الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب قول النبي: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه

          ░32▒ (باب: قول النَّبيِّ صلعم: يُعَذَّب الميِّت بِبَعض بُكَاء أهلِه عَلَيْه(1))
          قال الحافظ: قوله: (إذا كان النَّوح...) إلى آخره، هذا تقييد مِنَ المصنِّف لمطلق الحديث، وحملٌ منه لرواية ابن عبَّاس المقيَّدة بالبعضيَّة على رواية ابن عمر المطلقة، كما ساقه في الباب عنهما، وتفسير منه للبعض المبهم في رواية ابن عبَّاس بأنَّه النَّوح، ويؤيِّده أنَّ المحذور بعضُ البكاء لا جميعه.
          وقوله: (إذا كان النَّوْح...) إلى آخره، يوهم أنَّه بقيَّة الحديث المرفوع، وليس كذلك، بل هو كلام المصنِّف قاله تفقُّهًا، وهذا الَّذِي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث المذكور. انتهى.
          واختُلف في ضبط قوله: (مِنْ سُنَّته) فللأكثر في موضعين بضمِّ المهملة وتشديد النُّون، أي: طريقته وعادته، وضبطه بعضهم بفتح المهملة بعدها موحَّدتان الأولى مفتوحة، أي: مِنْ أجله. انتهى.
          واختلفوا في التَّرجيح بينهما فمنهم مَنْ رجَّح الأوَّل _ومنهم البخاريُّ_ على رأي الحافظ حيث استشهد بالحديث الَّذِي فيه لأنَّه أوَّل مَنْ سَنَّ القتل، ومنهم مَنْ رجَّح الثَّاني وأنكر الأوَّل، وهو أبو الفضل إذ قال: وأي سُنَّة للميت؟(2) انتهى.
          ثمَّ اختلف العلماء في توجيه الحديث على أقوال عديدة بلغها في «الأوجز» إلى أربعة عشر قولًا:
          أحدها: أنَّ الحديث على ظاهره مطلقًا وهو رأي عمر وابنه، قال الحافظ: منهم مَنْ حمله على ظاهره، وهو بَيِّنٌ مِنْ قصَّة عمر مع صهيب، كما أخرجه البخاريُّ. انتهى.
          الثَّاني: لا مطلقًا، قال الحافظ: ويقابل هؤلاء قولُ مَنْ ردَّ هذا الحديث وعارضه بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] رُوي ذلك عن أبي هريرة.
          الثَّالث: أنَّ الباب للحال لأنَّه يعذَّب حال بكائهم عليه، والتَّعذيب عليه مِنْ ذنبٍ لا بسبب البكاء.
          الرَّابع: أنَّه خاصٌّ بالكافر، والقولان _أي الثَّالث والرَّابع_ عن عائشة، قاله السُّيوطيُّ.
          الخامس: أنَّه خاصٌّ بمن كان النَّوح مِنْ سُنَّته وطريقته، وعليه البخاريُّ.
          السَّادس: أنَّه فيمن أوصى به، وهو قول الجمهور، وسيأتي البسط فيه في آخر الأقوال.
          السَّابع: أنَّه فيمن لم يوص بتركه فتكون الوصيَّة بذلك واجبة، قالَ العَينيُّ والنَّوويُّ: حاصله إيجاب الوصيَّة بترك البكاء والنَّوح، وهو قول داود وطائفة.
          الثَّامن: التَّعذيب بالصِّفات الَّتِي يبكون بها عليه، وهي مذمومة شرعًا، كما كان أهل الجاهليَّة يقولون: يا مرمِّل النِّسوان، يا متيم(3) الأولاد، يا مخرِّب الدُّور، فهم يمدحونه بها وهو يعذَّب بصنيعه ذلك، وهو اختيار ابن حزم وطائفة.
          التَّاسع: أنَّ المراد به توبيخ الملائكة له بما يَنْدُبُ به أهْلُه، كما في رواية: ((إذ(4) قالت النَّائحة: واعضداهْ واناصراهْ واكاسياهْ، جُبِذ الميِّت وقيل له: أنت عضدها؟! أنت ناصرها؟! أنت كاسيها؟!)).
