التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف ومن كفن بغير قميص

          ░22▒ بَابُ الكَفَنِ في القَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لَا يُكَفُّ.
          1269- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنِ عُمَرَ: (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ، جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ) الحديث.
          1270- وحديثَ جابرٍ: (أَتَى النَّبِيُّ صلعم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ).
          الشَّرحُ: هذه التَّرجمةُ ضَبَطَها الدِّمياطيِّ بخطِّهِ (يُكَف) بضمِّ أوَّلِه وفتْحِ ثانِيهِ، وقال في الحاشيةِ: صوابُه: الذي يكفي أو لا يكفي. بالياء. وليتَه اقتصرَ على الأوَّلِ! وتَبِعَ في الثَّانِي المهلَّبَ فإنَّه قال ذلك، قال: ومعناهُ طويلًا كان ذلك القميصُ أو قصيرًا فإنَّه يجوزُ الكفنُ فيه، وكان عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ طويلًا ولِذلكَ كسا العبَّاسَ قميصَه، وكان العبَّاسُ بائنَ الطُّول.
          وقال ابنُ التِّينِ: هكذا وقعتْ هذه التَّرجمةُ فَضَبَطَهَا بعضُهم بضمِّ الياءِ وفتْحِ الكافِ وتشديدِ الفاء، وبعضُهم بإسكانِ الكافِ وكسْرِ الفاء، وقرأه بعضُهم بِضَمِّ الكاف وتشديدِ الفاءِ وضمِّها، والأوَّلُ أشبه بالمعنى. وفيهما دِلالةٌ على الكفنِ في القميصِ، وقد سلف ما فيه.
          وأجاب المخالفُ بأنَّه صلعم إنَّما دفعه إليه للمكافأةِ؛ لأنَّه لَمَّا أُتِيَ بأُسَارى بدرٍ كان العبَّاسُ في جُملتِهم ولم يكن عليهِ ثوبٌ، فنظرَ ◙ له قميصًا فوجدوا قميصَ عبدِ الله بن أُبَيٍّ يقدر عليه، فكساه ◙ إيَّاه فكافأه ◙ بأنْ كفَّنَهُ في قميصِه كما سيأتي في البُخاريِّ في باب: هل يُخرَجُ الميِّتُ مِن القبرِ لِعِلَّةٍ [خ¦1350] لئلَّا يكون لكافرٍ عليه يدٌ.
          وأراد أن يخفَّفَ عنه مِن عذابِه مادام ذلك القميصُ عليه، ورجاءَ أن يكون معتقدًا لِبعضِ ما كان يُظهِر مِن الإسلامِ فينفعُه اللهُ بذلك، ويدلُّ عليه أنَّ الله إنَّما أعلمَهُ بأمْرِه ونهاهُ عن الصَّلاةِ عليه وعلى غيرِه بعدما صَلَّى عليه، وأمَّا حينَ صَلَّى عليه لم يَعلم حقيقةَ أَمْرِه ولا باطنَه، ويجوزُ أن يكونَ فَعَلَهُ تألُّفًا لابنِه ولعشيرتِه.
          وروى عَبْدُ بن حُمَيدٍ في «تفسيرِه»: ((أنَّه أوصى النَّبيَّ صلعم لَمَّا دعاهُ إليه بأنْ تَشْهَدَ غسلي إذا متُّ وتُكَفِّنَني في ثلاثةِ أثوابٍ مِن ثيابِكَ وتمشيَ مع جنازتي وتصلِّيَ عليَّ ففعَلَ)).
          وقال الحاكم: مرِضَ ابنُ أُبيٍّ في شوَّال عشرين ليلةً وهلك في ذي القَعدة سنةَ تسعٍ مُنصَرَفَ رسولِ الله صلعم مِن تَبُوكَ، وكان صلعم يعودُه وقال له وهو يجود بنفْسِه: إذا متُّ احضُرْ غسلي وأعطني قميصَك أُكفَّنُ فيه. فأعطاه قميصَه الأعلى وكان عليه قميصان، فقال عبدُ الله: أعطني قميصك الَّذي يلِي جَسَدَكَ، فأعطاه إيَّاهُ وصَلَّى عليه واستغفرَ له، وسيأتي بعضُ هذا.
