شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صيام أيام التشريق

          ░68▒ باب: صَومِ(1) أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
          فيه: عَائِشَةُ: أَنَّهَا كَانَت تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ عُروَةُ(2) يَصُومُهَا. [خ¦1996]
          وفيه: عَائِشَةُ وابْنُ عُمَرَ قالا: (لَمْ يُرَخَّص في أَيَّامَ التَّشريقِ أن يُصَمْنَ إلَّا لِمَن لَمْ يَجِدِ الْهَدْي). [خ¦1999]
          وقال ابْنُ عُمَرَ: الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ إلى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى.
          قال المؤلِّف: أيَّام التَّشريق هي أيَّام منى، وهي الأيَّام المعدودات، وهي(3) الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجَّة.
          قال ابن المنذر: واختلف العلماء في صيامها، فرُوي عن ابن(4) الزِّبير أنَّه كان يصومها، وعن الأسود بن يزيد مثله، وقال أنس: كان أبو طلحة قلَّ ما رأيته يفطر إلَّا يوم فطر أو أضحى، وكذلك كان ابن سيرين يصوم الدَّهر غير هذين اليومين، وكان مالك والشَّافعيُّ يكرهان صوم(5) أيَّام التَّشريق إلَّا للمتمتِّع الذي لا يجد الهدي، فيصوم هذه الثَّلاثة الأيَّام لأنَّها في الحجِّ إذا لم يصمها في العشر على ما جاء عن عائشة وابن عمر، ورُوي ذلك عن عبيد بن عمير وعروة، وهو قول الأوزاعيِّ وإسحاق، ذكره / ابن المنذر.
          وذكر الطَّحاويُّ أنَّ هؤلاء أباحوا صيام أيَّام التَّشريق للمتمتِّع والقارن والمحصر إذا لم يجدوا(6) هديًا ولم يكونوا صاموا قبل ذلك، ومَنعوا منها من سواهم، وخالفهم آخرون فقالوا: ليس لهؤلاء ولا لغيرهم من النَّاس أن يصوموا هذه الأيَّام عن شيء من ذلك، ولا عن كفَّارةٍ، ولا في تطوُّعٍ لنهي النَّبيِّ صلعم عن ذلك، ولكن على المتمتِّع والقارن الهدي لتمتُّعهما وقرانهما، وهديٌ آخر لأنَّهما حلَّا بغير صوم، هذا قول الكوفيِّين، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ، وذكر ابن المنذر عن عليِّ بن أبي طالب أنَّ المتمتِّع إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثَّلاثة الأيَّام في العشر يصومها بعد أيَّام التَّشريق(7)، وهو قول الحسن وعطاء.
          واحتجَّ الكوفيُّون بما روى إسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه عن جدِّه قال: ((أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ أُنَادِيَ أَيَّامَ مِنًى أَنَّها أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ، وَلَا صَومَ فِيهَا)) يعني أيَّام التَّشريق، وروته عائشة وعمرو بن العاص(8) وعبد الله بن حذافة وأبو هريرة، كلُّهم عن النَّبيِّ صلعم، فلمَّا تواترت هذه الآثار بالنَّهي عن صيام أيَّام التَّشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنًى والحاجُّ مقيمون بها، وفيهم المتمتِّعون والقارنون ولم يستثن منهم أحدًا، دخل في ذلك المتمتِّعون والقارنون وغيرهم.
          قال ابن القصَّار: ومن حجَّة مالك قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ}[البقرة:196]، ولا خلاف بين العلماء أنَّ هذه الآية نزلت يوم التَّروية، وهو الثَّامن من ذي الحجَّة، فعُلم أنَّه أباح لهم صومها(9)، وأنَّهم صاموا فيها لأنَّ الَّذي بقي من العشر الثَّامن والتَّاسع، والثَّامن الَّذي نزلت فيه الآية لا يصحُّ صومه لأنَّه يحتاج إلى تبييتٍ من اللَّيل، والعاشر يوم النحر والإجماع أنَّه لا يُصام(10)، فعُلم أنَّهم صاموا بعد ذلك.
