التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الميت يسمع خفق النعال

          ░67▒ بَابٌ المَيِّتُ يسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ.
          1338- حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ / عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ) الحديثَ.
          وعندَ مسلمٍ قال قَتَادةُ: وذُكِرَ لنا أنَّه يُفسَحُ له في قَبْرِه سبعونَ ذِراعًا وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُوْنَ.
          وقولُه: (وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ) قد سَلَفَ أنَّه إذا قال مِثْلَ هذا يكونُ أخذَهُ عنه في المذاكرةِ غالبًا لا جَرَمَ. قال أبو نُعيمٍ الأصْبَهانيُّ: إنَّ البُخاريَّ رواهُ عن خَليفةَ وعيَّاشٍ الرَّقَّام، ولِلَّالَكَائيِّ: ((لولا أنْ لا تدافنوا لدعوْتُ اللهَ أن يُسمعَكم عذابَ القبرِ)) وفي البابِ عن أبي هريرةَ والبراءِ، وللتِّرمِذيِّ: ((مَلَكَاِن أسودانِ أزرقانِ يُقال لأحدهِمَا: المنكَرُ وللآخَرِ: النَّكير)) وفي «الأوسط» للطَّبرانيِّ: ((أَعْيُنُهُمَا مِثْلُ قُدُورِ النُّحَاسِ، وَأَنْيَابُهُمَا مِثْلُ صَيَاصِي الْبَقَر)) وللنَّسائيِّ في «كُناهُ»: ((منكرٌ ونكيرٌ وأنكرُ)) زادَ ابنُ الجوزيِّ بسندٍ ضعيفٍ: ((ناكور وسيِّدُهم رومان)).
          إذا تقرَّرَ ذلك فالكلامُ عليه مِنْ أوجُهٍ:
          أحدُها: قولُه: (إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ) كيفيَّةُ وضْعِه أن يكونَ مستقبِلَ القِبلةِ على شِقِّه الأيمنِ لأنَّه كذلكَ فُعِلَ برسولِ الله صلعم وكذلك كان يفعَلُهَ، فلو وُضِعَ على اليسارِ كُرِهَ ولم يُنبَشْ، وقضيَّةُ كلامِ بعضِ أصحابِنا أنَّه لا يجوز، وأمَّا وضعُه للقِبلةِ فهو واجبٌ على الأصحِّ.
          وقولُه: (وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ) كرَّرَ اللَّفظَ والمعنى واحدٌ.
          ثانيها: (قَرْعَ نِعَالِهِمْ) صوتُها عند المشي، وهو دالٌّ على جوازِ لُبْسِ النَّعْلِ لِزائرِ القُبورِ الماشِي بينَ ظهْرَانَيْها، وأمَّا حديثُ صاحبِ السِّبتيَّتين: ((ألقِ سِبتيَّتيك)) أخرجهُ الحاكمُ عن بَشير بن الخَصَاصِيَةِ وصحَّح إسنادَه، وكذا ابنُ حَزْمٍ، وقال أحمدُ: إسنادُه جيِّدٌ.
          وقال عبدُ الله بنُ أحمدَ: سمعتُ بعضَ الأشياخِ _وأظنُّه أبي_ يقولُ: كان يزيدُ بن زُرَيعٍ في جِنازةٍ فأرادَ أنْ يدخُلَ المقابرَ فوقَفَ وقال: حديثٌ حسنٌ وشيخٌ ثِقَةٌ، وخَلَعَ نعلَيْهِ ودخلَ. وفي «عِلَلِ الخلَّال»: قال محمَّدُ بنُ عوفٍ: رأيتُ أحمدَ أتَى المقبرةَ فنَزَعَ نَعْلَيْهِ فسُئل عن ذلكَ فحدَّثَنَا بحديثِ بَشِيرٍ.
