التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه

          ░3▒ بَابُ الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ إذا أُدْرِجَ في أَكْفَانِهِ.
          ذَكَر فيه ثلاثةَ أحاديثَ:
          1241- 1242- أحدُها: حديثُ الزُّهريِّ عن أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: (أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَرَسه مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ، حَتَّى دَخَلَ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ) الحديث.
          1243- ثانيها: حديثُ أُمِّ العَلَاءِ في قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْغُونٍ: (فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللهِ) الحديث.
          1244- وحديثُ جَابِرٍ قَالَ: (لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ) الحديث.
          الشَّرحُ: أمَّا حديثُ عائِشَةَ فيأتي في المغازي أيضًا [خ¦4452] [خ¦4453] وذكره الحُمَيْديُّ وغيرُه مِن حديثِ هشامٍ عن أبيه عنها، وكذا ابنُ أبي أَحَدَ عَشَر في «جمْعِه» لكنْ خرَّجهُ في فضلِ الصِّدِّيق بِطُولِهِ. وحديثُ أمِّ العلاءِ يأتي في الهجرةِ [خ¦3929] والتَّعبيرِ [خ¦7003] [خ¦7004] [خ¦7018].
          وقال يَحيى بن بُكَيرٍ: قال اللَّيثُ: قولُه ◙ هذا قبل أن تنزلَ عليه سورةُ الفتحِ، وذلك أنَّ عثمانَ تُوفِّيَ قبل مقدمِهم المدينةَ. وزعم الطَّبرانيُّ أنَّ أمَّ العلاءِ هذه زوجُ زيدِ بن ثابتٍ، وزعم ابنُ الأثيرِ أنَّ المرأةَ المقولَ لها: (وَمَا يُدْرِيكِ) هي أمُّ السَّائبِ زوجةُ عُثْمَانَ، وقيل أمُّ العلاء الأنصاريَّةُ، وقيل أمُّ خارجةَ بنِ زيدٍ.
          قال: ورَوَى يوسُفُ بن مِهْرَانَ عن ابنِ عبَّاسٍ: ((لَمَّا ماتَ عثمانُ قالت له زوجتُه: هنيئًا لك الجنَّة، فنظرَ إليها رسولُ الله صلعم)) الحديث. فيحتمل أن يكونَ كلٌّ منهما قالت ذلك، وبِخَطِّ الدِّمياطيِّ: أمُّ العلاء بنتُ الحارث بنِ ثابت بن حارثةَ، وعمَّتُها كبشةُ بنتُ ثابتٍ مِن المبايِعات.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ: مَا يُفْعَلُ بِهِ، وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينارٍ ومَعْمَرٌ) قولُ نافعٍ رواه الإسماعيليُّ مِن حديثِ عبدِ الله بنِ يَحيى الْمَعَافِرِيِّ حدَّثنا نافعٌ به، ومتابعَةُ شُعَيبٍ ذَكَرَها البُخاريُّ مُسندَةً في الشَّهادات [خ¦2687] ومتابعةُ مَعْمَرٍ ذَكَرَها مُسندةً أيضًا في التَّعبير [خ¦7018] ومتابعةُ عمرو بن دينارٍ. /
          وحديثُ جابرٍ أخرجه مسلمٌ لكنَّهُ جعلَ بدلَ محمَّدِ بن المنكَدِرِ الرِّاوي عن جابرٍ محمَّدَ بن عليٍّ بن حُسَينٍ، قال البُخاريُّ: (تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابرًا) يعني تابع ابنُ جُرَيجٍ شُعْبَةَ.
          إذا تقرَّر ذلكَ، فأمَّا حديثُ عائِشَةَ فالسُّنحُ _بسينٍ مهملةٍ مضمومةٍ ثمَّ نونٍ مثلِها ثمَّ حاءٍ مهمَلَةٍ_ منازلُ بني الحارث بنِ الخزرجِ، بينها وبين منزِلِ رسولِ الله صلعم مِيلٌ، وزعم صاحبُ «المطالع» أنَّ أبا ذرٍّ كان يقولُه بإسكانِ النُّونِ، واقتصر عليه.
          ومعنى (مُسَجَّىً) مُغطَّىً و(حِبَرَةٍ) بكسْرِ الحاءِ مُوَشَّىً مِن اليمن. وقال الدَّاوديُّ: أخضر، وتبِعَهُ ابنُ التِّين فقال: هو ثوبٌ أخضر يُسَتحبُّ للموتى أن يُسجَّوا به وربَّما كُفِّنوا فيه.