          وقول ابن عمر وعائشة(11): ((لَم يُرَخَّص فِي أَيَّامِ التَّشرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَن لَم يَجِدِ الهَديَ)) يرفع الإشكال في ذلك.
          قال المُهَلَّب: ومن حجَّة مالكٍ أيضًا قول عمر بن الخطاب(12) في يوم الفطر والنحر: ((هَذَانِ يَومَانِ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَومُ فِطرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُم، وَالآخَرُ يَومٌ تَأكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُم))، فخصَّ اليومين بالنَّهي، وبقيت أيَّام التَّشريق مباحة، فأمَّا قوله ◙: (فَإِنَّها(13) أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ) فإنَّما يختصُّ بذلك من لم يكن عليه صومٌ واجبٌ، فعلى هذا تتَّفق الأحاديث، وفي إباحة صيامها للمتمتِّع حجَّة لمالك فيما ترجَّح قوله فيه فيمن يبتدئ صوم الظِّهار في(14) ذي القعدة، وقال: عسى أن يجزئه إن نسي أو غفل إذا أفطر يوم النَّحر وصام أيَّام التَّشريق، ثمَّ وصل اليوم الَّذي أفطره، رجوتُ أن يجزئه، ويبتدئه أحبُّ. إليَّ وإنَّما قال ذلك لأنَّ صوم المتمتِّع صوم واجب(15)، وإنَّما ينهى عن صيامها من ليس عليه صوم(16) واجب، وقال غير واحدٍ عن مالك: إنَّ اليوم الرَّابع لم يختلف قوله فيه أنَّه يصومه من نذره، ومن فصَّل فيه صيامًا واجبًا ولا يُبتدأ فيه، ولا يُصام تطوُّعًا.
          وقال ابن المنذر: مذهب ابن عمر في صيام هذه الثَّلاثة الأيَّام من حين يحرم بالحجِّ وآخرها يوم عرفة، وهذا معنى قول البخاريِّ عن ابن عمر: (الصِّيَامُ لِمَن تَمَتَّعَ بِالعُمرَةِ إِلَى الحَجِّ إِلَى يَومِ عَرَفَةَ).
          قال ابن المنذر: وجماعة الفقهاء لا يختلفون في جواز صيامها بعد الإحرام بالحجِّ، إلَّا عطاء فإنَّه قال: إن صامهنَّ حلالًا أجزأه، وهو قول أحمد بن حنبل، قال أبو بكر: لا يجب الصَّوم على المتمتِّع إلَّا بعد الإحرام، فمن صام قبل ذلك كان تطوُّعًا، ولا يجزئه عن فرضه.
          وفي قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ}[البقرة:196]أبين البيان أنَّه لا يجزئه(17) صيامها في غير الحجِّ، وهذا يردُّ أيضًا ما رُوي عن عليٍّ والحسن وعطاء.


[1] في (م): ((صيام)).
[2] كذا في النسخ والذي في الصحيح: ((أبوها)).
[3] زاد في (م): (اليوم).
[4] قوله: ((ابن)) ليس في (م).
[5] في (م): ((صيام)).
[6] في (ز) و(ص): ((يجد)) والمثبت من (م).
[7] زاد في (م): ((رواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي)).
[8] في (م): ((العاصي)).
[9] في (م): ((صومهما)).
[10] قوله: ((والإجماع أنه لا يصام)) ليس في (م).
[11] زاد في (م): ((أنه)).
[12] في النسخ و(ص): ((قول النبي صلعم))، وهو سبق قلم، والمثبت موافق للمطبوع.
[13] في (م): ((إنها)).
[14] في (م): ((من)).
[15] قوله: ((وإنما قال ذلك؛ لأن صوم المتمتع صوم واجب)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[16] في (م): ((صيام)).
[17] في (م): ((لا يجوز)).