إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن عمر بن الخطاب استعمل مولًى له يدعى هنيًا على الحمى

          3059- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) بن أبي أويسٍ (قَالَ / : حَدَّثَنِي) بالإفراد (مَالِكٌ) الإمام الأعظم (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ) أسلم مولى عمر بن الخطَّاب (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ☺ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا) بضمِّ الهاء وفتح النُّون وتشديد التَّحتيَّة وقد تُهمزُ (عَلَى الحِمَى) بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مقصورًا، وهو موضعٌ يعيِّنه الإمام لنحو نَعَم الصَّدقة ممنوعًا عن الغير، وعند ابن سعدٍ من طريق عمير بن هنيٍّ عن أبيه: أنَّه كان على حمى الرَّبَذَة (فَقَالَ) أي: عمر له: (يَا هُنَيُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ) أي: اكفف يدك عن ظلمهم (وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ) فإنَّها لا تُحجَب عن الله، ولأبي ذَرٍّ: ”المسلمين“ كذا في عدَّةٍ من فروع «اليونينيَّة» كهي وغيرها، وعزا الأولى في «فتح الباري» للإسماعيليِّ والدَّارقُطنيِّ وأبي نُعيمٍ، وتبعه العينيُّ، والعجب منه أنَّها في المتن الَّذي ساقه بلفظ: «المظلوم» (فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَأَدْخِلْ) بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة، يعني(1): أدخل في الحمى والمرعى (رَبَّ الصُّرَيْمَةِ) بضمِّ الصَّاد المهملة وفتح الرَّاء، وهي القطيعة من الإبل بقدر الثَّلاثين (وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ) بضمِّ الغين المعجمة وفتح النُّون تصغير: غَنَم، والمراد: القليل منهما كما دلَّ عليه(2) التَّصغير (وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ) عبد الرَّحمن (وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ) عثمان، كان القياس أن يقول: وإيَّاك لأنَّ هذه الكلمة للتَّحذير، وتحذير المتكلِّم نفسه قليلٌ كما مرَّ، ولكنَّه بالغ فيه من حيث إنَّه حذَّر نفسه، ومراده: تحذير من يخاطبه وهو أبلغ لأنَّه ينهى نفسه، ومراده: نهي من يخاطبه عن إيثار ابن عوفٍ وابن عفَّان على غيرهما في الرَّعي، أو تقديمهما على الغير، وخصَّهما بالذِّكر على طريق المثال؛ لأنَّهما كانا من مياسير الصَّحابة، ولم يرد بذلك منعهما البتَّة، وإنَّما أراد أنَّه إذا لم يَسَعِ المرعى إلَّا نَعَم أحد الفريقين فَنَعَم المقلِّين أَولى، وقد بيَّن وجه ذلك بقوله: (فَإِنَّهُمَا) أي: ابن عوفٍ وابن عفَّان (إنْ تَهْلِكْ(3)) بكسر اللَّام والجزم (مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى) عوض ذلك من(4) أموالهما من (نَخْلٍ وَزَرْعٍ) وغيرهما (وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ) القليلة (وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ) القليلة اللَّذَيْنِ ليس لهما إلَّا ذلك(5) (إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي) مجزومٌ بحذف الياء (بِبَنِيهِ) أي: بأولاده، ولغير الكُشْمِيهَنِيِّ كما في «الفتح»: ”ببيته“ بمثنَّاةٍ فوقيَّةٍ، قبلها تحتيَّةٌ ساكنةٌ بلفظِ مفردِ «البيت» والمعنى متقاربٌ‼ (فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ) مرَّتين، أي: نحن فقراء محتاجون، أو نحو ذلك، وعند غير أبي ذرٍّ: ”يا أمير المؤمنين“ مرَّةً واحدةً (أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا؟!) بهمزة الاستفهام الإنكاريِّ، أي: أنا لا أتركهم محتاجين، ولا أجوِّز ذلك، فلا بدَّ لي من إعطاء الذَّهب والفضَّة لهم بدل الماء والكلأ من بيت المال (لَا أَبَا لَكَ) بغير تنوينٍ، لأنَّه كالمضاف، وظاهره الدُّعاء عليه، لكنَّه على المجاز لا الحقيقة (فَالمَاءُ وَالكَلأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ) أي: من إنفاقهما من بيت المال (وَايْمُ اللهِ إِنَّهُمْ) أي: أرباب المواشي القليلة من أهل المدينة وقراها (لَيَرَوْنَ) بفتح المثنَّاة التَّحتيَّة، أي: ليعتقدون، وبضمِّها، أي: ليظنُّون (أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ، إِنَّهَا) أي: هذه الأراضي (لَبِلَادُهُمْ فَقَاتَلُوا) بفاءٍ قبل القاف، ولأبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ وابن عساكرٍ: ”قاتلوا“ (عَلَيْهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا) عفوًا (فِي الإِسْلَامِ) فكانت أموالهم لهم، وهذا بخلاف من أسلم من أهل العنوة، فإنَّ أرضه فيءٌ للمسلمين؛ لأنَّهم غلبوا على بلادهم كما غلبوا على أموالهم، بخلاف أهل الصُّلح في ذلك، وإنَّما ساغ لعمر ☺ ذلك لأنَّه كان مَواتًا فحماه لِنَعَم الصَّدقة ومصلحة المسلمين (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا المَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ) مَن لا يجد ما يركبه (فِي سَبِيلِ اللهِ) من الإبل والخيل (مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا) وجاء عن مالكٍ: أنَّ عدَّة ما كان في الحمى في عهد عمر بلغ أربعين ألفًا من إبلٍ وخيلٍ وغيرهما.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «إنَّها لبلادهم» إلى آخرها، وأشار بالتَّرجمة إلى الرَّدِّ(6) على من قال من الحنفيَّة: إنَّ الحربيَّ إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتَّى غلب المسلمون عليها فهو أحقُّ بجميع ماله إلَّا أرضه وعقاره، فإنَّها تكون فيئًا للمسلمين. وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور، قاله في «فتح الباري»، وهذا الأثر تفرَّد به البخاريُّ عن الجماعة. وقال / الدَّارقُطنيُّ فيه: غريبٌ صحيحٌ.


[1] في (م): «أي».
[2] في (م): «عليها».
[3] في (م): «يهلك» وهو تحريفٌ.
[4] في (ص): «في».
[5] في (ب) و(س): «ذاك».
[6] في (د) و(ص): «للرَّدِّ».