          وذَكرَ عبدُ الحقِّ عن ابنِ أيمنَ أنَّ بشيرًا هو المقولُ له، فأجابَ الخطَّابيُّ عنه بأنْ قال: يُشبه أن يكونَ إنَّما كَرِهَ ذلك لِمَا فيها مِنَ الخُيَلاء لأنَّها مِن لباسِ أهلِ السَّرَفِ والتَّنعُّمِ فأحبَّ أنْ يكونَ دخولُه المقبرةَ على زِيِّ التَّواضُعِ والخشوعِ، واعترضَهُ ابنُ الجوزيِّ فقال: هذا تكلُّفٌ منه لأنَّ ابنَ عمرَ كان يلبَسُ النِّعال السِّبتيَّةَ ويتوخَّى السُّنَّةَ في نِعَالِه إمَّا لأنَّ نِعالَهُ ◙ كانتْ سِبتيَّةً أو لأنَّ السِّبتيَّةَ تُشبِهُها، وما كانَ ابنُ عمرَ يقصِدُ التَّنعُّمَ بل يقصِدُ السُّنَّةَ.
          وليس في هذا الحديثِ سِوى الحكايةُ عمَّن يدخُلُ المقابِرَ وذلكَ لا يقتضي إباحةً ولا تحريمًا، ويدُلُّ على أنَّه أَمَرَهُ بخلْعِهِمَا احترامًا للقبورِ لأنَّه نَهَى عن الاستنادِ إليه والجلوسِ عليه، وأحسَنُ مِنْ ذلكَ كلِّه أنَّه وَرَدَ في بعضِ الأحاديثِ أنَّ صاحبَ القبْرِ كان يُسأَلُ فلمَّا سَمِعَ صريرَ السِّبتِيَّتينِ أصغى إليه فكادَ يهلكُ لعدَمِ جوابِ الملَكين، فقال له صلعم: ((ألْقِهِمَا لئلَّا تُؤذيَ صاحبَ القبرِ)) ذكرَهُ أبو عبدِ الله الحكيمُ التِّرمِذيُّ. وأَبعدَ ابنُ حَزْمٍ فقال: يحرُمُ المشيُ بهما بين القبورِ.
          ولا يُكرَهُ عندَنا المشيُ بالنَّعلينِ فيها. وقال الماوَرْديُّ: يخلعُهُما على طِبْقِ الحديثِ، وكرِهَهُ أحمدُ كما سَلَفَ، وسواءٌ فيه النَّعلُ والخُفُّ، وأكثرُ أهلِ العلمِ لا يرَون بذلكَ بأسًا.
          ثالثُها: قولُه (أَتَاهُ مَلَكَانِ) هما منكَرٌ ونكيرٌ كما سَلَفَ.
          وقولُه: (فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا) يعني الجَنَّةَ والنَّارَ.
          وقولُه: (وَأَمَّا الكَافِرُ أَوِ المنَافِقُ) الَّذي يدلُّ عليه الحديثُ أنَّه المنافقُ لأنَّه يُقِرُّ بلسانِه ولا يصدِّق بقلبِه (فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ) والكافِرُ لمْ يكنْ يقولُ ذلكَ.
          رابعُها: قولُه (فَيُقَالُ لَهُ: لاَ دَرَيْتَ) قال الدَّاوُدِيُّ: أيْ لا وَقَفْتَ على مَقامِكَ هذا ولا في البعثِ. (وَلَا تَلَيْتَ) قال: أي لا تَبِعْتَ الحقَّ.
          وقال غيرُه: وقعَ هنا: (تَلَيْتَ) على وزن فَعَلْتَ، والصَّوابُ لا ائْتَلَيْتَ على وزْنِ افْتَعَلْتَ مِنْ قولِكَ: ما أَلَوْتُ أي: ما استطعتُ، يريدُ لا دريتَ ولا استطعتَ أنْ تدريَ، قاله الأصمعيُّ. وقال الفرَّاءُ: لا دريتَ ولا ائتليتَ أي ولا قصَّرْتَ في طلَبِ الدِّرايةِ ثُمَّ لا تدرِي ليكونَ ذلكَ أشقى لك. قال: وهو افتَعَلْتَ مِنْ أَلَوتَ في الشَّيءِ إذا قصَّرْتَ فيه.