          وفيه جوازُ كشْفِ الثَّوبِ عن الميِّتِ إذا لم يَبدُ منه أذًى، وجوازُ تقبيلِ الميِّتِ عندَ وداعِه، والتَّأسِّي فإنَّ الصِّدِّيقَ تأسَّى برسولِ الله صلعم حيثُ قبَّلَ عثمانَ بن مَظْعُونٍ كما صحَّحهُ التِّرمذيُّ، ورُوِيَ أنَّ أبا بكرٍ أغمضه. وفيه جوازُ البُكاءِ على الميِّتِ مِن غيرِ نَوحٍ، وكذا في قولِه ◙: (تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ) إباحةُ البكاءِ أيضًا وسيأتي موضَّحًا في موضعِه.
          وقولُ الصِّدِّيقِ: (لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ) إنَّما قاله هو، وغيرُه قال: إنَّ رسولَ الله صلعم لم يمت وسيُبعَثُ ويقطعُ أيدي رجالٍ وأرجلَهم كما سيأتي في فضائلِ الصِّدِّيق، فأراد أَلَّا يجمعَ اللهُ عليه موتتين في الدُّنيا بأن يُميتَه هذه ثمَّ يُحيَى ثمَّ يُميتَهُ أُخرَى، قاله ابنُ بطَّالٍ. وقال الدَّاوديُّ: لم يُجمَعْ عليك كربٌ بعد هذا الموتِ؛ قد عصمَكَ الله مِن عذابِه ومِن أهوالِ يومِ القيامةِ، وقال أيضًا: معناه لا يموتُ مَوْتةً أُخرَى في قبرِه كما يُحيَى غيرُه في القبرِ فيُسألُ ثمَّ يُقبضُ. وأبعدَ مَن قال: أرادَ موتَكَ وموتَ شريعتِك، ويردُّه قولُه: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ).
          وليس هذا بمعارِضٍ لقولِه تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] لأنَّ الأُولى: الخِلقةُ مِن التُّرابِ ومِن نطفةٍ لأنَّهما مَواتٌ والمَواتُ كلُّه لم يُمِتْ نفسَه إنَّما الربُّ أماتهُ. والثَّانيةُ: الَّتي تُمْوِتُ الخلقَ، والحياةُ المرادُ بها في الدُّنيا وبعدَ الموتِ في الآخرةِ، هذا قولُ ابنِ مسعودٍ وآخرين.
          فقولُه: (لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ) كقولِه تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56] وحُكي في الآيةِ قولٌ آخَرَ عن الضَّحَّاكِ أنَّ الأُولى: مِيتَتُهُ، والثَّانيةُ: موتُه في القبرِ بعدَ الفتنةِ والمساءلةِ، واحتجَّ بأنَّه لا يجوز أن يُقال للنُّطفةِ والتُّرابِ ميِّتٌ، وإنَّما الميِّتُ مَن تقدَّمتْ له حياةٌ وهو غلطٌ، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:33] ولم تتقدَّم لها حياةٌ قطُّ، وإنَّما خَلَقَها الله تعالى جمادًا ومَواتًا، وهذا مِن سَعَةِ كلامِ العربِ.
          وفيه أنَّ الصِّدِّيقَ أَعلمُ مِن عمرَ، وهذه إحدى المسائلِ الَّتي ظهرَ فيها ثاقبُ علمِه وفَضْلُ معرفتِه ورجاحةُ رأيِه وبارعُ فهمِه وحُسنُ انتزاعِه بالقرآنِ وثباتُ نفْسِه، ولذلكَ مكانتُه عند الأمَّةِ لا يساويه فيها أحدٌ، أَلَا ترى أنَّه حين تشهَّدَ وبدأ بالكلامِ مالَ النَّاسُ إليه وتركوا عمرَ، ولم يكن ذلك إلَّا لعظيمِ منزلتِه في نفوسِهم على عُمَرَ وسُمُوِّ محلِّه عندهم، أخذوا ذلك روايةً عن نبيِّهم، وقد أقرَّ بذلك عمرُ حين مات الصِّدِّيقُ فقال: واللهِ ما أُحبُّ أنْ ألقَى اللهَ بِمِثْلِ عملِ أَحَدٍ إلَّا بِمِثْلِ عملِ أبي بكرٍ ولوددتُ أنِّي شَعرةٌ في صدرِه.
          وذكر الطَّبريُّ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: والله إنِّي لأمشي مع عمرَ في خلافتِه وبِيَدِهِ الدِّرَّةُ، وهو يحدِّثُ نفْسَهُ ويضرِبُ قدمَهُ بِدِرَّتِه ما معه غيري إذْ قال: يا ابنَ عبَّاسٍ هل تدري ما حملني على مقالتي الَّتي قلتُ حين مات رسولُ الله صلعم؟ قلتُ: لا أدري واللهِ يا أمير المؤمنين، قال: فإنَّه ما حملني على ذلك إلَّا قولُه ╡: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إلى قولِه: {شَهِيدًا} [البقرة:143] فواللهِ إنْ كنتُ لأظنُّ أنَّ رسولَ الله صلعم سيبقى في أُمَّتِهِ حتَّى يشهدَ عليها بآخِرِ أعمالِها. وفي تأويلِ عُمَرَ الحجَّةُ لمالكٍ في قولِه: في الصَّحابةِ مخطئٌ ومُصيبٌ في التَّأويل.
