التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذكر شرار الموتى

          ░98▒ بَابُ ذِكْرِ شِرَارِ المَوْتَى.
          1394- ذَكَرَ فيه عَنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: (قَالَ أَبُو لَهَبٍ لِلنَّبِيِّ صلعم: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ. فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]).
          الشَّرح: هذا الحديثُ يأتي في تفسير سورة الشُّعراء [خ¦4770] وسورةِ تبَّتْ [خ¦4971] وفيهِ: {وَقَدْ تَبَّ}هكذَا قَرَأَها الأعمشُ. قال الإِسماعيليُّ: هذا الحديثُ مُرسَلٌ لأَنَّ هَذِهِ الآيةَ الكريمةَ نزلَتْ بمكَّةَ، وكانَ ابنُ عبَّاسٍ إذْ ذاكَ صغيرًا، قلتُ: بل قيلَ: إِنَّهُ معدومٌ إذْ ذاكَ. وللطَّبريِّ عن ابنِ وهبٍ عن ابنِ زيدٍ قال: قال أبو لهبٍ لرسولِ الله صلعم: ماذا أُعْطَى يا محمَّدُ إِنْ آمنتُ بك؟ قال: ((كما يُعْطَى المُسْلِمُون)) قال: فما لي عليهم فضلٌ؟ تبًّا لهذا الدِّين أأكونُ أنا وهؤلاءِ سواءً؟! فنَزَلَتْ {تَبَّتْ} قال: خَسِرَتْ يداهُ، واليدانِ هنا العملُ، ألا تراه يقول: بما عملَتْ أيدِيهِم؟ وفي تفسيرِ ابنِ عبَّاسٍ نحوُه فنزلتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي صَغرَت يداه.
          وقال صاحبُ «الأفعال»: تبَّ ضَعُفَ وَخَسِرَ، وتبَّ هَلَكَ، وفي القرآن: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] وتبَّ الإنسانُ شاخَ، وقولُه في قراءةِ الأعمش: {وَقَدْ تَبَّ} هو خَبَرٌ بخلافِ الأوَّلِ فإِنَّهُ دعاءٌ. وقولُه: {وَتَبَّ} ليسَ بتكريرٍ لِمَا قلناهُ.
          وقولُه: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} يحتملُ أن يكونَ نفيًا أو استفهامًا. قال مجاهدٌ: {وَمَا كَسَبَ} وَلَدُهُ، وقيل: يبعُدُ أن تكونَ {مَا} لِمَنْ يعقِلُ لأَنَّهُ لا يُقال: كَسَبَ ولدًا، ولكن يكون المعنى وما كسبَ مِن ذا وغيرِه.
          أمَّا فقهُ البابِ فَذِكْرُ شرارِ الموتى مِن أهلِ الشِّركِ خاصَّةً جائزٌ لأَنَّهُ لا شكَّ في أنَّهم مخلَّدونَ في النَّارِ، فذِكْرُ شِرَارِهم أيسَرُ مِن حالِهم الَّتِي صاروا إِلَيْهَا، مع أنَّ في الإعلانِ بقبيحِ أفعالِهم مُقَبِّحًا لأحوالِهم وذَمًّا لهم لينتَهِيَ الأحياءُ عن مِثْلِ أفعالِهم ويحذرُوها.
          واعْتُرِضَ على البُخاريِّ في تخريجِه لهذا الحديثِ في هذا البابِ وإِنْ كان تبويبُه له يدلُّ على أَنَّهُ أرادَ به العمومَ في شِرارِ المؤمنينَ والكافرينَ، وحديثُ أنسٍ: مُرَّ بجنازةٍ فأثنَوا عليها شرًّا، وافٍ به، فَتَرَكَ الشَّارعُ نَهْيَهُم عن ثناءِ الشَّرِّ، ثُمَّ أخبَرَ أَنَّهُ بذلكَ الثَّناءِ وجبَت النَّارُ وقال: ((أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ)) فدلَّ ذلك أَنَّ للنَّاسِ أن يذكُرُوا الميِّتَ بما فيه مِنْ شرٍّ إذا كانَ شرُّه مشهورًا، وكان ممَّن لا غيبةَ فيه لِشُهْرَةِ شرِّهِ. وسَلَفَ في بابِ ثناء النَّاسِ على الميِّت الكلامُ في الجمع بينَ هذا الحديثِ وبينَ الحديثِ في البابِ قَبْلَهُ.
          وقال ابنُ المُنيِّرِ: يحتملُ أن يريدَ الخصوصَ فطابقَتِ الآيةُ التَّرجمةَ، أو يريدَ العمومَ قياسًا للمُسلمِ المجاهِرِ بالشَّرِّ على الكافِرِ لأَنَّ المسلمَ الفاسقَ لا غِيبةَ له، وقد حَمَلَ بعضُهم _يعني ابن بَطَّالٍ_ على البُخاريِّ وظنَّ بهِ النِّسيانَ لحديثِ الجنَازةِ، والظَّاهرُ أَنَّ البُخاريَّ جَرَى على عادتِه في الاستنباطِ الخَفِيِّ والإحالةِ في الظَّاهِرِ الجَلِيِّ على سبْقِ الأفهامِ إليه، على أَنَّ الآيةَ الكريمةَ مرتَّبَةٌ، وهي تسميةُ المذمومِ وتعييبُ الغِيبةِ، وخصوصًا في الكتابِ العزيزِ.
          واختُلِفَ في {أَبِي لَهَبٍ} هل هو لقبٌ له أو كُنيةٌ؟ فالَّذِي عند ابنِ إسحاقَ في آخَرِينَ أنَّ عبدَ المطَّلب لقَّبه بذلِكَ لحُمْرَةِ خَدَّيْهِ وَتَوَقُّدِهما كالجمْرِ، وللحاكِمِ _وقالَ: صحيحُ الإسنادِ_ أَنَّهُ صلعم قالَ لِلَهَبِ بنِ أبي لهبٍ _واسمُه عبدُ العُزَّى_ ((أَكَلَكَ كَلْبُ اللهِ)) فأكلَهُ الأسد، وهو دالٌّ على أَنَّهُ كُنِّيَ بابْنِه.
          آخِرُ الجنائِزِ.