          قال القَزَّاز: وقيلَ الرِّوايةُ: <لَا دَرَيْتَ وَلَا أَتْلَيْتَ> مِنَ الإتْلَاءِ، أَي ولَا أَتْلَتْ إِبِلُكَ، أي ولا ولَدَتْ أولادًا تتلُوها، قال ابن سرَّاجٍ: وهذا بعيدٌ في دعاء الملَكين للميِّت، وأيُّ مالٍ له؟ وقيل: (لَا دَرَيْتَ) ولا أحسنْتَ أن تَتْبَعَ مَنْ يدري. وحُكِيَ: (وَلَا تَلَيْتَ) بمعنى تَلَوْتَ على الإتْباع لِـ(دَرَيْتَ) وهذا قالَه القَزَّازُ في مَثَلٍ تقولُه العربُ في الدُّعاءِ على الإنسان.
          وقولُ الدَّاوُديِّ غيرُ بيِّنٍ فلا وجْهَ لهُ إلَّا أنْ يريدَ ولا وَقَفْتَ بحُجَّةٍ في مَقامِكَ هذا ولا في البعْث. قال أبو عبدِ الملِكِ: ويُقرأُ (وَلَا تَلَيْتَ) بإسكانِ التَّاءِ وفتْحِها، ومعناهُ بِفَتْحِها أي لا اتَّبَعْتَ، مأخوذٌ مِنْ تلاوَةِ القُرآنِ الَّتي يَتْبَعُ بعضُها بعضًا.
          وقال صاحبُ «المطالع» قيل: معناهُ لا تلَوْتَ يعني القُرآنَ، / أي لم تدْرِ ولم تَتْلُ، أي لم تنتفِعْ بِدِرَايتِكَ وتلاوتِكَ كما قال: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة:31] قالَه أبو الحسينِ، وَرَدَّ قولَ ابنِ الأنباريِّ وغيرِه، وجاءَ في «مسند أحمدَ» مِنْ حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ: ((لا دَرَيْتَ ولا تَلَوْتَ)) أي لم تَتْلُ القرآنَ فلَمْ تنتَفِعْ بدِرايتِكَ ولا تلاوتِكَ. وهذا تفسيرٌ صريحٌ مُغْنٍ عن كلِّ ما قيل فيه.
          فائدةٌ: قيلَ في قولِه تعالى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] قيل: في القبرِ إذا انصرفَ الملَكانِ إنْ كانَ سعيدًا كانَ رُوحُه في الجنَّة، وإنْ كانَ شَقِيًّا ففي سِجِّينٍ على صخْرةٍ على شَفيرِ جهنَّم في الأرضِ السَّابعةِ، وعن ابن عبَّاسٍ: يكونُ قومٌ في البَرْزخِ ليسوا في جنَّةٍ ولا نارٍ. ويدلُّ عليه قصَّةُ أصحابُ الأعرافِ، واللهُ أعلَمُ ما يُقالُ لِمَنْ يُدخَلُ مِنْ أصحابِ الكبائرِ، إنْ كان يُقال له نَمْ صالحًا أو يُسْكَتُ عنه.
          وقيل: إنَّ أرواح السُّعداءِ تطَّلِع على قبورِها، وأكثر ما يكونُ منها ليلةَ الجمعة ويومَها وليلةَ السَّبْتِ إلى طلوعِ الشَّمسِ فإنَّهم يَعْرِفُونَ أعمالَ الأحياءِ، يسألونَ مَنْ ماتَ مِنَ السُّعداء: ما فَعَلَ فلانٌ؟ فإنْ ذَكَرَ خيرًا قال: اللهمَّ ثبِّتْهُ، وإن كان غيرَه قال: اللهمَّ راجِعْ به، وإن قيلَ لهم: ماتَ، قيل: ألم يأتِكم؟ قالوا: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ، سُلِكَ به غيرُ طريقِنا، هُوِيَ به إلى أُمِّهِ الهاويةِ. وقيل: إنَّهم إذا كانوا على قبورِهم يسمعونَ مَنْ يُسَلِّمُ عليهم فلو أُذِنَ لهم لردُّوا السَّلام.
