التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه

          ░79▒ بَابٌ إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصلَّى عَلَيْهِ؟ وهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلَامُ؟
          وَقَالَ الحَسَنُ وَشُرَيحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أُمِّهِ مِنَ المُسْتَضْعَفِين، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ. وَقَالَ: الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى.
          1354- 1355- 1356- 1357- 1358- 1359- ذَكَرَ فيه حديثَ عُمَرَ في قصَّةِ ابنِ صيَّادٍ بِطُولِها.
          وذَكَرَ حديثَ أنسٍ: (كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلعم فَمَرِضَ) وذَكَرَ الحديثَ.
          وعن ابنِ عبَّاسٍ: (كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ).
          وَحديثَ أَبي هُريرة: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ) الحديث بطريقَيْهِ.
          الشَّرحُ: الكلامُ على ما ذكرهُ البُخاريُّ ☼ واحدًا واحدًا فإنَّه مِنَ الأبوابِ الَّتي تحتاجُ إلى إيضاحٍ فلا تَسأمْ مِنَ الطُّولِ.
          ولا شكَّ أنَّه يُصلَّى على الصَّغيرِ المولودِ في الإسلامِ لأنَّه كان على دينِ أبويهِ، قال ابنُ القاسمِ: إذا أسلمَ الصَّغيرُ وقد عَقَلَ الإسلامَ فله حكمُ المسلمينَ في الصَّلاةِ عليه، ويُباع على النَّصرانيِّ إنْ مَلَكَهُ لأنَّ مالكًا يقولُ: لو أسلمَ وقد عَقَلَ الإسلامَ ثُمَّ بلغَ فرجعَ عنه أُجبِرُهُ عليه، قال أشهبُ: وإن لم يَعقِلْهُ لم أُجبِرِ الذِّمِّيَّ على بيعِه، ولا يُؤخَذُ الصَّبيُّ بإسلامِه إن بَلَغَ.
          وقد اختَلَف النَّاسُ في حكمِ الصَّبيِّ إذا أسلمَ أحدُ أبويْهِ على ثلاثةِ أقوالٍ:
          أحدُها: يَتْبَعُ أيَّهما أسلمَ، وهو أحدُ قولَيْ مالكٍ وبه أخذَ ابنُ وَهْبٍ وهي مقالةٌ هؤلاء الجُلَّة، ويُصلَّى عليه إنْ ماتَ على هذا.
          وثانِيها: يَتْبَعُ أباهُ وإسلامُ أمِّهِ لا يُعَدُّ به الولدُ مسلمًا، وهو قولُ مالكٍ في «المدوَّنة».
          ثالثُها: يَتْبَعُ أمَّهُ وإنْ أسلمَ أبوهُ، وهي مقالةٌ شاذَّةٌ ليستْ في مذهبِ مالكٍ، قال سُحنون: إنَّما يكونُ إسلامُ الأمِّ إسلامًا له إذا لم يكن معه أبوهُ وهو على دينِ أُمِّه. ويعضُده حديثُ البابِ (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ) فشَرَّك بينهما في ذلكَ فإذا انفردَ أحدُهما دخلَ في معنى الحديثِ.
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: أجمعَ العلماء في الطِّفل الحربيِّ يُسْبَى ومعهُ أبواهُ أنَّ إسلامَ الأَبِ إسْلَامٌ لهُ، واختلفُوا فيما إذا أسلمتِ الأمُّ، وحُجَّةُ مالكٍ إجماعُ العلماءِ أنَّه مَنْ دامَ مع أبَوَيْهِ لم يلحقْهُ سِباءٌ فحكمُه حكمُ أبوَيْهِ حَتَّى يبلغ، فكذلكَ إذا سُبِيَ لا يغيِّر السِّبَاءُ حكمَه حَتَّى يبلُغَ فيُعَبِّر عن نفْسِه، وكذلكَ إنْ ماتَ لا يُصلَّى عليه، وهو قولُ الشَّعبيِّ.
          قال: واختلفُوا إذا لم يكن معه أبوهُ ووقعَ في المَقاسِمِ دونَهما / ثُمَّ ماتَ في مِلكِ مشترِيهِ، فقال مالكٌ في «المدوَّنَة»: لا يُصلَّى عليه إلَّا أن يجيبَ إلى الإسلامِ بأمرٍ يُعرَفُ أنَّه عَقَلهُ وهو المشهورُ مِنْ مذهبِه، وعنه: إذا لم يكن معه أَحَدٌ مِنْ آبائِه ولمْ يبلُغْ أنْ يتديَّنْ أو يُدْعَى ونَوَى سيِّدُه الإسلامَ فإنَّه يُصلَّى عليه، وأحكامُه أحكامُ المسلمينَ في الدَّفْنِ في مقابِرِ المسلمينَ والمُوارَثةِ، وهو قولُ ابنِ الماجِشُون وابنِ دينارٍ وأصبغَ، وإليه ذهبَ أبو حَنِيفةَ وأصحابُه والأَوزاعيُّ والشَّافعيُّ.
          وفي «شرحِ الهدايةِ»: إذا سُبِيَ صبِيٌّ مع أحدِ أبويْهِ فماتَ لم يُصَلَّ عليه حتَّى يُقِرَّ بالإسلامِ وهو يَعقِلُ أو يُسلِمَ أحدُ أبوَيْهِ خلافًا لمالكٍ في إسلامِ الأمِّ والشَّافعيِّ في إسلامِه هو، والولَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ الأبَوينِ دِينًا، والتَّبَعِيَّةُ مراتبُ أقواها تبعيَّةُ الأبَوينِ ثُمَّ الدَّارِ ثُمَّ اليدِ.
          وفي «المغني»: لا يُصلَّى على المشركِينَ إلَّا أنْ يُسْلِمَ أحدُ أبويْهِم أو يموتَ مُشرِكًا فيكون ولدُه مسلمًا، أو يُسْبَى منفرِدًا أو مع أَحَدِ أبوَيْهِ فإنَّه يُصلَّى عليه، وقال أبو ثَورٍ: إذا سُبِيَ مع أَحَدِ أبوَيْهِ لا يُصلَّى عليه إلَّا أنْ يُسْلِمَ. وفي «الإشراف» عنه: إذا أُسِرَ مع أبوَيْهِ أو أحدِهما أو وحْدَه ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أن يختارَ الإسلامَ يُصلَّى عليه.
          وقولُه: (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ...) إلى آخرِه قد أسنَدَهُ بَعْدُ [خ¦1357] وهو مبنيٌّ على مَنْ قالَ: إنَّ إسلامَ العبَّاسِ مُتأخِّرٌ، وأمَّا مَن قال: إنَّهُ قديمٌ قَبْلَ الهجرةِ فلا، وأمُّه أمُّ الفَضْلِ لُبَابة، قال ابنُ سَعْدٍ: أسلمتْ بعْدَ خديجة. وقال محمَّد بن عمر: هاجرَتْ إلى المدينةِ بعْدَ إسلامِ زوجِها.
          وقولُه: (وَقَالَ: الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) ولمْ يذكر قائلَهُ، وقد أخرجه الدَّارَقُطْنيُّ في النِّكاحِ مِنْ «سُننِه» بإسنادٍ جيِّدٍ مِنْ حديثِ عائذِ بن عمرٍو المُزَنيِّ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى)).
          وقصَّةُ ابنِ صيَّادٍ ذكرَها البُخاريُّ في مواضعَ أُخَرَ منها قال سالمٌ عن ابن عمرَ: فقامَ رسُولُ الله صلعم في النَّاس فَذَكَرهُ، وفيهِ: ((أنَّهُ أعورُ وأنَّ الله ليس بأعورَ)) ومنها في الجِهاد في بابِ ما يجوز مِنَ الاحتيالِ معلَّقًا عن اللَّيْثِ [خ¦3033] ووصلَهُ الإسماعيليُّ مِن حديثِ ابن بُكيرٍ وأبي صالحٍ عنه.
