شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام

          ░48▒ بابُ: الْوِصَالِ. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ في اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ}[البقرة:187]وَنَهى النَّبيُّ صلعم(1) رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ.
          فيه: أَنَسٌ: قَالَ(2) صلعم: (لا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى، أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى). [خ¦1961]
          وفيه: أَبو سَعِيدٍ: قَالَ(3) صلعم: (لا تُوَاصِلُوا، / فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ) الحديث(4). [خ¦1963]
          وترجم له باب الوصال إلى السَّحر.
          اختلف العلماء في تأويل أحاديث الوصال، فقال قائلون: إنَّما نهى رسول الله صلعم عن الوصال رحمةً لأمَّته وإبقاء عليهم، فمن قدر عليه فلا حرج، لأنَّه لله تعالى يدع طعامه وشرابه، وقد واصل جماعةٌ من السَّلف، ذكر الطَّبريُّ بإسناده عن ابن الزُّبير(5) أنَّه كان يواصل سبعة أيَّام حتَّى تيبس أمعاؤه، فإذا كان اليوم السَّابع أتى بسمنٍ وصَبِرٍ فتحسَّاه حتَّى يفتق الأمعاء، وعن عبد الرَّحمن بن أبي نُعْم أنَّه كان لا يفطر في رمضان كلِّه إلَّا مرَّتين، وحكى مالك عن عامر بن عبد الله بن الزُّبير أنَّه كان يواصل ليلة ستَّ عشرة وليلة سبع عشرة من رمضان لا يفرِّق بينهما، فقيل له: ماذا تجده يقوتك في وصالك؟ قال: السَّمن أشربه، أجدُه يبلُّ عروقي، فأمَّا الماء فإنَّه يخرج من جسدي.
          وأجاز ابن وهبٍ وأحمد بن حنبل وإسحاق الوصال من سحرٍ إلى سحرٍ، واحتجُّوا بحديث أبي سعيد أنَّ النَّبيَّ صلعم، قال: ((لَا تُوَاصِلُوا، وَأَيُّكُم أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَليُوَاصِلَ حَتَّى السَّحَرِ)). فأذن في ذلك ◙ لمن أطاقه من أمَّته على النَّحو الَّذي يجوز، وذلك تأخير الأكل إلى السَّحر، ونهى عنه من كان له غير مطيقٍ بقوله: ((فَاكلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ)) بعد أن قد(6) بيَّن لهم ◙ أنَّه قد أُعطي من القوَّة على الوصال ما لم يُعط غيره بقوله ◙: (إِنِّي لَستُ كَهَيئَتِكُم، إِنِّي أَبِيتُ يُطعِمُنِي رَبِّي وَيَسقِينِ(7)).
          فأمَّا الصَّوم ليلًا فلا معنى له، لأنَّ ذلك غير وقتٍ للصَّوم، كما شعبان غير وقتٍ لصوم شهر رمضان، وكذلك لا معنى لتأخير الأكل إلى(8) السَّحر لمن كان صائمًا في رمضان إذا لم يكن تأخيره ذلك طلبًا للنَّشاط(9) على قيام اللَّيل، لأنَّ فاعل ذلك إن لم يفعله لما ذكرناه فإنَّه يجيع(10) نفسه لغير(11) ما فيه لله رضا، فلا معنى لتركه الأكل بعد مغيب الشَّمس لقوله ◙: ((إِذَا غَرَبَتِ الشَّمسُ فَقَد أَفطَرَ الصَّائِمُ))، وكره مالك والثَّوريُّ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وجماعة الوصال على كلِّ حالٍ لمن قدر عليه، ولم يجيزوه لأحد، واحتجُّوا أنَّه ◙ نهى عنه وقال: ((إِذَا نَهَيتُكُم عَنْ شَيءٍ فَانتَهُوا)). قالوا: ولمَّا قال: (لَستُ كَهَيئَتِكُم)، أعلمهم أنَّ الوصال لا يجوز لغيره، واحتجُّوا بقوله ◙: ((إِذَا غَرَبَتِ الشَّمسُ فَقَد أَفطَرَ الصَّائِمُ)). قالوا(12): فهذا يدلُّ أنَّ الوصال للنَّبيِّ ◙ خصوص، وأنَّ المواصل لا ينتفع بوصاله، لأنَّ اللَّيل ليس موضعًا للصَّوم بدليل هذا الحديث، وبقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ}[البقرة:187].
