التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الكفن في ثوبين

          ░19▒ بَابُ الكَفَنِ في ثَوْبَينِ.
          1265- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنِ عبَّاسٍ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ _أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ_ فقَالَ ◙: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) الحديث. وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          وترجم عليه:
          ░20▒ بَابُ الحَنُوطِ لِلْمَيِّتِ
          1266- ثمَّ ذَكَرَهُ أيضًا ولفظه: (فأقْصَعَتْه _أو قال: فأقْعَصَتْه_) وفيه: (وَلَا تُحَنِّطُوهُ).
          ثمَّ ترجمَ عليه:
          ░21▒ بَابٌ كَيْفَ يُكفَّنُ المحرِمُ.
          1267- 1268- ثمَّ ذَكَرَه فيه مِن طريقينِ عن ابنِ عبَّاسٍ.
          وهذا الرَّجُلُ لا أعلمُه وَرَدَ مسمًّى، وكان وقوعُه عنها عند الصَّخرات موقف رسولِ الله صلعم كما قاله ابنُ حزمٍ.
          وفيه إطلاقُ الواقفِ على الرَّاكبِ. والرَّاحِلَةُ النَّاقةُ تُطلَقُ على الذَّكرِ والأنثى. والوَقْصُ كسْرُ العُنُقِ، والظَّاهِرُ أنَّ (أَوْ) مِن الرَّاوِي عن ابن عبَّاسٍ، وهما لغتانِ والثُّلاثيُّ أفصحُ. والقَعْصُ قتْلُه لِحِينِهِ ومنه قُعَاصُ الغنم. والقَصْعُ: الشَّدْخُ وهو خاصٌّ بكسْرِ العظم، وقد يُستعارُ في كسْرِ الرَّقبةِ على بُعدِه.
          وقولُه: (لَا تُحَنِّطُوهُ) هو بالحاء المهمَلَةِ أي لا تُمِسُّوه حَنوطًا، والحَنوطُ والحِناطُ أخلاطٌ مِن طِيبٍ تُجمَعُ للميِّتِ خاصَّةً لا تُستعملُ في غيرِه.
          وترجم له (الحَنُوطِ) لأنَّ فيه: (وَلَا تُحَنِّطُوهُ) للمُحرِمِ فدلَّ أنَّه إذا لم يكن مُحِرمًا يُحنَّطُ، وهو مستحبٌّ على الأصحِّ، وقيل واجبٌ، وجزم ابنُ الحاجبِ باستحبابِه ثمَّ قال: والكافورُ أَولى، وهو يُفهِم أنَّه غيرُ الحنوطِ وهو أحدُ أجزاءِ الحَنوطِ. والتَّخميرُ التَّغطيةُ.
          وقولُه: (وَكَفَّنُوْهُ فِي ثَوْبَيْهِ) إنَّما لم يزدْهُ ثالثًا إكرامًا له كما في الشَّهيدِ لم يُزَدْ على ثيابِه.
          وقولُه: (فَإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا) معناهُ على هيئتِهِ الَّتي ماتَ عليها ليكون ذلك علامةً لحَجِّه، كالشَّهيدِ يأتي وأوداجُه تشخُبُ دمًا، وقال الدَّاوديُّ: يُخرَج مِن قبرِه فيأتي بما كان بَقِيَ عليه، وهو غيرُ بيِّنٍ. وفي روايةٍ أُخرى: <مُلَبِّدًا> أي على هيئتِه مُلبِّدًا شَعَرَهُ بصمْغٍ ونحوِه، وفي أفرادِ مسلمٍ: ((ولا وَجْهَهُ)) قال البيهقيُّ: وذِكْرُ الوجْهِ وَهَمٌ مِن بعضِ رُواتِه في الإسنادِ، والمتنُ الصَّحيحُ: ((لا تغطُّوا رأسَهُ)) كذا أخرجه البُخاريُّ [خ¦1839] وذِكرُ الوجهِ فيه غريبٌ.
          أمَّا فوائدُهُ:
          فالأُولى: قال مالكٌ وأبو حنيفةَ لا أحبُّ لأحدٍ أن يُكفَّنَ في أقلَّ مِن ثلاثةِ أثوابٍ، وإن كُفِّنَ في ثوبينِ فحسنٌ على ظاهرِ هذا الحديث: (فِي ثَوْبَيْهِ).
          الثَّانيةُ: ظاهرُ الحديثِ بقاءُ حُكْمِ الإحرامِ بعد الموت، وبه قال عثمانُ وعليٌّ وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والثَّوريُّ وإسحاقُ والشَّافعيُّ وأحمدُ وأهلُ الظَّاهرِ، فيحرُم سَتْرُ رأسِهِ وتطييبُه، ولم يقل به مالكٌ ولا أبو حنيفةَ وهو مذهبُ الحسنِ والأوزاعيِّ وحُكيَ عن عثمانَ وعائِشَةَ وابنِ عُمَرَ وطاوس، وهو مقتضى القياسِ لأن بالموتِ انقطع التَّكليفُ.