          ولمسلمٍ قال ابنُ شِهاب: وأخبرني عمرُ بن ثابتٍ أَنَّهُ أخبره بعضُ الصَّحابة أنَّهُ صلعم قال يومَ حذَّر النَّاسَ الدَّجَّالَ: ((إنَّهُ مكتوبٌ بين عينيه كَافِرٌ، يقرَؤهُ مَنْ كَرِهَ عَمَلَهُ)) الحديث، وله أيضًا مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ بنحوِه. وللتِّرمِذيِّ: ((فاحتبَسهُ وهو غلامٌ يهوديٌّ له ذؤابةٌ)) وله مِنْ حديثِ أبي بَكْرةَ فيه وقال: غريبٌ، . ورُوِيَ أنَّهُ كان يَشِبُّ في اليومِ الواحدِ شبابَ الصَّبيِّ لِشَهْرٍ، ورُوي أنَّهُ وُلِدَ أعورَ مختتِنًا.
          ولْنتكلَّمْ على مفرداتِه ومعانِيه:
          فالرَّهْطُ ما دونَ العشرةِ مِنَ الرِّجالِ ولا يكونُ فيهم امرأةٌ، قاله الجوهريُّ، وفي «العين»: هو عددُ جمْعٍ مِن ثلاثةٍ إلى عشرةٍ، وبعضٌ يقولُ: مِنْ سبعةٍ إلى عشرةٍ، وما دونَ السَّبْعَةِ إلى الثَّلاثةِ نَفَرٌ. وعن ثعلبٍ: الرَّهطُ الأبُ الأدنى. وفي «المحكم»: الرَّهطُ لا واحدَ له مِنْ لفظِه. وفي «الجامع» الرَّهطُ ما بين الثَّلاثةِ إلى العشرةِ وربَّما جاوَزُوا ذلكَ، وكذا في «الجَمهرة».
          والأُطُم _بِضمِّ الهمزةِ والطَّاءِ_ بناءٌ مِنْ حجارةٍ موضوعٌ كالقصْرِ، وقيل هو الحِصنُ وجمْعُه آطامٌ.
          وقولُه: (أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ) كذا هو في «الصَّحيح» وفي «صحيح مسلمٍ» روايةِ الحُلْوانيِّ: ((أُطُمِ بني معاوية)) وذَكَرَ الزُّبير بن أبي بَكرٍ أنَّ كلَّ ما كان عن يمينِكَ إذا وقفْتَ آخِرَ البلاطِ مستقبِلَ مسجد المدينةِ فهو لبني مَغَالة، ومسجدُه صلعم في بني مَغَالة، وما كان عن يسارِكَ فلِبَنِي حُدَيْلَة، وقال بعضُهم: بنو مَغَالَةَ حيٌّ مِنْ قُضاعة، وبنو معاويةَ هم بنو حُدَيْلة وهي امرأةٌ نُسِبُوا إليها امرأةُ عَديِّ بن عمرو بن مالكِ بن النَّجَّار. و(مَغَالَةَ) بفتْحِ الميمِ وبالغينِ المعجَمَة.
          و(ابْنُ صَيَّادٍ) يُقال فيه بالألِفِ واللَّامِ أيضًا كما قاله ابنُ الجوزيِّ، وابنُ صائدٍ، واسمُه صافي كقاضي، وقيل عبدُ الله، وقال الواقديُّ: هو مِن بني النَّجَّارِ، وقيل مِن اليهودِ وكانوا حُلفاءَ بني النَّجارِ، وابنُه عُمَارةُ شيخُ مالكٍ مِنْ خيارِ المسلمين، ولَمَّا دفعَتْهُ بنو النَّجَّارِ عن نَسَبِهِم حَلَفَ منهم تسعةٌ وأربعونَ رجلًا، ورجلٌ مِنْ بني ساعدةَ على دفعِه.
          وقولُه: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ) فيه عَرْضُ الإسلامِ على الصَّغيرِ، واستدلَّ به قومٌ على صحَّةِ إسلامِ الصَّبيِّ وكان قاربَ الاحتلامَ، وهو مقصودُ البُخاريِّ في تبويبِه (هَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلَامُ؟) وبه قالَ أبو حَنِيفةَ ومالكٌ خلافًا للشَّافعيِّ لعدَمِ تكليفِه، ولا يَرِدُ على الشَّافعيِّ صلاتُه قبلَ البلوغِ كما ألزمهُ ابنُ العربيِّ لأنَّها مِنْ بابِ التَّمْرِينِ وقد أَمَرَ الشَّارعُ بها.
          واختلفتِ المالكيَّةُ في إسلامِ ابنِ الكافرِ وارتدادِ ابنِ المسلمِ هل يُعتدُّ به أم لا؟ على قولينِ، واختارَ بعضُ المتأخِّرينَ منهم الاعتدادَ.
          وقولُه: (أَنَّكَ نَبِيُّ الأُمِّيِّينَ) قال الرُّشَاطِيُّ: الأمِّيُّون مشركو العرب، نُسبوا إلى ما عليه أمَّةُ العربِ وكانوا لا يكتبون. وقيل: الأُمِّيَّة هي الَّتي على أصل ولادات أمَّهاتها لم تتعلَّم الكتابةَ. وقيل: نسبةً إلى أمِّ القُرى.
          وقولُه (فَرَفَضَهُ النَّبيُّ صلعم) أي تَرَكَهُ، كذا هو بالضَّادِ المعجَمَةِ، وفي روايةٍ أخرى بالمهمَلَةِ وكذا هو بخطِّ / الدِّمْياطيِّ، وقال في «الحاشية»: إنَّهُ كذا عندَ البُخاريِّ ومسلمٍ، قال عِياضٌ: وهي روايتُنا عن الجماعةِ، وقال بعضُهم: إنَّهُ الرَّفصُ بالرِّجْلِ مثل الرَّفْسِ بالسِّين المهمَلَة، فإنْ صحَّ هذا فهو بمعناه، قال: لكنْ لم أجِدْ هذِه اللَّفظَةَ في أُصُولِ اللُّغةِ. قلتُ: لكنَّهما متقاربان.
          ووقع في روايةِ القاضي التَّميميِّ: <فَرَضَّه> بضادٍ معجَمَةٍ، وهو وهمٌ. وفي روايةِ المَرْوَزيِّ: <فوقَصَه> بقافٍ وصادٍ مهملةٍ، قال: ولا وجه له. قال الخطَّابيُّ: إنَّمَا هو <فرَصَّهُ> أي بتشديدِ الصَّادِ المهمَلَةِ، كذا حدَّثونا مِنْ وجوهٍ، وكذلك هو في روايةِ شُعيبٍ بعْدَ هذا إلَّا أنَّهُ ضَبَطَهُ بضادٍ معجمةٍ يريدُ أنَّهُ ضَغَطَهُ حَتَّى ضَمَّ بعضَه إلى بعضٍ ومنه {بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] وقال المازَريُّ: أقربُ منه أن يكونَ بالسِّينِ المهمَلَةِ أي رَكَلَه، أي ضَرَبَه برِجلٍ واحدة.
          فإنْ قلتَ: ما تَرْكُه ◙ لابنِ صيَّادٍ وقد ادَّعى النُّبوَّةَ؟ قلتُ لأوجُهٍ:
          أحدُها: أنَّهُ مِنْ أهلِ الذِّمَّة.
          ثانِيها: أنَّهُ كانَ دُونَ البُلوغِ _وهوَ ما اختارهُ عِياضٌ_ فَلَمْ تَجْرِ عليهِ الحدودُ.
          ثالثُها: أَنَّهُ كانَ فِي أَيَّام المُهَادَنَةِ مَعَ اليَهودِ، جزم به الخطَّابيُّ.
          وقولُه ◙ له: (خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ) أي: خلَّط عليه شيطانُه ما يُلْقي إليه مِنَ السَّمْعِ مع ما يكذِبُ إلى ذلك.
          وقولُه: (إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبْئًا فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ) (خَبَأْتُ) مهموزٌ، و(خَبْئًا) بباءٍ موحَّدةٍ، وفي بعضِ النُّسَخِ: <خَبِيئًا> بزيادةِ ياءٍ مثنَّاةٍ تحتُ وهو ما في مسلمٍ وكلاهما صحيحٌ، بمعنى الشَّيءِ الغائبِ المستورِ.
          واختُلِفَ في هذا المخبَّأِ مَا هو؟ فقال الأكثرونَ كما حكاه القُرطبيُّ: إِنَّهُ أضمرَ لهُ في نفْسِهِ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] قالَ ابنُ التِّيْنِ: وهو ما عليه أهلُ اللُّغَةِ، وقال الدَّاوُديُّ: كان في يدِهِ سورةُ الدُّخَانِ مكتوبةً فلمَّا قال: الدُّخُّ وأصابَ بعضًا قال له: (اخْسَأْ).
