ قبرِ نبيِّنا صلعم وأبي بكرٍ وعُمَرَ، وكان ابنُ عُمَرَ إذا قَدِمَ مِن سفرٍ أتى قبْرَهُ المكرَّمَ فقال: السَّلامُ عليك يا رسولَ الله، السَّلامُ عليكَ يا أبا بكرٍ، السَّلامُ عليكم يا أبتاه.
          ومعنى النَّهْيِ عن زيارةِ القُبورِ إنَّما كانَ في أوَّلِ الإسلامِ عندَ قُرْبِهم بِعبادةِ الأوثان واتِّخاذِ القبورِ مساجد، فلمَّا استحكمَ الإسلامُ وقَوِيَ في قلوبِ النَّاسِ وأُمِنَتْ عبادةُ القُبورِ والصَّلاةُ إليها نُسِخَ النَّهْيُ عن زيارتِها؛ لأنَّها تُذكِّرُ الآخرةَ وتُزَهِّدُ في الدُّنيا. ورُوِّينا عن طاوسٍ قال: كانوا يستحبُّون ألَّا يتفرَّقوا عن الميِّتِ سَبْعَةَ أيَّامٍ لأنَّهم يُفتَنونَ ويُحاسبونَ في قبورِهم سبعةَ أيَّامٍ.
          وفي حديثِ أنسٍ ما كان ◙ عليهِ مِن التَّواضُعِ والرِّفقِ بالجاهِلِ لأنَّه لم ينتهِرْ المرأةَ حين قالت له: (إِلَيْكَ عَنِّي) وعَذَرَها بمصيبتِها، وإنما لم يتَّخِذ بوَّابِينَ لأنَّ الله تعالى أعلَمَه أنَّه يعصمُه مِن النَّاسِ. وفيه أنَّه مَن اعتُذِر إليه بعذرٍ لائحٍ أنَّه يجبُ عليه قَبولُه.
          فَرْعٌ: انفردَ الماوَرْدِيُّ بقولِه: لا تجوزُ زيارةُ المسلمِ قبرَ قريبِه الكافر، مستدِلًّا بقولِه تعالى{وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] والأحاديثُ على خلافِ ما قال.