          ثمَّ اعلم أنَّ ذِكْرَ عائشةَ هذا الحديثَ دالٌّ على اهتمامِها بأمْرِ الشريعةِ وأنَّها لم يشغلْها ذلك عن حفظِ ما كان مِن أَمْرِ النَّاسِ في ذلك اليوم. وفيه غَيْبَةُ الصِّدِّيقِ عن وفاتِه ◙ لأنَّه أصبح ذلك اليومَ صالحَ الحالِ فخرجَ إلى أرضِه. وفيه أنَّهم كانت لهم أموالٌ يبتغون بها الكفافَ ويصونون بها وجوهَهم عن المسألةِ لقولِها: أقبلَ أبو بكرٍ على فَرَسِه مِن مسكنِه بالسُّنُحِ.
          وفيه أنَّه حين تصدَّقَ بمالِه كلِّه أرادَ العَينَ. وفيه أنَّهم كانوا لا يُسرعونَ إلى بيْعِ الرَّبْعِ لِمَا فيه من العُدَّةِ والعِزَّة. وفيه الدُّخولُ على البِنْتِ بغيرِ استئذانٍ، ويجوز أن يكونَ عندها غيرُها فصار كالْمَحفَل لا يَحتاج الدَّاخلُ إلى إذنٍ، ورُوِيَ أنَّه استأذنَ فلمَّا دخل أَذِنَ للنَّاس.
          وقولُها: (فَدَخَلَ المَسْجِدَ) يحتمل أنْ يكونَ للصَّلاةِ وللمرورِ فيه.
          وقولُه: (فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ) أي قَصَدَهُ.
          وقولُه: (بِأَبِي أَنْتَ) هي كلمةٌ تقولُها العربُ للحيِّ والميِّتِ تبجيلًا ومحبَّةً، أي فداكَ أبي.
          وقولُ أبي بكرٍ لعُمَرَ: (اجْلِسْ، فَأَبَى) إنَّما كان ذلك لِمَا داخلَ عمرَ مِن الدَّهشةِ والحزن، وقد قالت أمُّ سَلَمَةَ في «الموطَّأ»: ما صدَّقتُ بموتِ رسولِ الله صلعم / حتَّى سمعتُ وقْعَ الكَرَازِين. قال الهرويُّ: هي الفؤوسُ، وقيل: تريدُ وَقْعَ الْمَسَاحِي تحُثُّ التُّرابَ عليه صلعم، ويحتمل أن يكونَ عمرُ ظنَّ أن أَجَلَهُ ◙ لم يأتِ وأنَّ الله مَنَّ على العِبادِ بِطُولِ حياتِه، ويحتمل أن يكون أُنسِيَ قولَه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] وقولَه: {وَمَا مُحَمَّدٌ} إلى {أَفَإِنْ مَاتَ} [آل عمران:144] وكان يقول مع ذلك: ذهب محمَّدٌ لميعادِ ربِّهِ كما ذهب موسى لمناجاةِ ربِّهِ، وكان في ذلك ردعٌ للمنافقين واليهودِ حتَّى اجتمع الناسُ، وأمَّا أبو بكرٍ فرأى إظهارَ الأمرِ تجلُّدًا، ولَمَّا تلا الآيةَ كانت تعزِّيًا وتصبُّرًا.
          وأمَّا حديثُ أمِّ العلاءِ ففيه أنَّه لا يُقطَعُ لأحدٍ مِن أهلِ القِبلةِ بجنَّةٍ ولا نارٍ، ولكن يُرجى للمحسنِ ويُخاف على المسيءِ.
          وقولُه: (وَاللهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللهِ، مَا يُفْعَلُ بِي) فيحتملُ أنْ يكونَ قبلَ إعلامِه بالغفران له. وقد رُوِيَ: (مَا يُفْعَلُ بِهِ) وهو الصَّوابُ لأنَّه ◙ لا يعلمُ مِن ذلك إلَّا ما يُوحَى إليه، وقال الدَّاوديُّ: (مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي) وَهَمٌ.
          وقولُه: (مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي) أي في أَمْرِ الدُّنيا ممَّا يصيبُهم فيها لأنَّه وإنْ كان وَعَدَهُ بالظُّهور فقد كان قَبْلَ ذلك مواطنُ خاف فيها الشدَّةَ. وسورةُ الأحقاف مكِّيَّةٌ، والفتحُ مدنيَّةٌ.