          و(الدّخُّ) بفتْحِ الدَّالِ وضمِّهَا، والمشهورُ في كتبِ اللُّغَةِ والحديثِ _كما ذكره النَّوويُّ_ الضَّمُّ فقط، ولا يقدحُ في ذلك اقتصارُ ابن سِيدَهْ وغيرِه على الفتْحِ، وقد اقتصَرَ على الضَّمِّ الجوهريُّ. وقال القُرطبيُّ: وجدْتُه ساكِنَ الخاءِ مصحَّحًا عليه وكأنَّه على الوقْفِ، قال: وأمَّا في الشِّعْرِ:
عِنْدَ رِوَاقِ البَيْتِ يَغْشَى الدُّخَّا
          فمشدَّدُ الخاءِ، وكذلكَ قراءتُه في الحديثِ، وقال صاحبُ «العين»: (الدُّخُّ) الدُّخان. ولم يذكُرِ ابنُ بَطَّالٍ غيرَه.
          وقال الخطَّابيُّ: لا معنى للدُّخان هنا لأنَّهُ ليس ممَّا يُخبَّأ في كَفٍّ أو كمٍّ، بل الدُّخُّ نبْتٌ موجودٌ بين النَّخيلِ والبساتين، إلَّا أن يُحمَل قولُه: (خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا) أي أضمرْتُ لكَ اسمَ الدُّخان فيجوزُ على الضَّميرِ، وقد رُوي مِنْ حديثِ ابنِ عمرَ أنَّه صلعم أضمرَ هذِه اللَّفظةَ في نفْسِه فصادَفَهُ ابنُ صيَّادٍ، وفَعَلَهُ رسولُ الله صلعم لِيختبِرَ ما عندَهُ.
          وقال أبو موسى المدينيُّ في «مُغيثِه»: وقيل إنَّ الدَّجَّالَ يقتُلُه عيسى بجبَلِ الدُّخانِ فيحتملُ أن يكونَ أرادَهُ. قلتُ: وهو ما أوردَهُ أحمدُ في «مُسندِه» مِن حديثِ جابرٍ مرفوعًا. قال: والدُّخُّ الدُّخانُ، وقال في موضعٍ آخَر: الظِّلُّ والنُّحاسُ.
          وقال صاحبُ «المطالع»: الدُّخُّ لغةٌ في الدُّخان، لم يستطِع ابنُ صيَّادٍ أن يُتِمَّ الكلمة، ولم يهتَدِ مِنَ الآية الكريمةِ إلَّا لهذيْنِ الحرفَيْنِ على عادةِ الكُهَّانِ مِن اختطافِ بعضِ الكلماتِ مِنْ أوليائِهم مِن الجنِّ أو مِن هواجِسِ النَّفْسِ، ولهذا قال له: (اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) يعني قَدْرَ الكُهَّانِ، وهي كلمةُ زجرٍ وطردٍ، وهي مهموزةٌ تقولُ منهُ: خسأتُ الكلبَ، ومنه قولُه تعالى: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ووقعَ في «علوم الحاكم»: أنَّهُ الدُّخُّ بمعنى الزَّخِّ وهو الجِماعُ وهو عجيبٌ.
          وقولُه: (فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) أي لستَ بنبيٍّ فلن تُجاوِزَ قدرَكَ فإنَّمَا أنتَ كاهنٌ ودجَّالٌ، وقيل: أن تسبِقَ قَدَرَ الله فيكَ وفي أمْرِكَ، قال ابنُ التِّيْنِ: ووقعَ هنا: <تَعْدُ> بغيرِ واوٍ، وقال القَزَّاز: هي لغةٌ لبعضِ العربِ يجزِمونَ بِلَنْ مثل لم، وذَكَرَ أنَّ بعضَ القُرَّاءِ قرأ {قُلْ لَنْ يُصِبْنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة:51].
          وقال ابنُ الجوزيِّ: لا يبلُغُ قَدْرُكَ أن تطالِعَ بالغيبِ مِنْ قِبَلِ الوحْيِ المخصوصِ بالأنبياء، ولا مِنْ قَبِيلِ الإلهامِ الَّذي يُدرِكُهُ الصَّالحونَ، وإِنَّمَا كانَ الَّذي قاله مِنْ شيءٍ ألقاهُ الشَّيْطَانُ إليهِ إمَّا لكونِه ◙ تكلَّمَ بذلكَ بينَهُ وبينَ نفْسِه فسَمِعَهُ الشَّيطانُ، وإمَّا أن يكونَ الشَّيطانُ سَمِعَ ما يجرِي بينهما مِن السَّماءِ، لأنَّه إذا قُضِيَ القضاءُ في السَّماءِ تكلَّمَتْ به الملائكةُ فاسترقَ الشَّيطانُ السَّمْعَ، وإمَّا أن يكونَ ◙ حدَّث بعضَ أصحابِه بما أضمرَ، ويدلُّ عليه قولُ ابنِ عمرَ: ((وَخَبَأَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان:10])) فالظَّاهر أنَّه أعلمَ الصَّحابةَ بما يَخْبَأُ لَهُ، أو أن يكونَ اعتمدَ ذلك لأنَّ الدُّخانَ يستُرُ عَيْنَ النَّاظرينَ عن الشَّمْسِ.
          وقد روى الطَّبرانيُّ أنَّهُ صلعم قال لأَصْحَابِهِ: ((خَبَأْتُ لهُ سورةَ الدُّخانِ)) مِنْ حديثِ زيدِ بن حارثةَ، وإنَّمَا فعلَ الشَّارعُ ذلكَ به ليختبِرَهُ على طريقةِ الكُّهَّانِ كما سَلَفَ ولِيُبَيِّنَ للصَّحابةِ حالَهُ وكَذِبَهُ.
          وقولُ عمرَ: (دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ) يعني لما ادَّعى وظنَّ أنَّهُ يجبُ عليه.
          وقولُه صلعم: (إِنْ يَكُنْ هُوَ) هو الصَّحيحُ، وفي روايةٍ: <يَكُنْهُ> وهذا الضَّميرُ في <يَكُنْهُ> هو خبرُها، وقد وُضِعَ موضِعَ المنفصِلِ واسمُها مستَتِرٌ فيها، والمعنى إنْ يكن هو الدَّجَّالُ الَّذي يقولُ إنَّهُ ربٌّ (فَلَنْ تُسلَّطَ عَلَيْهِ) لأنَّ لهُ مدَّةً سيبلُغُها، وإنَّمَا يقتُلُه عيسى، ولا بُدَّ أن يَنْفُذَ فيه القضاءُ.
          (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) يعني لِصِغَرِهِ، وهذا يدُلُّ على أنَّهُ صلعم لمْ يتَّضِحْ له شيءٌ مِنْ أمرِه هل هو الدَّجَّال أم لا؟ ولعلَّ الله تعالى قد عَلِمَ في إخفائِه مصلحةً فأخفاهُ وأوجَبَ الإيمانَ بخروجِ / الدَّجَّالِ الكذَّابِ، وفي هذا دِلالةٌ على التَّثبُّتِ في أمْرِ التُّهَمِ وألَّا تُستباح الدِّماءُ إِلَّا بيقينٍ، ولا شكَّ في أنَّ ابنَ صيَّادٍ مِنَ الدَّجاجِلَة.
          وأمَّا احتجاجُهُ بأنَّهُ مسلمٌ والدَّجَّالُ كافرٌ، وبأنَّهُ لا يولَدُ للدَّجَّالِ وقد وُلِدَ لهُ، وبأنَّ الدَّجَّالَ لا يدخلُ الحرمينِ وقد دخلَهُمَا فغيرُ واضحٍ، وإنْ كان محمَّدُ بنُ جَريرٍ وغيرُه ذكروه في جملةِ الصَّحابةِ لأنَّهُ صلعم إنَّمَا أخبرَ عَن صِفاتِ الدَّجَّالِ وقْتَ فِتْنَتِهِ وخُروجِه. ويُؤكِّد أنَّهُ هوَ أو دَجَّالٌ مِنَ الدَّجاجِلَةِ قولهُ لِرَسُول الله صلعم: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟) وأنَّهُ يأتيه صادقٌ وكاذِبٌ، وأَنَّهُ يرى عرشًا وأَنَّهُ لا يكرَهُ أن يكونَ الدَّجَّالَ، وأنَّهُ يعرِفُ موضِعَهُ الآن، ولا شكَّ أنَّ مَنْ رَضِيَ لنفْسِهِ دَعْوى الإلهيَّة وحالةَ الدَّجَّال فهو كافرٌ وقد صرَّحَ به القُرطبيُّ.
