الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق

           ░29▒ (باب: قِبْلَة أهْلِ المَدِيْنَة...) إلى آخره
          كتب الشَّيخ في «اللَّامع» أي: أين هو؟ والرِّواية دالَّة على أنَّها بين المشرق والمغرب، ثُمَّ قوله: (المشرق) إن كان معطوفًا على قوله: (قبلة) فهو داخل تحت الباب، والمعنى: باب ذكر المشرق أنَّه ليس قبلة أهل المدينة، وإن كان مرفوعًا فهو ابتداء كلامٍ، والمعنى: أمَّا المشرق فليس مدار القبلة على المشرق ولا على المغرب، وإنَّما القبلة البيت إلى أيِّ جهةٍ وقعت، وأيًّا ما كان، فترك ذكر المغرب وهو مُرادٌ بناءً على الظُّهور، فإنَّ المشرق والمغرب لا يتفاوتان في هذا الحكم، فذِكْر أحدهما مغنٍ عن ذكر الآخر، وكثيرًا ما يحذف المعطوف لدلالة المعطوف عليه [عليه]. انتهى.
          وفي «هامشه»: هذه التَّرجمة مِنَ التَّراجم الصَّعبة، قال العينيُّ: هذا الموضع يحتاج إلى تحريرٍ قويٍّ، فإنَّ أكثر مَنْ تصدَّى لشرحه لم يغنِ شيئًا، بل بعضهم ركب البعاد وخرط القتاد، فنقول وبالله التَّوفيق: ثُمَّ بسط في مختاره، وحاصل ما ذكر الشُّرَّاح أنَّ هاهنا بحثين:
          الأوَّل: في إعراب المشرق هل هو بالجرِّ أو بالضَّمِّ؟
          والثَّاني: في ذكر لفظ <قبلة> في آخر الكلام بعد قوله: (ولا في المغرب) فهو موجودٌ في بعض النُّسخ دون بعضٍ، أمَّا على النُّسخ الَّتي ليس فيها: هذا اللَّفظ، فلفظ: <بابٌ> منون، وقوله: (قبلة أهل المدينة) مبتدأٌ خبره (ليس في المشرق)، ويشكل على هذا تذكير لفظ: (ليس)، إذ حقُّه إذ ذاك لفظ: ليست، فأوَّلوه بالمستَقْبَل، قال الكَرْمانيُّ: ويؤوَّل تذكير لفظ: (ليس) بأنَّ المراد بالقبلة المستَقْبَل، أي: مستَقْبَل أهل المدينة ليس في جهة المشرق والمغرب. انتهى مختصرًا.
          وعلى هذا يكون لفظ: (المشرق) مجرورًا لا محالة، وعلى الثَّاني يكون المراد: (بالمشرق) أهل المشرق كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، وأمَّا على النُّسخ الَّتي يوجد فيها لفظ: <قبلة> فقوله: (ليس في المشرق) جملةٌ مستأنفةٌ مبتدأٌ وخبرٌ كما قالوا، وعلى هذا فلفظ: (المشرق) يحتمل الجرَّ ويكون المراد منه مشرقٌ خاصٌّ وهو مشرق أهل المدينة خاصَّةً، وخصَّهم بالذِّكر لأنَّهم كانوا إذ ذاك مأمورين بالإسلام، ويوضِّح المراد ما في «هامش الكوكب» في (باب: ما جاء أنَّ ما بين المشرق والمغرب قبلة)، فارجع إليه لو شئت.
          ويحتمل أيضًا أن يكون (المشرق) بالضَّمِّ على رواية الأكثر، وصوَّبه الزَّركشيُّ عطفًا على <باب>، أي: وباب حكم المشرق، ثُمَّ حذف باب وحكم وأقيم المشرق مقام الأوَّل، وهذا هو الَّذِي اختاره الشَّيخ قُدِّس سرُّه .
          والأوجه عندي: أنَّ قوله: (والمشرق) إن كان بالجرِّ فيكون المراد به المشرق الخاصَّ كما تقدَّم، وإن كان بالضَّمِّ فهو على ما أفاده الشَّيخ يكون عامًا لأهل المشرق كلِّها، وأيَّا ما كان فغرض المصنِّف بالتَّرجمة قوله: (ليس في المَشْرِق والمَغْرِب قِبْلَةٌ) أي: لأهل المدينة، وهو المقصود بالتَّرجمة، فكأنَّه أراد بذلك الرَّدَّ على المذهب الثَّامن مِنَ المذاهب الثَّمانية المذكورة في «الأوجز» في (باب: النَّهي عن استقبال القبلة واستدبارها)، وهو مذهب أبي عوانة صاحب المُزَنيِّ إذ / قال: إنَّ التَّحريم مختصٌّ بأهل المدينة ومَنْ كان على سَمْتِها، أمَّا مَنْ كانت قِبْلَتُه إلى الشَّرق أو الغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار، لقوله ╕: (وَلَكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا) فنبَّه المصنِّف بالتَّرجمة أنَّ حكم النَّهي عامٌّ، وقوله صلعم: (شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا) خاصٌّ لأهل المدينة والشَّام، لأنَّه ليس قبلتهم في المشرق ولا في المغرب، فتأمَّل.
          فإن خاطري أبو عذره، فإن كان صوابا فمن الله عز اسمه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. انتهى ملخصا.