الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب الجريد على القبر

          ░81▒ (باب: الجريد على القبر) إلى آخره
          قال الحافظ: أي: وضعها أو غَرْزها.
          قوله: (وأوصى بُرَيدة) وقع في رواية الأكثر:<في قبره> وللمستملي: <على قبره> وقد وصله ابن سعد مِنْ طريق مُوَرِّق العِجْلِيِّ قال: أوصى بُرَيدة أن يوضع في قبره جريدتان، ومات بأدنى خرسان(1)، قال ابن المرابط وغيره: يحتمل أن يكون بُرَيدة أمر أن يُغرزا في ظاهر القبر اقتداءً بالنَّبيِّ صلعم في وضعه الجريدتين في القبرين، ويحتمل أن يكون أمر أن يُجعلا في داخل القبر لِما في النَّخلة مِنَ البركة لقوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] والأوَّل أظهر، ويؤيِّده إيراد المصنِّف / حديث القبرين في آخر الباب، وكأنَّ بُرَيدة حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصًّا بذينك الرَّجلين، قالَ ابنُ رُشَيدٍ: ويظهر مِنْ تصرُّف البخاريِّ أنَّ ذلك خاصٌّ بهما، فلذلك عقبه بقول ابن عمر: (إنَّما يُظِلُّه عمله)(2).
          قلت: ولعلَّ بُرَيدة أوصى بجريدتين عملًا بما ورد في قصَّة القبرين مِنْ حديث أبي هريرة، فإنَّ القصَّة رُويت مِنْ حديث ابن عبَّاس كما في حديث الباب، ومِنْ حديث جابر كما أخرجه مسلم في الحديث الطَّويل في آخر الكتاب.
          وبسط الحافظ في تغاير سياق الحديثين بوجوه، ثمَّ قال: فبان تغاير حديث ابن عبَّاس وحديث جابر، وأنَّهما كانا في قصَّتين مختلفتين، ولا يبعد تعدُّد ذلك، وقد روى ابن حبَّان في «صحيحه» مِنْ حديث أبي هريرة أنَّه صلعم مرَّ بقبر فوقف عليه، فقال: ((ائْتُونِي بِجَرِيدَتَيْنِ)) فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه، فيحتمل أن تكون هذه قصَّة ثالثة، ويؤيِّده أنَّ في حديث أبي رافع عند النَّسائيِّ: ((فسمع شيئًا في قبر)) وفيه: ((فكسرها اثنين، ترك نصفها عند رأسه، ونصفها عند رجليه))(3). انتهى مختصرًا.
          وبسط العينيُّ أيضًا الكلام على الوجوه الدَّالَّة على تعدُّد هذه القصص، ثمَّ قال: فسقط بهذا كلام مَنِ ادَّعى أنَّ القضيَّة واحدة، كما مال إليه النَّوويُّ والقُرْطُبيُّ. انتهى.
          قلت: والخلاف في أنَّ وضع الجريدة خاصٌّ بذينك الرَّجلين أو مطَّرد؛ شهيرٌ بين العلماء سلفًا وخلفًا كما تقدَّمت الإشارة إليه في كلام الحافظ مِنْ قول ابن رُشيد وغيره.
          وذكر هذا الاختلافَ الشَّيخُ قُدِّس سرُّه في «البذل»، وذكره في «هامش اللَّامع» وفيه أيضًا قال «الطحاوي(4) على المراقي» بعد ذكر كراهة قطع الحشيش والاستدلال عليها بحديث الجريدة: وفي معنى الجريد ما فيه رطوبة مِنْ أيِّ شجرٍ كان، واستُفيد منه أنَّه ليس لليابس تسبيح، وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] أي: شيءٍ حيٍّ، وحياة كلِّ شيء بحسبه... إلى آخر ما بسطه.
          ثمَّ قال في «شرح المشكاة»: وقد أفتى الأئمَّة مِنْ متأخِّري أصحابنا مِنْ أنَّ ما اعتيد مِنْ وضع الرَّيحان والجريد سُنَّة لهذا الحديث، وإذا كان يُرجى التَّخفيف بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن أعظم بركةً(5). انتهى.
          وكتبَ الشَّيخ في «اللَّامع»: قوله: (وأوصى بُرَيدة...) إلى آخره، ظاهر صنيع المؤلِّف أنَّه فرَّق بين الجريد وغيره، فجَوَّز الأوَّل لورود النَّصِّ فيه، ولم يَجْعله مِنَ الخصوصيَّات، ولم يُجَوِّز غيره مِنَ الأشياء، وتَأيَّد ذلك بعمل الصَّحابيِّ أيضًا، والظَّاهر عند علمائنا [عدم] الفرق، وفعلُه صلعم كان بعلمه(6) بالتَّخفيف وحيًا، ثمَّ إنَّ بُرَيدة فهم أنَّهما لمَّا كانا سببَي التَّخفيف فقربُهما بالميِّت أولى، وبهذا يحمل نسخة <في قبره> ولعلَّه قصد أن يوضع تحت التُّراب فوق الأحجار المسطَّحة على القبر، فعبَّر عنه البعض بلفظه(7) (في) والبعض الآخر بـ(على). انتهى.
          وبسط ابن الحاجِّ في «المدخل» الكلامَ على وضع الجريدة، فارجع إليه لو شئت.
          قوله: (ورأى ابن عمر...) إلى آخره، تقدَّم ما قالَ ابنُ رُشَيدٍ: يظهر مِنْ تصرُّف البخاريِّ أنَّ ذلك خاصٌّ بهما، ولذلك عقَّبه ابن عمر: (إنَّما يظلُّه عمله)(8).