          وَقالَ الخطَّابيُّ: اختلفَ السَّلفُ في أَمْرِهِ بعدَ كِبَرِهِ أي هل هوَ الدَّجَّالُ أم لا؟ فرُويَ عنهُ أنَّهُ تابَ مِنْ ذلكَ القولِ وَماتَ بالمدينة، وأنَّهم لَمَّا أرادوا الصَّلاةَ عليه كَشَفُوا عَن وجههِ حتى رآه النَّاسُ وقيل لهم: اشهدُوا.
          وكان ابنُ عمرَ وجابرٌ يحلِفانِ أَنَّهُ الدَّجَّالُ وَكَذَا أبو ذرٍّ، فقيل لجابرٍ: إِنَّهُ أسلم، قال: وإنْ أسلم، فقيلَ: إِنَّهُ دخل مكَّةَ وكان بالمدينةِ، فقال: وإنْ دَخَلَ، قيلَ لهُ: فَإِنَّهُ قد مات، قال: وإن ماتَ.
          لكنْ في أبي داودَ عن جابرٍ قال: فَقَدْنا ابنَ صيَّادٍ يوم الحرَّةِ، وهوَ ردٌّ لِمَنْ قال: ماتَ بالمدينةِ. وفي مسلمٍ: ((حَلَفَ عمرُ عندَ رسولِ الله صلعم أَنَّهُ الدَّجَّال فَلَم يُنْكِرْهُ)).
          وفي «الفتوح» لسيفٍ: لَمَّا نزلَ النُّعمانُ على السُّوسِ أعياهُمْ حصارُها فقال لهم القسِّيسونَ: يا معشر العرَبِ إنَّ ممَّا عَهِدَ علماؤنا وأوائلُنَا ألَّا يفتحَ السُّوسَ إلَّا الدَّجَّالُ فإنْ كانَ فيكم فستفتحونَهَا وَإن لم يكن فيكم فَلا، قال: وَصَافِ ابنُ صيَّادٍ في جُنْدِ النُّعمانِ فَأتى بابَ السُّوسِ غضبانًا فَدقَّهُ بِرِجْلِهِ، وقالَ: انفتِحْ، فتقطَّعَت السَّلاسلُ وتكسَّرَت الأغلاقُ وانفتحَ البابُ فدخلَ المسلمونَ.
          قال ابنُ التِّيْنِ: والأصحُّ أنَّهُ ليسَ هوَ لأنَّ عَيْنَهُ لم تكن ممسوحةً ولا عَيْنُهُ طافيةٌ ولا وُجدَتْ فيه علامةٌ.
          وقولُه: (يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ) أَي يطلُبُ أن يأتيَه مِنْ حيثُ لا يعلمُ فيسمعُ ما يقولُ في خَلوَتِهِ، وبهذهِ اللَّفْظَةِ ساغَ للبُخاريِّ إدخالُ هذا الحديثِ في بابِ شهادة المختبِئِ مِنَ الشهادات، وهي بكسْرِ التَّاءِ، أي مستغْفِلًا ليسمَعَ مِنْ كلامِه شيئًا ليعلَمَ به حالَهُ أهو كاهنٌ أو ساحرٌ، وهي في مذهبِ مالكٍ جائزةٌ إذا لم يكن المقرُّ خائفًا ولا ضعيفًا ولا مختدعًا.
          وَقولُه: (وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فِي قَطِيفَةٍ) هي كساءٌ لهُ خَمْلٌ والجمع قَطَائِفُ وقُطُفٌ، وفِعْلُه ذلك يحتملُ أن يكونَ حينَ يأتيه شيطانُه وأن يفعلَهُ احتيالًا وكَذِبًا وتشبُّهًا بما فَعَلَهُ الشَّارعُ حين أَتَاهُ الوَحْيُ.
          وَقَولهُ: (لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ) وقال شُعيبٌ في حديثِه: فَرْضُهُ <زَمْزَمَةٌ أو رَمْرَمَةٌ>، وقالَ إِسحاق وعُقيلٌ: رَمْرَمَةٌ، وقالَ مَعْمَرٌ: رَمْزَةٌ. وهذا اختلافٌ وشكٌّ في ضبطِ ذلكَ.
          قال صاحبُ «المطالع»: <رَمْرَمَةٌ أو رَمْزَة> كذا للبُخاريِّ. وعند أبي ذرٍ (زَمْرَةٌ) وقال شُعيبٌ: رمزةٌ، وهذا خلافُ ما أسلفناهُ عن البُخاريِّ. وعند بعضِ رواةِ مسلمٍ: ((زمرةٌ)) وفي روايةِ شُعيبٍ: رَمْرَمَةٌ أو زَمْزَمَةٌ، وكذا هو في البُخاريِّ كما سَلَفَ، وكذا للنَّسَفيِّ، قال: ومعنى هذِهِ الألْفَاظ كلِّها متقاربٌ.
          قال الخطَّابيُّ: الرَّمْرَمَةُ تحريكُ الشَّفتَيْنِ بالكلامِ، قال: فالمرمَّةُ الشَّفَةُ، وَقالَ غيرُه: هُو كلامُ العُلوجِ وهو صوتٌ مِنَ الخياشيم والحَلْقِ لا يتحرَّكُ فيه اللِّسانُ والشَّفتانِ، والرَّمزةُ: صوتٌ خفيٌّ بكلامٍ لا يُفهم، وقد يُقالُ لهُ الهيْنَمَةُ، وأمَّا الزَّمْرَةُ _بتقديمِ الزَّايِ_ فمِنْ داخِلِ الفمِ.
          وقالَ صاحبُ «العين»: الزَّمْزَمَةُ أصواتُ العُلوجِ عندَ الأَكْلِ، والزَّمْزَمَةُ مِنَ الرَّعد ما لم يفصِحْ، ولمْ يذكُرِ ابنُ بَطَّالٍ سِوَاهُ. وَقال عياضٌ: جمهورُ رُواةِ مُسلمٍ بالمعجمَتَيْنِ، وأَنَّهُ في بعضِها بِرَاءٍ أوَّلًا وزايٍ آخِرًا وحَذْفِ الميمِ الثَّانيةِ، وهو صوتٌ خفيٌّ لا يكادُ يُفهَمُ أو لا يُفهَمُ.
          وقولُه: (فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ) أي رَجَعَ عمَّا كان مُتمَادِيًا على قولِه، كذا هو بخطِّ الدِّمْياطيِّ (فَثَارَ) وشَرَحَهُ ابنُ التِّيْنِ على أَنَّهُ <فَثَابَ> بالباءِ، ثُمَّ قال: وفي روايةِ أبي ذَرٍ (فَثَارَ) أي وَثَبَ.
          وقولُه: (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) يقولُ لو وَقَفَ عليه مَنْ يتفهَّم كلامَه لَتَبَيَّنَ مِنْ قولِه ذلكَ الزَّمزمة، فيعرفُ ما يدَّعِي مِن الكَذِبِ، إنْ كانَ الَّذي يقولُ في وقْتِه ذلكَ هو الَّذي أظهَرَ مِن دعواهُ أَنَّهُ رسولُ الله.
          فَصْلٌ: وأمَّا حديثُ أنَسٍ في الغُلامِ اليَهودِيِّ فَيأتي في الطِّبِّ، وفيه عَرْضُ الإسلامِ على الصَّبيِّ كما تَرْجَم لهُ، وإنَّمَا دعاهُ إِليهِ بحضْرَةِ أبيهِ لأنَّ الله تعالى أخذَ عليه فَرْضَ التَّبليغِ لعبادِه ولا يَخافُ في اللهِ لومَةَ لائمٍ، وتعذيبُ مَنْ لم يُسلِمْ إذا عَقَلَ الكُفْرَ لقولِه: (الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ). /
          وأَثَرُ ابنِ عبَّاسٍ بَعْدَهُ فيه عبيدُ الله الرَّاوي عن ابنِ عبَّاسٍ وهو ابنُ أبي يزيد.