          وفي «المعاني» للزَّجَّاج أنَّ ابنَ أُبيٍّ هو الَّذي ردَّ الثَّوبَ الأوَّلَ ليأخذَ الثَّاني، وقال: ((إنَّ قميصي لن يغنِيَ عنه شيئًا مِن الله، إنِّي أؤمِّلُ / مِن اللهِ أن يُدخَلَ في الإسلامِ بهذا السَّبب)) فيُروى أنَّه أسلمَ مِن الخزرجِ ألفٌ لَمَّا رأوه يطلبُ الاستشفاءَ بثوبِ رسولِ الله صلعم وبالصَّلاةِ عليه، فنزلت: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية [التوبة:84].
          وقال ابنُ التِّين: لعلَّ هذا كان في أوَّلِ الإسلامِ قبل الأحكام؛ لأنَّ مَن مات له والدٌ كافرٌ لا يُغسِّلُه ولدُه المسلمُ ولا يُدخلُه قبرَه إلَّا أن يَخافَ أن يضيعَ فيُوارِيَهُ، نصَّ عليه مالكٌ في «المدوَّنة» ورُوي أنَّ عليًّا جاء إلى رسولِ الله صلعم فأخبره أنَّ أباه ماتَ، فقال: ((اذهبْ فَوَارِه)) ولم يأمُرْ بغسلِه، ورُوي أنَّه أَمَرَهُ بغسلِه ولا أصل له كما قال القاضي عبدُ الوهَّابِ.
          وقال الطَّبريُّ: يجوزُ أن يقومَ على قبرِ والدِه الكافرِ لإصلاحِه ودفْنِه، قال: وبذلك صحَّ الخبرُ وعَمِلَ به أهلُ العلم. وقال ابنُ حبيبٍ: لا بأسَ أن يَحْضُرَه ويليَ أَمْرَ تكفينِه حتَّى يُخرجِهُ ويبرأ به إلى أهلِ ذِمَّتِه، فإنْ كُفِيَ دَفْنَهُ وأَمِنَ مِن الضَّيعةِ عليه فلا يَتْبَعُهُ، وإن خَشِيَ ذلك فَلْيَقْدُمْ أَمَامَ جنازتِه معتزِلًا منه ويحمِلُه. ورُوي أنَّه صلعم أَمَرَ بذلك.
          وقولُه: (أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ) قال الدَّاوديُّ: هو غيرُ محفوظٍ، والمحفوظُ ما رواه أنسٌ مِن جَعْلِ النَّهْيِ بعد قولِه: (أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكَ) وليس القُرْآنُ بمعنى التَّخييرِ، إنَّما هو بمعنى النفي. ولا نسلِّمُ له بل هو صحيحٌ محفوظٌ، وذِكْرُ السَّبعينَ على التَّكثيرِ، وكأنَّ عُمَرَ ☺ فَهِمَ النَّهيَ مِن الاستغفارِ لاشتمالِها عليه، ورُوي أنَّ جبريل أخذ بِرِدَاءِ رسولِ الله صلعم لَمَّا تقدَّم ليُصَلِّيَ عليه فقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية [التوبة:84] ورُوي أنَّه صلعم قال: ((لأستغفرنَّ لهم أكثرَ مِن سبعين)) فنزلتْ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية [المنافقون:6] فَتَرَكَهُ.
          واستغفارُ الشَّارِعِ لِسَعَةِ حِلْمِهِ عمَّن يؤذِيه أو لرحمتِه عند جَرَيانِ القضاء عليهم أو إكرامًا لِوَلَدِه. وقيل: معنى الآيةِ الشَّرطُ أي إنْ شئتَ فاستغفِرْ وإنْ شئتَ فلا، مثل قولِه تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة:53] وقيل: معناهُ هُما سواءٌ، وقيل: معناه المبالغةُ في اليأس.
