التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب موت يوم الاثنين

          ░94▒ بَابُ مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ.
          1387- ذَكَرَ فيه عن عائشةَ قالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقال: فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبيَّ صلعم؟ قالتْ: (فِي ثَلَاثَةِ أَثوَابٍ...) إلى آخِرِهِ.
          سؤال أبي بكرٍ لعائشةَ لأنَّها أعلمُ النَّاسِ بموتِه لأَنَّهُ ماتَ في بيتِها، وسألَها ليستعدَّ كفنَه ويُجريَ ذلكَ على اختيارِه مِن الاقتداءِ بالشَّارِعِ.
          وقولُها: (فِيْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ) كان ذلكَ لاثنَتَيْ عشرةَ ليلةً خلتْ مِن ربيعٍ الأوَّلِ، حين اشتدَّ الضُّحى لإحدَى عشرةَ سنةً مِن الهجرةِ، وفيه نُبِّئَ وَوُلِدَ وقَدِمَ المدينةَ وكانَ يصومُ الاثنينِ والخميسَ لأنَّهما يومَا رَفْعِ الأعمالِ ومَحَطِّ الأثقالِ، على أَنَّهُ وَرَدَ في الموتِ ليلةَ الجمعةِ ويومَها مِن حديثِ عمرو بن العاصي مرفوعًا: ((مَن ماتَ يَومَ الْجمعةِ أو ليلتَها وقاهُ اللهُ فتَّانَ القَبْرِ)) وقال أبو عُبيدةَ بن عُقبة: مَنْ ماتَ يومَ الجمعةِ أَمِنَ فتنةَ القبْرِ، فقالَ القاسمُ بنُ محمَّدٍ: صَدَقَ أبو عُبَيدَةَ.
          واستفهامُ الصِّدِّيق إِنَّمَا هو لِيَتَثَبَّتَ ولم يكن لِيخفَى عنه يومُ وفاتِه، وقد يحتمل ألَّا يَعلَمَ ما كُفِّنَ فيه لأَنَّ قومَهُ وَلُوا أَمْرَهُ، ويحتمل أن يفعَلَهُ أيضًا لِيَتَثَبَّتَ ورجاءَ أنْ يُتَوفَّى في يومِ وفاةِ الرَّسُولِ لِفَضْلِ ذلكَ اليومِ، فقَبَضَهُ اللهُ تعالى في اللَّيلةِ الَّتي تليهِ لأَنَّهُ تالٍ لرسولِه، قال عليٌّ: سَبَقَ رسولُ الله صلعم وصلَّى أبو بكرٍ وجَلَّى عمرُ. ولا زال التَّبرُّك بالسَّلَفِ مطلوبٌ، وموافقتُهم في المَحْيا والمماتِ مرغوبٌ، وقد كانَ ابنُ عمرَ شديدَ الاتِّباعِ حَتَّى يقِفَ مرَّةً ويدورَ بناقَتِه أُخرَى في مكانِ وقوفِه ودورانِ ناقتِه وما أحسَنَه مِن اتِّباعٍ!
          والرَّدْعُ الأثَرُ، وفي «الموطَّأ»: ((به مِشْقٌ أو زَعْفَرانٌ)).
          وفيه الاقتصاد في الكفَنِ وهذِه وصيَّةٌ منْهُ أنْ يُكَفَّنَ في ثوبٍ لَبيسٍ وهو جائزٌ في الكفَنِ، ولا خلاف في جوازِ التَّكفينِ في خَلَقِ الثِّيَابِ إذا كانت سالمةً مِنَ القَطْعِ وساتِرَةً له، ويحتملُ أن يكونَ أوصَى أن يُكفَّنَ فيه لأَنَّهُ لَبِسَهُ في مواطِنِ الحربِ مع رسولِ الله صلعم وأحرَمَ فيه، وقد قال ابن حَبيبٍ: يُستحبُّ مثل هذا للحديثِ أَنَّهُ صلعم أعطَى أمَّ عطيَّةَ حَقْوَهُ لأجْلِ ابنَتِه، وهذا يقتضي أنَّ وصيَّةَ الميِّتِ معتبرةٌ في كفَنِهِ وغيرِ ذلك مِن أمْرِه إذا وافقَ صوابًا، فإِنْ أوصَى بسَرَفٍ فعن مالكٍ: يُكفَّن بالقَصْدِ، فإنْ لَم يوصِ وتشاحَّ الوَرثةُ لم يُنقَصْ عن ثلاثةِ أثوابٍ مِن جِنْسِ لباسِه في حياتِه لأَنَّ الزِّيادةَ عليهنَّ والنَّقصَ منهنَّ خروجٌ عن عادتِه.