          وقوله: (مَا يُفْعَلُ بِهِ) قاله قبل أن يخبَر أنَّ أهلَ بدرٍ من أهل الجنَّةِ.
          فإن قلتَ: هذا المعنى يعارِض قولَه في حديثِ جابرٍ: ((ما زالت الملائكةُ تُظِلُّه بأجنحتِها حتَّى رفعتموه)) فالجوابُ أنَّه لا تَعَارُضَ بينهما، وذلك أنَّ رسولَ الله صلعم لا ينطقُ عن الهوى فأنكرَ على أمِّ العلاءِ قطْعَها على ابنِ مَظْعُونٍ إذْ لم يَعلم هو مِن أمْرِه شيئًا، وفي حديثِ جابرٍ قال ما عَلِمَهُ بِطريقِ الوحي إذْ لا يُقطَعُ على مِثْلِ هذا إلَّا بوحيٍ فلا تعارُض.
          ومعنى قولِها: (اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً...) إلى آخرِه، يعني أنَّهم اقتُسِموا للسُّكنى لأنَّ المهاجرين لَمَّا هاجروا إلى المدينةِ لم يُمْكِنْهُم استصحابُ أموالِهم فدخلوها فقراء، فاقتسمهم الأنصارُ بالقُرْعةِ في نزولِهم عليهم وسكناهم في منازلِهم.
          وقولُها: (فَطَارَ لَنَا) أي حصل وقُدِّرَ في نصيبِنا وسهمِنا. وكان بنو مَظْعُونٍ ثلاثةً: عثمانُ وعبدُ الله وقُدَامةُ بدريُّون أخوالُ ابنِ عُمَرَ.
          وقولُه: (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ) نهاها عن القطع بذلك.
          وأمَّا حديثُ جابرٍ ففيه جوازُ البكاءِ على الميِّتِ كما سلف، ونَهْيُ أهلِ الميِّتِ بعضُهم بعضًا عن البُكاءِ للرِّفْقِ بالباكي، وسكوتُ الشَّارعِ لِمَا يجدُ الباكي مِن الرَّاحةِ.
          وقولُه: (تَبْكِينَ...) إلى آخره، يُعزِّيها بذلك ويخبرُها بما صار إليه مِن الفضل.
          وقولُه: (حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ) أي مِن غسله لأنَّه نَسَبَ الفعلَ إلى أهلِه، قاله الدَّاوديُّ وقال بعد هذا: يعني حينَ رُفِعَ ليُقبَرَ وهو الصَّحيحُ لأنَّه قُتِلَ شهيدًا يوم أُحُدٍ ولم يُغسَّلْ، وقَتْلُ عبدِ الله كان يومَ أُحُدٍ وكان أهلُ الشِّرْكِ مثَّلوا به جدَعوا أنفَه وأُذُنيهِ، وعمَّتُه اسمُها فاطمة.
          وقولُه: (تَبْكِينَ) وفي موضعٍ آخَرَ: ((لِمَ تَبْكِي؟ _أو لَا تَبْكِي_)) [خ¦1293] [خ¦2816] قال القُرْطبيُّ: كذا صحَّت الرِّوايةُ بِلِمَ الَّتي للاستفهامِ، وفي مسلمٍ: ((تَبْكِي)) بغير نونٍ لأنَّه استفهامٌ لمخاطَبٍ عن فعلِ غائبةٍ. قال القُرْطبيُّ: ولو خاطَبَها بالاستفهامِ خِطابَ الحاضرةِ قال: لِمَ تبكين؟ بالنُّونِ. وفي روايةٍ: ((تبكيهِ أو لا تبكيه)) وهو إخبارٌ عن غائبةٍ، ولو كان خطابَ الحاضرةِ لقال: تبكينَه أو لا تبكينَه بنونِ فِعْلِ الواحدةِ الحاضرةِ.
          ومعنى هذا أنَّ عبدَ الله مكرَّمٌ عندَ الملائكةِ وإظلالُه بأجنحتها لاجتماعِهم عليه ومبادرتِهم بصعودِ روحِه وتبشِيرِه بما أعدَّ الله له مِن الكرامةِ، أو أنَّهم أظلُّوه مِن الحرِّ لئلَّا يتغيَّر، أو لأنَّه مِن السَّبعةِ الَّذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ.
          ورَوَى بَقِيُّ بن مَخْلَدٍ عن جابرٍ: لقيني رسولُ الله صلعم فقال: ((أَلَا أُبَشِّرُك أنَّ الله أحيا أباك وكلَّمهُ كِفَاحًا، وما كلَّم أحدًا قطُّ إلَّا مِن وراءِ حِجابٍ)) الحديث، وفيه منقبةٌ ظاهرةٌ له لم تُسمَعْ لغيرِه مِن الشُّهداءِ في دارِ الدُّنيا.