          وقال الفرَّاء: ليس بأَمْرٍ إنَّما هو على تأويلِ الجزاء. وقال النَّحَّاس: منهم مَن قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] منسوخٌ بقولِه: {وَلَا تُصَلِّ} [التوبة:84] ومنهم مَن قال: لا بل هي على التهديدِ لهم، وتوهَّمَ بعضُهم أنَّ قولَه: {وَلَا تُصَلِّ} ناسِخٌ لقولِه: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] وهو غلطٌ فإنَّ تِلْكَ نَزَلتْ في أبي لُبابة وجماعةٍ معه لَمَّا ربطُوا أنفُسَهُم لِتَخَلُّفِهم عن تبوكَ.
          والحديثُ الثَّانِي ظاهرُه مُضادٌّ للأوَّل أنَّه أخرجه ونفث عليه مِن ريقِه وألبسَهُ قميصَهُ، وهناك أعطى قميصَهُ لولدِه، قال الدَّاوديُّ: اللهُ أعلمُ أيَّ الأمرين كان، ويحتمل أن يكونَ المرادُ بالإعطاءِ الإنعامُ، قاله ابن التِّين، أو أنَّه خلعَ عنه القميصَ الذي كُفِّن فيه وألبسَهُ سيِّدُنا رسولُ الله صلعم قميصَه بيدِه الكريمة. وقال ابنُ الجوزيِّ: يجوزُ أن يكون جابرٌ شَهِدَ ما لم يشهدْهُ ابنُ عُمَرَ، أو يجوزُ أنْ يكونَ أعطاهُ قميصينِ قميصَه الكفن ثمَّ أخرجه فألبسَهُ آخَرَ، وكان ذلك إكرامًا لِوَلَدِهِ أو لأنَّه ما سُئِلَ شيئًا قطُّ فقال لا.
          ورَوَى عَبْدُ بن حُمَيدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه صلعم لم يَخدَعْ إنسانًا قطُّ غيرَ أنَّ ابنَ أُبَيٍّ قال يومَ الحُدَيْبِيَةِ كلمةً حسنةً، وهي أنَّ الكفَّارَ قالوا له: طُفْ أنت بالبيتِ فقال: لا، لي في رسولِ الله أُسوةٌ حسنةٌ، فلم يطُفْ.
          وفيه إخراجُ الميِّتِ بعد دفنِه لأمْرٍ يعرِضُ، وهو دليلٌ لابنِ القاسمِ الَّذي يقولُ بإخراجِه إذ لم يُصلَّ عليه للصَّلاةِ ما لم يُخْشَ التَّغييرُ، وقال ابنُ وهبٍ: إذا سُوِّيَ عليه التُّرابُ فاتَ إخراجُه، وقال يَحيى بنُ يحيى: وقال أشهبُ: إذا أُهيلَ عليه فات إخراجُه، أي ويُصَلَّى عليه في قبرِه، وقد سلف.
          وفي نِسْبَتِه عُمَرُ إلى النِّفاقِ دِلالةٌ على جوازِ الشَّهادةِ على الإنسانِ بما فيه في حالِ الحياةِ والموتِ عند الحاجةِ وإن كانت مكروهةً. قال الإسماعيليُّ: وفيه جواز المسألةِ لمن عندَه جِدَةٌ تبُّركًا. وعبدُ الله بنُ أُبيٍّ هذا هو الَّذي {تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور:11] في قصَّةِ الصِّدِّيقةِ، وهو الَّذي قال: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] وقال: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] ورجع يومَ أُحُدٍ بثُلُثِ العسكرِ إلى المدينةِ بعد أنْ خرجوا مع رسولِ الله صلعم.
          البابان بعده سَلَفَا قريبًا.