          وقولُه: (اغْسِلُوهُ) يحتملُ أن يكونَ لِشيءٍ عَلِمَه فيه، وإلَّا فإنَّ الثَّوبَ اللَّبيسَ لا يقتضي لُبسُهُ وجوبَ غسلهِ، قالهُ سُحنون، ورُبَّمَا كانَ الجديدُ أحقَّ بالغَسْلِ منه، ويحتمل أن يكونَ أَمَرَ بالغَسْلِ للرَّدْعِ الَّذي به لَمَّا أُخبِرَ أنَّ الشَّارِعَ كُفِّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ بِيضٍ.
          وقولُ عائشةَ: (إِنَّ هَذَا خَلَقٌ) وقولُها في «الموطَّأ»: ((وما هذا؟)) تريدُ أنَّهُ لم يَصْلُحْ عندَها لِكَفْنِهِ، وأرادَتْ أنْ يُكفَّنَ في جديدٍ وغيره أفضل، فقال: الحيُّ أحقُّ بالجديدِ مِن الميِّتِ، يريدُ لِمَا يلزمُه في طُولِ عُمرهِ مِن اللِّبَاسِ وسَتْرِ العورَةِ وأَمَّا الميِّتُ فَتَغَيُّرُهُ سريعٌ، ولذلك قال: (إِنَّمَا هُوَ لِلْمهْلَةِ) يريدُ الصَّديدَ والقيحَ يعني إِنَّهُ ليس لِجَمالٍ ولا لاستدامةٍ، وإِنَّمَا يصيرُ عن قريبٍ إلى التَّغَيُّرِ بالصَّديدِ فلا معنى لكونِه جديدًا.
          هكذا رواه يَحيى في «الموطَّأ» بكَسْرِ الميمِ ورُوِيَ بضمِّهَا، وضُبِط في البُخاريِّ بالضَّمِّ والكَسْرِ أيضًا ورُوِّيناه بهما جميعًا، قال في «المطالع»: رُويناهُ بالحركاتِ الثَّلاثِ، وقال ابنُ الأنباريِّ: / لا يُقالُ: للمِهْلَةِ بالكَسْرِ، ورواه أبو عبيدٍ، وإِنَّمَا هو للمُهْلِ والتُّرابِ، والمُهْلُ الصَّدِيدُ.
          قالَ ابن حَبيبٍ: بكَسْرِ الميمِ الصَّديدُ، وبِنَصْبِها مِن التَّمهُّلِ، وبِضَمِّهَا عكر الزَّيْتِ الأسودُ المظلمُ، ومنه قولُه تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْلِ} [المعارج 8] وقال أبو عبيدٍ: المُهْلُ بالضَّمِّ الصَّديدُ، والمُهل أيضًا عكر الزَّيْتِ الأسودُ، وقال ابن دُرَيدٍ في هذا الحديثِ: إِنَّهَا صديدُ المَيِّتِ، زعموا أَنَّ المهلة ضربٌ مِنَ القَطِرَان، والمُهْل: مَا يَتَحاتُّ مِن الخُبزة مِنْ رَمَادٍ أو غيره.
          وقال أبو عُبيدة: قولُه: الحَيُّ أَحْوَجُ إلى الجديدِ مِنَ الميِّتِ، خلافُ مَنْ يقولُ: إنَّهم يتزاوَرُونَ في أكفانِهم فيجبُ تحسينُها، ألا تراهُ أَنَّهُ يقولُ: فإِنَّما هما للمهلة؟ ويشهدُ لذلكَ قولُ حذيفةَ حينَ أُتِيَ بكَفَنِهِ رَبْطَتَيْنِ، فقال: لا تُغالُوا في الكفنِ؛ الحيُّ أحوجُ إلى الجديدِ مِنَ الميِّتِ، إِنِّي لا ألبثُ إِلَّا يسيرًا حَتَّى أُبَدَّلَ منهما خيرًا منهما أو شرًّا منهما، ومنه قولُ ابنِ الحنفيَّةِ: ليسَ للميِّتِ مِن الكَفَنِ شيءٌ، إِنَّمَا هو تَكْرِمَةٌ للحيِّ.
          وأَمَّا مَنْ خالفَ هذا فرأى تحسينَ الأكفانِ فرُوِيَ عن عمرَ أَنَّهُ قال: أحسنوا أكفانَ موتاكُم فإنَّهم يُبعثونَ فيها يومَ القيامةِ. وعن معاذِ بنِ جبلٍ مثلُه، قلتُ: وأُوِّلَ الكفنُ بالعملِ لأَنَّهُ يَبلَى، وأوصى ابنُ مَسْعودٍ أن يُكفَّنَ في حُلَّةٍ بمئتَيْ درهمٍ، وفي «صحيح مسلمٍ» مِن حديثِ جابرٍ مرفوعًا: ((إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلِيُحْسِن كَفَنَهُ)) وهو مِن أفرادِه، قال ابن المُنْذِرِ: وبحديثِ جابرٍ قال الحسنُ وابنُ سِيرِينَ، وكان إسحاقُ يقولُ: يغالي في الكفنِ إذا كان موسِرًا وإن كانَ فقيرًا فلا يغالِ به.