          خامسُها: الثَّقَلانِ الجنُّ والإنسُ، قال ابنُ الأنباريِّ: إنَّما قيلَ لهما الثَّقَلانِ لأنَّهما كالثَّقَلِ للأرْضِ وعَلَيها، والثِّقْلُ بمعنى الثَّقيلِ وجمعُهما أثقالٌ، ومُجراهما مُجرى قولِ العَرَبِ: مِثْلٌ ومَثَلٌ وشِبْهٌ وشَبَهٌ، وكانتِ العربُ تقولُ للرَّجُلِ الشُّجاعِ: ثَقَلٌ على الأرض، فإذا ماتَ أو قُتِلَ سَقَطَ ذلكَ عنها. قالت الخنساءُ ترثِي أخاها:
أَبَعْدَ ابْنِ عَمْرٍو مِنَ آلِ الشَّرِيـــ                     ــدِ حلَّتْ به الأَرْضُ أَثْقَالَها
          سادسُها: قولُه (ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً) وفي روايةٍ: ((بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيد)) وفي أُخرى: ((ضربةً مِنْ حديدٍ)) أي مِنْ رَجُلٍ حديدٍ، فحَذفَ الموصوفَ وأقامَ الصِّفةَ مقامَهُ، قالَ أبو الحسنُ: معناه مِنْ حَنِقٍ شديدِ الغَضَبِ.
          سابعُها: سماعُ قَرْعِ نعْلِه وكلامِه مع الملَكين يُبيِّنُ أنَّ قولَه تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] أنَّه على غيرِ العُمومِ، وقال المهلَّبُ: لا معارَضَةَ بينهما لأنَّ كلَّ ما نُسِبَ إلى الموْتَى مِنْ إسماعِ النِّداءِ والنَّوْحِ فهي في هذا الوقْتِ عندَ الفتنةِ أوَّل ما يُوضعُ الميِّتُ في قبْرِه، أو متى شاء اللهُ إلى أن تُردَّ أرواحُ الموتَى ردَّها إليهم لَمَّا يشاءُ {لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ثُمَّ قالَ بعَد ذلكَ: لا يَسمعونَ كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:8] {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22].
          ثامنُها: فيه أنَّ فتنةَ القبْرِ حقٌّ، وهو مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ كما ستعلمُه إن شاء الله في بابِهِ.
          تاسعُها: المرادُ (مَنْ يَلِيهِ) مِنَ الملائكةِ الَّذينَ يَلُونَ فِتْنَتَهُ ومساءلَته في قبرِه، وإنَّما مُنِعَت الجنُّ سماعَ هذِه الصَّيحةَ ولم تُمنَعْ سماعَ كلامِ الميِّتِ إذا حُمِلَ وقال: قدِّمُوني قدِّمُوني كما سَلَفَ لأنَّ كلامَ الميِّت حين يُحمَلُ إلى قبرِه في حكمِ الدُّنيا وليسَ فيه شيءٌ مِنَ الجزاءِ والعُقوبةِ؛ لأنَّ الجزاءَ لا يكونُ إلَّا في الآخرةِ، وإنَّما كلامُه اعتبارٌ لِمَنْ سَمِعَهُ وموعظةٌ فأسمعَها اللهُ الجنَّ لأنَّه جعلَ فيهم قُوَّةً يَثْبُتُونَ بها عندَ سماعِه ولا يُصعقونَ، بِخِلافِ الإنسانِ الَّذي كان يُصعَقُ لو سَمِعَهُ، وصيحةُ الميِّتِ في القبرِ عندَ فِتنَتِه هي عقوبةٌ وجزاءٌ فدخَلَتْ في حُكْمِ الآخرةِ فمَنَعَ اللهُ الثَّقَلَيْنِ اللذَيْنِ هما في دار الدُّنيا سماعَ عقوبتِه وجوابِه في الآخِرَةِ وأسمَعَهُ سائِرَ خَلْقِهِ.