          والشَّافعيُّ قدَّمَ ظاهرَ الحديثِ على القياسِ، وأُجيبَ عن الحديثِ بأنَّه خاصٌّ بذلك الرَّجُلِ ولِذلك قال: (فَإِنَّهُ) وما قال: المُحرِم، ولِذلكَ لا يُطافُ به ولا تُكمَلُ مناسكُه، ولأنَّه أَمَرَ بغسْلِه بالسِّدْر والمُحرِمُ ممنوعٌ منه كما حكاه ابنُ المنذر في «إشرافه» وهو غريبٌ عنه.
          وللشَّافعيِّ أن يقولَ: العلَّةُ الإحرامُ وهي عامَّةٌ في كلِّ مُحرمٍ والأصلُ عدمُ الخُصوصِ، وقد ثبتَ أنَّه صلعم قال: ((يُبعثُ المرءُ على ما ماتَ عليه)) وهو عامٌّ في كلِّ صورةٍ / ومعنى، والشَّهيدُ يأتي يومَ القيامةِ ودمُه شهيدٌ، واعتذر الدَّاوديُّ فقال: لم يبلُغ مالكًا هذا الحديث.
          فإن قلتَ: قد غسَّلَ ابنُ عُمَرَ ابنَه واقدًا بالجُحفَةِ وخمَّر رأسَه ووجهَهُ وكفَّنَه يومَ ماتَ وهو مُحرِمٌ وقال: لولا أنَّه أحرمَ لَطَيَّبْناه. أخرجه في «الموطَّأ». قلتُ: لعلَّه لم تبلُغْهُ السُّنَّةُ.
          وفي «مصنَّف ابن أبي شيبةَ» عن عطاءٍ سُئل عن المحرِمِ يُغطَّى رأسُه إذا ماتَ، فقال: غطَّى ابنُ عُمَرَ وكشف غيرُه. وقال طاوسٌ: يُغيَّبُ رأسُ المحرِمِ إذا ماتَ. وقال الحسنُ: إذا ماتَ المحرِمُ فهو حلالٌ، وكذا قاله عليٌّ وعائِشَةُ وعامرٌ. وقال أبو جعفر: المحرِمُ يُغطَّى رأسُه ولا يُكشَفُ. قال ابن حزمٍ: وصحَّ عن عائشةَ تحنيطُه وتطييبُه وتخميرُ رأسه، قال: وقد صحَّ عن عثمانَ خلافُه.
          الثَّالثةُ: فيه أنَّ الكفنَ مِن رأسِ المالِ وقد سلف.
          الرَّابعةُ: أنَّ الْمُحرِمَ لا يُكفَّنُ إلَّا في مِثْلِ لباسِه غير مخيطٍ.
          الخامسةُ: أنَّ للمُحْرِمِ أنْ يبدِّلَ ثوبيهِ بثوبينِ غيرِهما لروايةِ: <وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ>، وقد ذكرها البُخاريُّ كذلك مِن ثلاثِ طُرُقٍ وإنْ كانَ في الرِّوايةِ: (ثَوبَيهِ).
          السَّادسةُ: غسلُه بالسِّدْرِ وأنَّه جائزٌ للمُحْرِم، وفيه ردٌّ على مالكٍ وأبي حنيفةَ وآخرين حيث منعوه.
          السَّابعةُ: أنَّ إحرامَ الرَّجُلِ في الرَّأسِ دون الوجه، وروايةُ الوجه قد علمتَ ما فيها، وفي روايةٍ للطَّرطوشيِّ في كتاب «الحجِّ» مِن حديثِ أبي الشَّعثاءِ عنه مرفوعًا: ((لا تُخَمِّرُوا رأسَه وخَمِّروا وجهه)).
          الثَّامنةُ: إنَّ الميِّتَ إذا ماتَ مُحْرِمًا لا يُكمِلُ عليه غيرُه كالصَّلاة، وقد وقع أجرُه على الله.
          التَّاسعةُ: فيه أنَّ مَن شَرَعَ في طاعةٍ ثمَّ حال بينه وبين إتمامِها الموتُ فيُرجَى له أنَّ الله تعالى يكتبُه في الآخرةِ مِن أهلِ ذلك العمل، ويَقْبَلُه منه إذا صحَّت النِّيَّة، ويشهد له قولُه تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} الآية[النساء:100].
          فَرْعٌ: الموتُ يُبطِلُ الصَّلاةَ، وفي الصومِ وجهانِ أصحُّهما نَعَمْ كالصَّلاةِ، والثَّاني لا كالإحرام، لأنَّه صلعم قال لعُثمانَ: ((أنت تفطِرُ عندنا اللَّيلةَ)) رواه ابنُ حِبَّان في «صحيحه» والحاكمُ في «مستدركه» وقال: صحيحُ الإسنادِ.
          فائدةٌ: قال ابنُ التِّين في كتاب الحجِّ: في قولِه: ((ولا تُغَطُّوا رأسَهُ)) دِلالةٌ على أنَّ للإحرام تعلُّقًا بها، وكذلك الوجهُ، وبه قال ابنُ عُمَرَ ومالكٌ، وغطَّى عثمانُ وجهَه. قال: واختلف أصحابنا هل ذلك على الكراهة أو التَّحريم؟ وقال أبو حنيفةَ: الوجهُ كالرَّأسِ، وقال الشَّافعيُّ: لا تعلُّق له بالوجه.