          قال الطَّبريُّ: وأمَّا ما رُوي عن بعض الصَّحابة وغيرهم من تركهم الأكل الأيَّام ذوات العدد ليلًا ونهارًا فإنَّ ذلك كان منهم على أنحاء شتَّى، فمنهم من(13) كان ذلك منه لقدرته عليه، فيصرف فطره، إذ لم يكن يمنعه تركه من أداء فرائض الله الواجبة عليه إلى أهل الفقر والحاجة، طلبَ ثواب الله وابتغاء وجهه، مثل ما رُوي عن الحسن أنَّه قال: لقد أدركنا أقوامًا وصحبنا طوائف، إنَّ أحدهم يمسي وما عنده من العشاء إلَّا قدر ما يكفيه، ولو(14) شاء لأتى عليه، فيقول: ما أنا بآكله حتَّى أجعل لله منه، ومنهم من كان يفعله استغناء عنه إذا(15) كانت نفسه قد مرنت عليه واعتادته(16)، كما حدَّثني أبو كريب عن أبي بكر بن عيَّاش، عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيميِّ قال: ربَّما لبثت ثلاثين يومًا ما أطعم من غير صوم إلَّا الحبَّة، وما يمنعني ذلك من حوائجي، قال الأعمش: وكان إبراهيم التَّيميُّ يمكث شهرين لا يأكل، ولكنَّه كان يشرب شربة نبيذٍ، ومنهم من كان يفعله منعًا لنفسه شهوتها ما لم تَدْعُهُ إليه الضَّرورة(17)، ولا خاف العجز عن أداء الواجب لله عليه إرادة منه قهرها، وحملها على الأفضل، كالَّذي رُوِّينا عن مجاهد أنَّه قال: لو أكلت كلَّ ما أشتهي ما ساويت(18) حشفة(19).
          فما رُوي عن السَّلف أنَّهم كانوا يواصلون الأيَّام الكثيرة فإنَّه على بعض هذه الوجوه الَّتي ذكرت، لا(20) أنَّه كان يصوم اللَّيل، أو على أنَّه كان يرى أنَّ تركه الأكل والشُّرب فيه كصوم النَّهار، ولو كان ذلك صومًا كان لمن شاء أن يفرد اللَّيل بالصَّوم دون النَّهار، والنَّهار دون اللَّيل ويقرنهما إذا شاء، وفي إجماع من تقدَّم وتأخَّر ممَّن أجاز الوصال وممَّن كرهه على أنَّ إفراد اللَّيل بالصَّوم إذا لم يتقدَّمه صوم نهار تلك اللَّيلة غير جائزٍ أَدَلُّ الدَّليل على أنَّ صومه غير جائزٍ، وإن كان تقدَّمه صوم(21) نهار تلك اللَّيلة.
          وقوله: (إِنِّي أَبِيتُ أُطعَمُ وأُسقَى) فيه تأويلان: أحدهما: على / ظاهر الحديث يطعمه الله ويسقيه. والثَّاني: على الاستعارة. والمعنى أنَّ الله تعالى يرزقه قوَّةً على الصِّيام كقوَّة من أكل وشرب، والدَّليل على صحَّة هذا القول الآخر أنَّه لو أُطعم وأُسقي على الحقيقة لم يكن مواصلًا، ولكان مفطرًا.


[1] زاد في (م): ((عنه)).
[2] زاد في (م): ((النبي)).
[3] زاد في (م): ((النبي)).
[4] قوله: ((الحديث)) ليس في (م).
[5] في (ص): ((أبي الزبير)).
[6] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[7] في (م): ((ويسقيني)).
[8] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[9] في (م): ((طلب النشاط)).
[10] في (م): ((مجيع)).
[11] في (م): ((في غير)).
[12] قوله: ((قالوا)) ليس في (م).
[13] قوله: ((من)) ليس في (م).
[14] في (م): ((لو)).
[15] في (ص): ((أو)).
[16] في (م): ((واعتاده)).
[17] في (م): ((ضرورة)).
[18] في (م): ((سويت)).
[19] الحشفة: التمرة اليابسة.
[20] في (م): ((لا على)).
[21] في (م): ((صومه)).