          وقوله: (وقال خارجة بن زيد...) إلى آخره، كتبَ الشَّيخ في «اللَّامع»: أورده لمناسبة أنَّ القبر لا تعظيم له، كما هو ظاهر مِنْ عدم تظليل الفسطاط عليه، ثمَّ إنَّ هذه العبارة دالَّة على كثرة ارتفاع قبره مع أنَّه منهيٌّ عنه، والجواب أنَّ قبره كان على جرف السَّيل أو كان على مستوًى مِنَ الأرض فشقَّه السَّيل حتَّى صار القبر على حافة السَّيل، فكان يثقل على الواثب أن يثبه لا لارتفاعه في نفسه بل لِما يلزم مِنَ الوثوب إلى فوقُ، فتدبَّرْ. انتهى.
          وبسط الكلام في «هامشه» وفيه: قال ابن المنيِّر: أراد البخاريُّ أنَّ الَّذِي ينفع أصحاب القبور هي الأعمال الصَّالحة، وأنَّ علوَّ البناء والجلوس عليه لا يضرُّ بصورته، وإنَّما يضرُّ بمعناه إذا تكلَّم القاعدون عليه بما يضرُّ مثلًا، وقوله: ((أخَذَ بيَدِي خَارِجَة...)) إلى آخره وصله مسدَّد في «مسنده الكبير» وبيَّن فيه سبب إخبار خَارجة لحكيم(9) بذلك، ولفظه عن عثمان بن حكيم: حدَّثنا عبد الله بن سَرْجِس وأبو سَلَمَة بن عبد الرَّحمن أنَّهما سمعا أبا هريرة يقول: ((لَأن أجلس على جمرة فتحرق ما دون لحمي حتَّى تُفْضِي إِلَيَّ، أحبُّ إِلَيَّ مِنْ [أن] أجلس على قبر)) قال عثمان: فرأيت خَارِجَة بن زَيد / في المقابر، فذكرت له ذلك فأخذ بيدي... الحديث.
          قالَ ابنُ رُشَيدٍ: الظَّاهر أنَّ هذا الأثر والَّذي بعده مِنَ الباب الَّذِي بعد هذا، وهو (باب: موعظة المحدِّث عند القبر...) وكأنَّ بعض الرُّواة كتبه في غير موضعه، قال: وقد يُتكلَّف له طريق يكون به مِنَ الباب وهي الإشارة إلى أنَّ ضرب الفسطاط إن كان لغرض صحيحٍ كالتَّستُّر مِنَ الشَّمس مثلًا للحيِّ لا لإظلال الميِّت فقط [جاز]، وكأنَّه يقول: إذا كان على القبر لغرض صحيح لا لقصد المباهاة جاز، كما يجوز القعود عليه لغرض صحيح لا لمن أحدث عليه، قال: والظَّاهر أنَّ المراد بالحديث هاهنا التَّغوُّط، ويحتمل أن يريد ما هو أعمُّ مِنْ ذلك مِنْ إحداث ما لا يليق مِنَ الفحش قولًا وفعلًا فيتأذَّى(10) الميِّت بذلك(11). انتهى.
          قال الحافظ: ويمكن أن يقال: هذه الآثار المذكورة في هذا الباب تحتاج(12) إلى بيان مناسبتها للتَّرجمة، وإلى مناسبة بعضها لبعض، وذلك أنَّه لم يذكر حكم وضع الجريدة، وذكر أثر بُرَيدة وهو يُؤْذِن بمشروعيَّتها، ثمَّ أثر ابن عمر المشْعِر بأنَّه لا تأثير لما يُوضع على القبر، بل التَّأثير للعمل الصَّالح، وظاهرهما التَّعارض، فلذلك أبهم حكم وضع الجريدة، قاله ابن المنيِّر. والَّذي يظهر مِنْ تصرُّفه ترجيحُ الوضع. ويجاب عن أثر ابن عمر بأنَّ ضَرْبَ الفسطاط على القبر لم يرد فيه ما ينتفع به الميِّت بخلاف وضع الجريدة لأنَّ مشروعيَّتها ثبتت بفعله صلعم، وإن كان بعض العلماء قال: إنَّها واقعة عين تحتمل الخصوصيَّة.
          وأمَّا الآثار الواردة في الجلوس على القبر فإنَّ عموم قول ابن عمر: (إنَّما يظلُّه عمله) يدخل فيه أنَّه كما لا ينتفع بتظليله ولو كان تعظيمًا له لا يتضرَّر بالجلوس عليه ولو كان تحقيرًا [له]، والله تعالى أعلم. انتهى.
          قالَ النَّوويُّ: المراد بالجلوس القعودُ عند الجمهور، وقال مالك: المراد بالقعود الحدث، وهو تأويل ضعيف أو باطل(13)... إلى آخر ما بسط في «هامش اللَّامع».


[1] في (المطبوع): ((خراسان)).
[2] فتح الباري:3/223
[3] فتح الباري:1/319
[4] في (المطبوع): ((الطحطاوي)).
[5] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:1/376 مختصرا
[6] في (المطبوع): ((لعلمه)).
[7] في (المطبوع): ((بلفظة)).
[8] فتح الباري:3/223
[9] في هذا الموضع مِنَ الأصلِ حاشية قال فيها: كذا في الأصل والصَّواب بدله لعثمان بن حكيم
[10] في (المطبوع): ((لتأذِّي)).
[11] فتح الباري:3/224
[12] في (المطبوع): ((يحتاج)).
[13] فتح الباري:3/223