          فصلٌ: وأمَّا قولُه: حدَّثنا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُصلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ إِلَى قَوْلِه: وَلَا يُصلَّى عَلَى مَنْ لَا يَسْتهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، فإنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ) الحديث.
          وهذا منقطعٌ لأنَّ الزُّهريَّ لم يسمعْ مِن أبي هُريرةَ شيئًا ولا أدْرَكَهُ، والبُخاريُّ لم يذكُرْهُ للاحتجاجِ، إِنَّمَا ذَكَرَ الزُّهريَّ مُسندًا بعُلُوٍ، واعتمادُه على سَنَدِهِ الثَّاني عن الزُّهريِّ عن أبي سَلَمةَ عن أبي هُريرة، وإنْ كان نازلًا فهو متَّصِلٌ بذاك، وكذا ذَكَرَهُ في ذِكْرِ أولادِ المُشركينَ [خ¦1385] وفي سُورةِ الرُّومِ مِن التَّفْسِيرِ [خ¦4775] قال أبو عمرَ: ورُوي مِن وجوهٍ صحاحٍ ثابِتَةٍ مِن حديثِ أبي هُريرةَ وغيرِه.
          وقولُ ابنِ شهابٍ: (وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ) يُريدُ لِزِنًا هو قولُ جميعِ الفُقهاءِ إلَّا قَتَادةَ فانفردَ فقالَ: لا يُصلَّى عليه.
          وقولُه: (يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِسْلَامَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً) هو قولُ مالكٍ وغيرِه أنَّهُ إن أسلَمَ أبوهُ تَبِعَهُ.
          وقولُه: (إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ) الاستهلالُ الصِّياحُ والبُكاءُ، وإذا استهلَّ صُلِّيَ عليهِ عندَنا لحديثِ ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: ((إذا استهلَّ السِّقطُ صُلِّيَ عليهِ ووُرِّث)) ورواه التِّرمِذيُّ مِنْ حديث جابرٍ وصوَّب وَقْفَهُ، ونَقَلَ ابنُ المُنْذِرِ الإجماعَ على وجوبِ الصَّلاةِ على السِّقْطِ، وحُكِيَ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ: لا يُصلَّى عليه ما لمْ يبلُغْ، قال ابنُ حَزْمٍ: ورُويناه أيضًا عن سُوَيْد بن غَفَلَة. وعند المالكيَّةِ لا يُصلَّى عليه ما لم تُعلَمْ حياتُه بعدَ انفصالِه بالصُّراخِ.
          وفي العُطَاسِ والحَرَكَةِ الكثيرةِ والرَّضاعِ اليَسِير قولان، أمَّا الرَّضاعُ المتحقِّقُ والحياةُ المعلومةُ بِطُولِ المكْثِ فكالصُّراخِ، وعن اللَّيثِ وابنِ وهْبٍ وأبي حَنِيفةَ والشَّافِعِيِّ أنَّ الحَرَكَةَ والرَّضاعَ والعُطاسَ استهلالٌ، وعن بعضِ المالكيَّةِ أنَّ البولَ والحدَثَ حياةٌ.
          وفي شرْحِ «الهداية»: إذا استهلَّ المولودُ سُمِّيَ وغُسِّلَ وصُلِّيَ عليه، وكذا إذا استهلَّ ثُمَّ ماتَ لِحِينِهِ، فإنْ لمْ يستهِلَّ لا يُغسَّلُ ولا يَرِثُ ولا يُورَثُ ولا يُسمَّى، وعندَ الطَّحاويِّ أنَّ الجنينَ الميِّتَ يُغسَّلُ ولم يَحْكِ خِلَافًا. وعن محمَّدٍ في سِقطٍ استبانَ خَلقُه: يُغسَّلُ ويُكفَّنُ ويُحنَّطُ ولا يُصلَّى عليه.
          وقالَ أبو حَنِيفةَ: إِذا خرجَ أكثرُ الولَدِ صُلِّي عليه، وإنْ خَرَجَ أقلُّهُ لم يُصَلَّ عليه. وعن ابنِ عمرَ أنَّهُ يُصلَّى عليه وإنْ لمْ يسْتَهِلَّ، وبه قال ابنُ سِيرِينَ وابنُ المسيِّبِ وأحمدُ وإسحاقُ، وقال العبدَريُّ: إنْ كانَ له دونَ أربعةِ أشهُرٍ لم يُصَلَّ عليه بلا خلافٍ يعني بالإجماعِ، وإن كان له أربعةُ أشهرٍ ولم يتحرَّكْ لم يُصَلَّ عليه عندَ جمهورِ العلماء، وقال أحمدُ وداودُ: يُصلَّى عليه.
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: اتَّفقَ جمهورُ الفقهاءِ على أنَّهُ لا يُصلَّى عليه حَتَّى يَستَهِلَّ، قال: وهو قولُ مالكٍ والكوفيِّينَ والأوزاعِيِّ والشَّافعيِّ، وهو الصَّوابُ لأنَّ مَنْ لم يَسْتَهلَّ لمْ تَصِحَّ له حياةٌ ولا يُقال فيه: إنَّهُ وُلِدَ على الفطرةِ، وإنَّمَا سنَّ الشَّارعُ الصَّلاةَ على مَنْ ماتَ ممَّن تقدَّمتْ له حياةٌ لا مَن لمْ تَصِحَّ له حياةٌ.
          فصلٌ: وقولُه: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ) الحديث، الفطرةُ في كلامِ العربِ تنصَرِفُ على وجوهٍ: منها الجِبِلَّةُ وزكاةُ الفِطرِ والخِلقَةُ، يُقال: فَطَرَ اللهُ الخلْقَ أي خَلَقَهُم، وقيل: ابتداءُ الخلقِ المرادُ بالحديثِ، وهي في الشَّرع الحالةُ الَّتي خُلِقُوا عليها مِن الإيمانِ، فالمعنى على الفطرةِ الَّتي خُلِق عليها مِنَ الإيمانِ، وقال الأوزاعيُّ وغيرُه: تفسيرُه قولُه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية [الأعراف:172].
          قال ابنُ المبارَكِ: هذا لِمَن يكونُ مسلمًا يذهبُ إلى أنَّهُ مخصوصٌ، فمعنى الحديثِ _على هذا_ يُولَد على العهدِ الَّذي أخذَهُ عليه، وقيل: معناه يُولَدُ على الفطرةِ السَّليمةِ والطَّبْعِ المتهيِّئِ لِقَبولِ الدِّينِ لو تُرِك، وقيل: على فِطْرَةِ اللهِ.
          وقال محمَّدُ بنُ الحسنِ: كان هذا في أوَّلِ الإسلامِ قَبْلَ نُزولِ الفرائضِ وأَمْرِ المسلمينَ بالجهادِ. قال أبو عُبَيْدٍ: كأنَّهُ يذهَبُ إلى أنَّهُ لو كان يُولَدُ على الفطرةِ ثُمَّ ماتَ قبل أن يهوِّدَه أبواه لمْ يتوارَثَا لأنَّهُ مسلمٌ وهذا كافرٌ؛ وهذا ليسَ ببيِّنٍ لأنَّ بِنَفْسِ تمامِ الوِلادةِ يَسرِي إليه هذا الحُكمُ، ويَرِدُ عليه أيضًا أنَّهُ لا يجوز أن يكون منسوخًا لأَنَّهُ خبرٌ ولا يكون كما قال ابن الْمُبَارَك، وإِنَّمَا أشكَلَ معنى الحديثِ لأنَّهم تأوَّلُوا الفِطرةَ بالإسلامِ وَإِنَّما هي ابتداءُ الخَلْقِ، وقيل: نَسَخَهُ قولُه صلعم: ((اللهُ أعلمُ بِما كانُوا عَامِلِين)) وقيل: نَسَخَهُ سَبْيُهُم مع آبائِهم.
          وقالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: اختلفوا في معناهُ فقالتْ طائفةٌ: ليس عامًّا، ومعناه أنَّ كلَّ مَنْ وُلِدَ على الفِطْرَةَ وكان له أبوانِ على غيرِ الإسلامِ هوَّدَاهُ أو نصَّراهُ، قالوا: وليس المعنى أنَّ جميعَ المولُودِينَ مِنْ بني آدمَ أجمعينَ مولودُونَ على الفِطرةِ بين الأبوينِ الكافرَينِ، وكذلك مَنْ لم يولَد عليها وكان أبواهُ مؤمنَينِ حُكِمَ له بحكمِهِمَا في صِغَرِهِ، وإن كانا يهودِيَّينِ فهو يهوديٌّ ويَرِثُهُمَا ويَرِثَانِه، وكذلِكَ إنْ كانا نصرانيَّينِ أو مجوسِيَّينِ حَتَّى يُعَبِّرَ عنه لسانُه ويبلُغَ الحِنثَ فيكون له حكمُ / نفْسِهِ حينَئِذٍ لا حكمُ أبويْهِ.
          واحتجَّ القائلونَ بهذِه المقالَةِ بحديثِ أُبيِّ بنِ كعبٍ، قال النَّبيُّ صلعم: ((الغلامُ الَّذي قتلَهُ الخَضِرُ طَبَعَه اللهُ يومَ طَبَعَهُ كافرًا)) وبحديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((أَلا إنَّ بني آدمَ خُلِقُوا طَبَقاتٍ، فمنهم مَنْ يولَدُ مؤمنًا ويَحْيَا مؤمنًا ويموتُ مؤمنًا، ومنهم مَنْ يولَدُ كافرًا...)) إلى آخِرِ الحديثِ بالقسمة الرُّباعيَّة، ففيهِ وفي غُلامِ الخَضِرِ ما يدلُّ على أنَّ قولَه: (كُلُّ مَوْلُوْدٍ) ليسَ على العمومِ وأنَّ المعنى فيه أنَّ كلَّ مولودٍ يولَدُ على الفِطرةِ وأبواه يهودِيَّانِ أو نصرانيَّان فإنَّهُمَا يهوِّدانه أو ينصِّرانهِ، ثُمَّ يصير عندَ بلوغِه إلى ما يُحكَمُ به عليه، ودَفَعُوا روايةَ مَن رَوَى: ((كلُّ بني آدَمَ يولَدُ على الفطرةِ)).
          قالوا: ولو صحَّ هذا اللَّفظُ ما كان فيهِ حجَّةٌ لأنَّ الخصوصَ جائزٌ دخولُه على لفظَةِ ((كلُّ)) قال تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] ولم تدمِّرِ السَّمَاءَ والأَرضَ، وقال: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] ولم يفْتَحْ عليهم أبوابَ الرَّحْمَة. وذَكَرُوا في ذلكَ روايةَ الأوزاعِيِّ عن الزُّهرِيِّ عن حُميدٍ عن أبي هُريرةَ: ((كلُّ مولودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) قالَ الأوْزَاعِيُّ: وذلكَ بقضاءٍ.
          وفي حديثِ مَعمَرٍ: (كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟) يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
          ولمْ يُختلَفْ في هذا اللَّفظِ عن مَعْمَرٍ، وكَذَا حديثُ سَمُرة في الرُّؤيا عن النَّبيِّ صلعم: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ)) هذا لفْظُهُ، وفي حديثِ أبي رَجاءٍ عن سَمُرةَ: ((وأمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الَّذي في الرَّوْضةِ فَإِنَّهُ إبراهيمُ، وأَمَّا الوِلْدَان الَّذين حولَه فكلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الْفِطْرَةِ)).
          وقال آخَرونَ: المعنى في ذلك: كلُّ مولودٍ مِنْ بني آدمَ فهو يولَدُ على الفطرةِ أبدًا، وأبواه يُحكَمُ له بحكمِهِمَا، وإن كان وُلِدَ على الفِطرةِ حَتَّى يكونَ ممَّن يعبِّرُ عنه لسانُه، يدلُّ على ذلكَ روايةُ مَنْ رَوَى: ((كَلُّ بَنِي آدَمَ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَة)).
          وحقُّ الكلامِ أن يُحمَلَ على عُمومِه، وحديثُ أبي هُريرةَ مرفوعًا: ((اللهُ أعلمُ بما كانوا عامِلِينَ)) ورَوَى أبو سَلَمةَ عنه مرفوعًا: ((مَا مِنْ مَولُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ)) ثُمَّ قرأ: {فِطْرَتَ اللهِ} الآية [الروم:30] وبنحْوِه رواه اللَّيثُ عن يونُسَ عن ابن شِهَابٍ عَن أَبِي سَلَمةَ، وذَكَرَ حديثَ إبراهيمَ، والوِلْدَانُ حولَهُ أَوْلَادُ النَّاس، قالوا: فهذه الأحاديثُ تدلُّ ألفاظُها على أنَّ المعنى: الجميعُ يولَدونَ على الفطرةِ. انتهى.
          أمَّا حديثُ أبي سعيدٍ ففيه ابنُ جُدْعان وهو ضعيفٌ، ثُمَّ لا معارضةَ بينه وبين مَن قالَ بالعمومِ لأنَّه مَنْ وُلِدَ مؤمنًا وعاش عليه ومات عليه وكذا عَكْسُهُ وما أشبهَهُ كلُّه راجعٌ إلى علمِ الله تعالى، فإنَّه قد يُولَدُ الولدُ بينَ مؤمِنَيْنِ _والعياذُ بالله_ يكونُ سبَقَ في علم الله تعالى غيرُ ذلك، وكذا مَن وُلِدَ بين كافِرَيْنِ، وإلى هذا أيضًا يرجِعُ غلامُ الخَضِرِ.
          قال أبو عمرَ: وقد اختلف العلماءُ في هذِه الفِطرةِ فَذَكَرَ أبو عُبيدٍ أنَّه سألَ محمَّدَ بنَ الحسنِ عن معنى هذا الحديثِ فمَا أجابهُ بأكثرَ مِن أنْ قال: هذا القولُ مِن رسولِ الله صلعم قَبْلَ أن يُؤمَرَ النَّاسُ بالجهادِ. كأنَّهُ حادَ عن الجوابِ إمَّا لإشكالِه أو لكراهةِ الخوضِ فيه.
          وقولُه: قبْلَ أن يؤمَرَ النَّاسُ بالجهادِ، غيرُ جيِّدٍ لأنَّ في حديثِ الحسَنِ عن الأسودِ بن سَرِيعٍ بيان أنَّ ذلك كان بعدَ الجهادِ وهو قولُه: قال رسول الله صلعم: ((ما بالُ قومٍ بلَغُوا في القتْلِ إلى الذُّرِّيَّةِ؟ إنَّهُ ليسَ مِن مولودٍ إلَّا وهو يولَدُ على الفطرَةِ فيعبِّرُ عنه لسانُهُ)) وهوَ حديثٌ بصريٌّ صحيحٌ، وقال أبو نُعيمٍ: مشهورٌ ثابتٌ. قلتُ: فيه نظرٌ لأنَّ ابنَ مَعينٍ وجماعةً أنكروا سماعَ الحسنِ مِنَ الأسودِ. وأخرجه ابنُ حِبَّانَ في «صحيحِه»: ((ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى فِطْرَةٍ الإِسْلَام حتَّى يُعرِبَ)).
          وقال أبو حاتمٍ: يريدُ الفطرةَ الَّتي يعهدُها أهلُ الإسلامِ حيث أخرجَ الخَلْقَ مِنْ صُلبِ آدمَ فأقرُّوا له بتلك الفطرةِ مِن الإسلام، فنُسِبَت الفطرةُ إلى الإسلامِ عندَ الاعتقادِ على سبيلِ المجاورةِ.
          ورَوَى عوفٌ الأعرابيُّ عن أبي رجاءٍ عن سَمُرَةَ عن النَّبيِّ صلعم: ((كلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ)) فناداه النَّاسُ: يا رسُول اللهِ وأولادُ المشركِينَ؟ فَقالَ رسُول الله صلعم: ((وأولادُ المشركينَ)) وقال ابنُ المبارَكِ: تفسيرُه قولُه: ((اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)).
          وقالتْ جماعةٌ: الفِطرةُ هنا الخِلقةُ الَّتي يُخلَقُ عليها المولودُ مِنَ المعرفةِ، فكأنَّه قال: كلُّ مولودٍ يُولَدُ على خِلقةٍ يَعرِفُ بها ربَّه جَلَّ وعَزَّ إذا كَبِرَ وبَلَغَ المعرفَةَ، يريد خِلْقةً مخالفةً لِخِلْقَةِ البهائمِ الَّتي لا تَصِلُ بخِلْقَتِها إلى معرفةِ ذلك.