          العاشر: قال الحافظ: وحكى الكَرْمانيُّ تفصيلًا آخر وحسَّنه، وهو التَّفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيُحمل قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] على يوم القيامة، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ، ويؤيِّده قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّة} الآية [الأنفال:25] فإنها دالَّة على جواز / وقوع التَّعذيب على الإنسان بما ليس فيه تسبُّب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ.
          الحادي عشر: أنَّ المراد بالعذاب تألُّم الميِّت بسبب بكاء أهله عليه على وجه مذموم، كما يتألَّم بسائر المعاصي الصَّادرة عنهم، ويفرح بالأعمال الصَّالحة الكائنة منهم.
          الثَّاني عشر: أنَّ المراد بالميِّت المحتضر مجازًا، وبالتَّعذيب التَّعذيبُ في الدُّنيا، أي: المحتضر يتألَّم ببكاء أهله عليه.
          الثَّالث عشر: وهو قريب بالقول الحادي عشر أنَّ المراد تألُّم الميِّت بما يقع مِنْ أهله مِنَ الناحية(5) وغيرها، وهو اختيار الطَّبريِّ، ورجَّحه ابن المرابط وابن تيمية وجماعة مِنَ المتأخِّرين، واستشهدوا له لحديث قَيْلَة بنت مَخْرَمَة ذكر في «الأوجز»، والفرق بين هذا وبين ما سبق أنَّ تألُّم الميِّت في القول السَّابق كان لارتكاب الحيِّ معصية، وفي هذا تألُّمه وبكاؤه لتألُّم الحيِّ، فتأمَّلْ.
          الرَّابع عشر: ما قيل: إنَّ الرَّاوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه، وإنَّ اللَّام في الميِّت لمعهود معيَّن كما قالت عائشة: ((إنَّما مرَّ رسول الله صلعم على يهوديَّة))... الحديث.
          قلت: هذا آخر ما ظفرتُ عليه مِنْ أقوال العلماء، وقد عرفتَ أنَّ الجمهور على القول السَّادس حتَّى قال أبو اللَّيث السَّمَرْقَنْديُّ: إنَّه قول عامَّة أهل العلم، وكذا نقله النَّوويُّ عن الجمهور، قالوا: وكان معروفًا للقدماء حتَّى قال طرفة بن العبد:
إذا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أنَا أهْلُهُ                     وَشُقِّي عَلَيَّ الجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ
          قالَ العَينيُّ: هو أصحُّ الأقوال.
          قلت: وبه قالت الحنفيَّة كما في «الدُّرِّ المختار»، وكذا عند الشَّافعيَّة كما في «شرح الإقناع».
          ثمَّ ذكر في «الأوجز» مسألة البكاء على الميِّت وهي الَّتِي أشار إليها البخاريُّ فيما سيأتي بقوله: (وما يُرَخَّص مِنَ البكاء) عن كتب فروع الأئمَّة الأربعة، فهو جائز على المذاهب الأربعة مِنْ غير ندب، وهو البكاء مع تعداد محاسن الميِّت ومِنْ غير نياحة، وهو رفع الصَّوت برنَّة، وأمَّا البكاء معها(6) أو مع أحدهما فحرام عند الجمهور(7). انتهى.
          قوله: (لقول الله ╡: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التَّحريم:6]) وجه الاستدلال لما ذهب إليه مِنْ هذه الآية أنَّ هذا الأمر عامٌّ في جهات الوقاية، ومِنْ جملتها ألَّا يكون الأصل مُولعًا بأمر منكر لئلَّا يجري أهله عليه بعده أو يكون قد عرف أنَّ لأهله عادة بفعل أمر منكر وأهمل نهيهم عنه فيكون لم يقِ نفسه ولا أهله. انتهى.
          وقس على هذا وجهَ الاستدلال مِنْ حديث: (كُلَّكُمْ رَاعٍ...) إلى آخره(8).


[1] قوله: ((عليه)) ليس في (المطبوع).
[2] فتح الباري:3/152 مختصرا
[3] في (المطبوع): ((ميتٍّم)).
[4] في (المطبوع): ((إذا)).
[5] في (المطبوع): ((النياحة)).
[6] في (المطبوع): ((معهما)).
[7] أوجز المسالك:4/554 وفي تفصيل واف لما اختصره هنا لهذه الأقوال.
[8] أنظر فتح الباري:3/152