          قال: وأنكروا أنْ يكونَ المولودُ يُفْطَرُ على كُفْرٍ أو إيمانٍ أو معرِفَةٍ أو إنكارٍ وإنَّمَا يولَدُ على السَّلامةِ في الأغلَبِ خِلقةً وطبعًا وبُنْيةً ليس فيها إيمانٌ ولا كفرٌ ولا إنكارٌ ولا معرفةٌ، ثُمَّ يعتقِدُونَ الإيمانَ أو غيرَه إذا ميَّزوا، واحتجُّوا بقولِه: (كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ) يعني سالمةً (هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) يعني مقطوعةَ الأذنِ، فمثَّلَ قلوبَ بني آدمَ بالبهائمِ لأنَّها تُولَدُ كاملةَ الخَلْقِ ليسَ فيها نقصٌ ثُمَّ تُجدَعُ، فكذا يكونُ الأطفالُ / في حين ولادتِهِم ليسَ بهم كُفْرٌ حينئذٍ ولا إيمانٌ ولا معرفةٌ ولا إنكارٌ مثل البهائِم السَّالمةِ، فلمَّا بلغُوا استهواهُم الشَّيْطَانُ فَكَفَرَ أكثرُهم إلَّا مَنْ عصم اللهُ.
          قالُوا: ولو كان الأطفالُ قد فُطِرُوا على الكفْرِ أو الإيمانِ في أوَّلِ أمْرِهِمْ لَمَا انقلبوا عنه أبدًا، وقد نَجِدُهُمْ يؤمنونَ ثُمَّ يكفرونَ ثمَّ يؤمِنونَ ويستحيلُ أنْ يكونَ الطِّفلُ في حين ولادَتِه يعقِلُ شيئًا لأنَّ الله تعالى أخرَجَهُم في حالٍ لا يَفقهونَ معها شيئًا، فمَنْ لا يعلَمُ شيئًا استحالَ منه كفرٌ أو إيمانٌ أو معرفةٌ أو إنكارٌ.
          قال أبو عمر: وهذا القولُ أصحُّ ما قيلَ في معنى الفِطرةِ هنا، وذلك أنَّ الفطرةَ السَّلامةُ والاستقامةُ بدليلِ حديثِ عِياضِ بن حمارٍ، قال رسول الله صلعم: ((قال الله تبارك وتعالى: إنِّي خَلقتُ عبادي حُنفاء)) أي على استقامةٍ وسلامةٍ، والحنيفُ في كلامِ العربِ: المستقيمُ السَّالمُ، وذَكَرَ الباقِلَّانيُّ في نقضِ كتاب «العُمَدِ» للجاحِظِ أنَّ المراد أنَّ كلَّ مولودٍ يُولَدُ في دارِ الإسْلَام فحُكمهُ حكمُ الدَّار، وأنَّهُ لاحقٌ بكونِه مولودًا موجودًا بأحكامِ المسلمينَ في تولِّي أمْرِهِ ووجوبِ الصَّلاةِ عليهِ ودفْنِهِ في مقابرِ المسلمينَ ومَنْعِهِ مِن اعتقادِ غيرِ الإسلامِ إذا بَلَغَ.
          وقال آخَرونَ: الفِطرةُ هنا الإسلامُ، وهو المعروفُ عندَ السَّلَفِ مِن أهل العلمِ بالتَّأويلِ فإنَّهم أجمَعُوا في قولِه تعالى: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] قالوا: هي دينُ الإسلامِ، واحتجُّوا بقولِ أبي هُريرةَ اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللهِ} الآية، وبحديثِ عياضٍ السَّالفِ، وبقولِه صلعم: ((خمسٌ مِنَ الفطرةِ)) فذَكَرَ قصَّ الشَّارِبِ والاختتانَ وذلك مِن سننِ الإسلامِ، وإليه ذهبَ أبو هريرةَ وعِكرمةُ والحسنُ وإبراهيمُ والضَّحاكُ وقَتَادةُ والزُّهريُّ.
          وعلى هذا معنى قولِه: (بَهِيمَةً جَمْعَاءَ) يقولُ: خُلِقَ الطِّفلُ سليمًا مِن الكُفْرِ مؤمنًا مسلِمًا على الميثاقِ الَّذي أُخِذَ على الذُّرِّيَّة {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] قال: ويستحيلُ أن تكونَ الفِطْرَةُ هنا الإسلامُ لأنَّ الإسلامَ والإيمانَ قولٌ باللِّسانِ واعتقادٌ بالقلبِ وعملٌ بالجوارحِ، وهذا معدومٌ في الطِّفلِ.
          وقال آخَرون: معنى الفِطرةِ هنا البداءةُ الَّتي ابتدأهم عليها أي على ما فطر الله تعالى عليه خَلقَهُ مِن أنَّهُ ابتدأَهُم للمَحيا والموتِ والسَّعادةِ والشَّقاوةِ، وإلى ما يصِيرُونَ عند البلوغ مِنْ إِبائِهِم واعتقادِهم، وذلك ما فَطَرَهُم عليه ممَّا لا بدَّ مِنْ مَصيرهم إليه، فَكأنَّه قال: كلُّ مولودٍ يولَدُ على ما ابتدأه الله عليه، واحتجُّوا بما رواه مجاهدٌ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: لمْ أَدْرِ ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [فاطر:1] حَتَّى أتى أعرابيَّانِ يختصمانِ في بئرٍ فقال أحدُهما: أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتُها.
          وقال محمَّد بن نَصرٍ المَرْوَزيُّ: وهذا المذهب شبيهٌ بما حكاه أبو عبيدٍ عن ابن المبارَكِ قال: وقد كان أحمدُ يذهبُ إلى هذا القولِ ثُمَّ تركَهُ، ومذهبُ مالكٍ نحوُ هذا.
          وقال آخَرون: معناه أنَّ الله فطرهمْ على الإنكارِ والمعرفةِ وعلى الكفْرِ والإيمانِ، فأخذَ مِن ذُرِّيَّة آدمَ الميثاقَ حين خَلَقَهُم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قالوا جميعًا: {بَلَى} فأمَّا أهلُ السَّعادةِ فقالوا جميعًا: بلى على معرفةٍ له طوعًا مِنْ قلوبهم، وأمَّا أهلُ الشَّقَاوَةِ فقالوا: بلى، كرهًا لا طوعًا، تصديقُ ذلكَ قولُه تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] وكذا قولُه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف:29-30].
          قال المَرْوزيُّ: وسمعتُ ابنَ راهَوَيهِ يذهبُ إلى هذا، واستدلَّ بقولِ أبي هُريرةَ: اقرؤوا إن شئتُم: {فِطْرَتَ اللهِ} الآية [الروم:3] قال إسحاق: لا تبديلَ لخَلْقِه الَّتي جَبَلَ عليها بني آدم كلَّهُمْ مِن الكُفْرِ والإيمانِ والمعرفةِ والإنكارِ، واحتجَّ أيضًا بقولِه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية [الأعراف:172] قال إسحاق: أجمع أهلُ العلمِ أنَّها الأرواحُ قَبْلَ الأجسادِ.
          واحتجَّ بحديثِ أُبيِّ بن كعبٍ يرفعُهُ في غلامِ الخَضِرِ فكان الظَّاهِرُ ما قال موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً} [الكهف:74] فأعلَمَ اللهُ الخَضِرَ ما كان الغلامُ عليه مِن الفطرةِ الَّتي فطرهُ عليها وهي الكفرُ، وكان ابنُ عبَّاسٍ يقرأُ: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] قال إسحاق: فلو تركَ الشَّارعُ ولمْ يبيِّنْ لهم حُكْمَ الأطفالِ لم يعرفوا المؤمنَ منهم مِن الكفَّار لأنَّهم لا يدرون ما جُبِلَ كلُّ واحدٍ منهم عليه حينَ أُخرِجَ مِنْ ظَهْرِ آدمَ، فبيَّنَ لهم حكمَ الطِّفْلِ في الدُّنيا فقال: (أَبَوَاهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ) يقول: إنَّهم لا يعرفونَ ما طُبِعَ عليه في الفِطْرةِ الأُولى، ولكنْ حُكْمُ الطِّفل في الدُّنيا حكمُ أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوينِ، فمَنْ كان صغيرًا بين أبوينِ مسلمَيْنِ التَحَقَ بحكمِهِمَا.
          واحتجَّ أيضًا بحديثِ عائشةَ حين ماتَ صبيٌّ مِنَ الأنصار بين أبوينِ مسلمَينِ فقالتْ عائشةُ: طوبى له عصفورٌ مِنْ عصافير الجَنَّة، فردَّ عليها رسُول الله صلعم فقال: ((مَهْ يَا عَائِشَةُ، وَمَا يُدْرِيْكِ؟ إِنَّ اللهَ تعالى / خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا)).
          قال إسحاق: فهذا الأصلُ الَّذي نعتمدُهُ ويَعتمدُ عليه أهلُ العلمِ. قال أبو عمرَ: قولُ إسحاقَ: إنَّ الفطرةَ المعرفةُ، فلا يخلو مِنْ أن يكونَ أرادَ بقولِه أنَّ الله تعالى خَلَقَ الأطفالَ وأخرجهم مِنْ بطونِ أمَّهاتهم ليَعرفَ منهم العارفُ ويعترفَ فيؤمن وينكرَ منهم المنكِرُ ما يعرفُ فيكفرَ، وذلك كلُّه قد سبق به لهم قضاءُ الله وتقدَّم فيه علمُه ثُمَّ يصيرون إليه، فتصحُّ منهم المعرفةُ والإيمانُ والكفْرُ والجحودُ، وذلك عند التَّمييزِ والإدراكِ؛ فذلك ما قلنا، أو أراد أنَّ الطِّفْلَ يُولَد عارفًا مقرًّا مؤمنًا وعارفًا جاحدًا منكِرًا كافرًا في حين ولادتِه فهذا ما يُكذِّبُه العيانُ والعقلُ، ولا أعلم أصحَّ مِنَ الَّذي بدأْنَا به. وقولُ إسحاقَ في هذا البابِ لا يرضاهُ حُذَّاقُ الفقهاءِ مِنْ أهلِ السُّنَّةِ وإِنَّمَا هو قولُ الْمُجْبِرَةِ.
          وقال آخَرون: معناها ما أخذَه اللهُ تعالى مِنَ الميثاقِ على الذُّرِّيَّة، فأقرُّوا جميعًا له بالرُّبوبيَّةِ عن معرفةٍ منهم به، ثُمَّ أخرجهم مِنْ أصلابِ آبائِهم مطبوعِينَ على تلْكَ المعرفةِ وذلكَ الإقرارِ. قالوا: وليستْ تلكَ المعرفةُ والإقرارُ إيمانًا، ولكنَّه إقرارٌ مِنَ الطَّبيعةِ للرَّبِّ فطرةً أَلزمَهَا قلوبَهم، ثُمَّ أرسلَ إليهم الرُّسُلَ فدعَوْهُم إلى الاعترافِ له بالرُّبوبيَّةِ والخشوعِ تصديقًا لِمَا جاءتْ به الرُّسُلُ، فمنهم مَن أنكرَ وجَحَدَ بعْدَ المعرفةِ وهو به عارفٌ لأنَّهُ لم يكنِ اللهُ ليدعُوَ خَلْقَهُ إلى الإيمانِ بما لا يعرفونَ، وتصديقُ ذلكَ قولُه جلَّ وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزُّخرف:87].
          وقال آخرونَ: الفطرةُ ما يُقلِّبُ اللهُ قلوبَ الخلق إِلَيْهِ بِمَا يُرِيد وَيَشَاء، واحتجُّوا بحديثِ أبي سعيدٍ السَّالِفِ: ((إنَّ بني آدَمَ خُلِقُوا على طبقاتٍ)) فالفِطرةُ عندَ هؤلاء ما قضاه الله وقدَّرَهُ لعِبَادِه مِن أوَّلِ أحوالِهم إلى آخرِهَا، كلُّ ذلك عندَهم فطرةٌ، قال أبو عمرَ: وهذا القولُ وإن كان صحيحًا في الأَصلِ فإنَّهُ أضعفُ الأَقاويلِ مِن جهةِ اللُّغةِ في معنى الفِطرةِ.
          فصلٌ: وقولُه: (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ) يريد أنَّهما يُعلِّمانِه ما هما عليه ويَصرِفَانِه عن الفِطرةِ، ويحتمل أن يكونَ المرادُ يُرغِّبانِه في ذلك، أو أنَّ كونَه تَبَعًا لهما في الدِّين بولادتِه على فراشِهما يوجِبُ أنْ يكونَ حكمُه حكمَهما ويستنَّ بسنَّتِهِما، ويعقِدَان له الذِّمَّةَ بعقْدِهِما، ولم يُرِدْ أنَّهُمَا يَجعَلانِه ذلكَ، وظاهرُ الحديثِ كونُهُ تَبَعًا لهما وإن اختلفَتْ أديانُهُما.
          وقولُه: (كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ) يريد تُولَد سالمةً مِن العُيوبِ، ونَصَبَ (بَهِيمَةً) على المعنَى لأنَّ المعنَى (تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً) أي تَلِدُ بهيمةً فهي مفعولةٌ لِتَلِدُ، يُقال: نُتِجَتِ النَّاقَةُ _بِضَمِّ النُّونِ_ ونتجها أهْلُهَا.
          وقولُه: (هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) تُحِسُّونَ _بِضَمِّ التَّاءِ_ مِن الإحساسِ وهو العلْمُ بالشَّيءِ.
          وقولُه: (مِنْ جَدْعَاءَ) يريدُ لا جدع فيها مِن أصلِ الخِلقةِ، إِنَّمَا يجدَعُها أهلُها بعْدَ ذلكَ، أي يَسِمُوْنَهَا في الآذانِ أو غيرِها، كذلك المولودُ يُولَدُ على الفِطرةِ ثُمَّ يغيِّره أبواه فيهوِّدَانِه ويُنَصِّرَانهِ وذلك كلُّه بقدَرِ اللهِ.
          فصلٌ: وفي حديثِ ابنِ صيَّادٍ مِن الفقْهِ جوازُ التَّجَسُّسِ على مَنْ يُخشَى منه فسادُ الدِّينِ والدُّنيا، وهذا الحديثُ يبيِّنُ أنَّ قولَه تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] ليس على العمومِ، وإِنَّمَا المرادُ به عن التَّجسُّسِ على مَن لم يَخْشَ القدحَ في الدِّين، ولم يُضمِرِ الغِلَّ للمسلمين واستَتَرَ بقبائحِه، فهذا الَّذي تُرجى له التَّوبةُ والإنابةُ، وأمَّا مَنْ خُشِيَ منه مثلُ ما خُشِيَ مِنِ ابن صيَّادٍ ومِنْ كعبِ بنِ الأشرفِ وأشباهِهما ممَّن كان يُضمِرُ الفتْكَ لأهلِ الإسلامِ فجائزٌ التَّجسُّسُ عليه وإعمالُ الحيلةِ في أمرِه إذا خُشِيَ، وقد ترجَمَ له في الجهادِ باب ما يجوزُ مِنَ الاحتيالِ والحذرِ على مَنْ تُخشى مَعَرَّتُه كما سَلَفَ.
          وفيهِ أيضًا أنَّ للإمامِ أو الرَّئيسِ أن يُعمِلَ نفسَه في أمورِ الدِّينِ ومصالحِ المسلمينَ، وإنْ كان له مَنْ يقومُ في ذلكَ مَقامَهُ. وفيه أنَّ للإمامِ أنْ يهتمَّ بصِغارِ الأمورِ ويبحثَ عنها خشيةَ ما يَؤولُ منها مِنَ الفسادِ. وفيه أنَّهُ يجبُ التَّثَبُّتُ في أهلِ التُّهَمِ وألَّا تُستباحَ الدِّمَاءُ إلَّا بيقينٍ لقولهِ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)
          وفيه أنَّ للإمَام أن يصبِرَ ويَعفُوَ إذا خَفِيَ عليه أو قُوبِلَ بما لا ينبغِي لِقولِ ابنِ صيَّادٍ لنبيِّنَا صلعم: (أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ) ولم يعاقِبْهُ. وفيه أنَّ للعالِم والرَّئيسِ أن يكلِّمَ الكاهِنَ والمنجِّمَ على سبيلِ الاختبارِ لِمَا عندَهم والعيْبِ / لِمَا يدَّعونَه والإبطالِ لما ينتحِلُونَه.