شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القبلة للصائم

          ░24▒ باب: الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ.
          فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ(1): (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ). [خ¦1928]
          فيه(2): أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ(3): (بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم في الْخَمِيلَةِ؛ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَقَالَ: مَا لَكِ، أَنَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ في الْخَمِيلَةِ، وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ صلعم يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ). [خ¦1929]
          قال ابن المنذر: اختلف العلماء في القبلة للصَّائم، فرخَّص فيها جماعة، رُوي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب وأبي هريرة وابن عبَّاسٍ وعائشة، وبه قال عطاء والشَّعبيُّ والحسن، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال ابن مسعود: إن قبل وهو صائم صام(4) يومًا مكانه، قال الثَّوريُّ: وهذا لا يُؤخذ به، وكره ابن عمر القبلة للصَّائم ونهى عنها، وقال عروة: لم أر القبلة للصَّائم تدعو إلى خير، وذكر الطَّحاويُّ عن شعبة، عن عِمْرَان بن مسلم، عن زاذان، عن عُمَر بن الخطَّاب قال(5): لأن أعضَّ على جمرة أحبَّ إليَّ من أن أقبِّل وأنا صائمٌ، وروى / الثَّوريُّ عن عِمْرَان بن مسلم عن زاذان عن ابن عمر مثله، وذكر(6) عن سعيد بن المسيِّب، قال(7): الَّذي يقبِّل امرأته وهو صائمٌ يُنقَضُ صومه، وكره مالك القبلة للشَّيخ والشَّاب، وأخذ بقول ابن عمر، وأباحها فرقة للشَّيخ(8) وحظرها للشَّاب(9)، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ، ورواه مُوَرِّق عن ابن عمر، وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ.
          قال الطَّحاويُّ: فأمَّا ما رُوي عن ابن مسعودٍ فقد رُوي عنه خلافه، روى إسرائيل عن طارق عن حكيم بن جابر عن ابن مسعودٍ أنَّه كان يباشر امرأته وهو صائمٌ، وما ذكروه من قول سعيد أنَّه يُنقَض صومه فإنَّ ما رُوي عن رسول الله صلعم أنَّه كان يقبِّل وهو صائمٌ أولى من قول سعيد، فلو(10) قال قائل: إنَّما(11) خُصَّ به رسول الله صلعم، ألا ترى قول عائشة: أيُّكم(12) كان أملك لإربه من رسول الله(13). قيل: إنَّ قولها هذا إنَّما هو على أنَّها لا تأمن عليهم، ولا يأمنون على أنفسهم ما كان رسول الله صلعم يأمن(14) على نفسه، لأنَّه محفوظٌ(15).
          والدَّليل على أنَّ القبلة عندها لا تفطر الصَّائم ما قد روِّيناه(16) عنها أنَّها قالت: ربَّما قبَّلني رسول الله صلعم وباشرني(17) وهو صائم، وأمَّا أنتم فلا بأس(18) للشَّيخ الكبير الضَّعيف، رواه عَمْرو بن حريث(19) عن الشَّعبيِّ(20) عن مسروق عنها، أرادت به أنَّه لا يخاف من إربه، فدلَّ ذلك(21) أنَّ من لم يخف من القبلة شيئًا وأمن على نفسه أنَّها له مباحة، وقالت مرَّة أخرى حين سُئلت عن القبلة للصَّائم، فقالت جوابًا لذلك: (كَانَ رَسُولُ اللهِ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ)، فلو كان حكم رسول الله صلعم عندها في ذلك بخلاف(22) حكم غيره من النَّاس، لما كان ما علمته من فعل رسول الله صلعم جوابًا لما سُئلت عنه من فعل غيره.
          ويبيِّن ذلك ما رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أنَّ رجلًا قبَّل امرأته وهو صائمٌ، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صلعم فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أمُّ سلمة أنَّ رسول الله صلعم كان يقبِّل وهو صائمٌ، فرجعت فأخبرت ذلك زوجها، فزاده شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلعم، يحلُّ الله لرسوله ما شاء، ثمَّ رجعت المرأة إلى أمِّ سلمة فوجدت رسول الله صلعم فأخبرته، فغضب رسول الله صلعم، وقال: ((وَاللهِ(23) إِنِّي لَأَتقَاكُم للهِ، وَأَعلَمُكُم بِحُدُودِهِ)). فدلَّ هذا على(24) استواء حكم رسول الله صلعم وسائر النَّاس في حكم القبلة إذا لم يكن معها الخوف على ما بعدها ممَّا تدعو إليه، ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وقال: لا أراها تدعو إلى خير، يريد إذا لم يأمن على نفسه، ليس لأنَّها حرامٌ عليه، ولكن لا يأمن إذا فعلها أن تغلبه شهوته حتَّى يقع(25) فيما يحرم عليه، فإذا ارتفع هذا المعنى كانت مباحةً.
          وقال أبو حنيفة والثَّوريُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ: إنَّ من قبَّل فأمذى فلا قضاء عليه(26)، وإن(27) نظر فأمنى لم ينقض صومه، وإن قبَّل أو لمس فأمنى أفطر ولا كفَّارة عليه، لأنَّ الكفَّارة عندهم لا تجب إلَّا على من أولج فأنزل(28)، وقال مالك: إن قبَّل فأنزل فعليه القضاء والكفَّارة، وكذلك إن نظر فتابع النَّظر، لأنَّ الإنزال هو المبتغى من الجماع، وسواء أكان بإيلاج أو غيره، قال: فإن قبَّل فأمذى أو نظر فأمذى فعليه القضاء، ولا كفَّارة عليه ولا قضاء في ذلك عند الكوفيِّين(29) والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ على ما تقدَّم في الباب قبل هذا. [خ¦1927]


[1] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[2] في (م): ((وفيه)).
[3] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[4] في (م): ((يقضي)).
[5] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[6] في (م): ((وقال)).
[7] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[8] في (م): ((وأباحتها للشيخ فرقة)).
[9] في (م): ((على الشاب)).
[10] في (م): ((فإن)).
[11] زاد في (م): ((إن ذلك كان مما)).
[12] في (ص): ((وأيكم)).
[13] قوله: ((ألا ترى قول عائشة: ((أيكم كان أملك لإربه من رسول الله)) ليس في (م).
[14] في (م): ((يأمنه)).
[15] في (م): ((لأنه كان محفوظًا)).
[16] في (م): ((روينا)).
[17] في (م): ((ويباشرني)).
[18] زاد في (م): ((به)).
[19] كذا في النسخ، والصواب: حريث بن عمرو الفزاري.
[20] قوله: ((عن مسروق)) ليس في (م).
[21] زاد في (م): ((على)).
[22] في (م): ((خلاف)).
[23] قوله: ((والله)) ليس في (م).
[24] في (ز): ((هذا المعنى)) والمثبت من (م) وفي (ص) كالمثبت في المتن.
[25] في (م): ((شهوته فيقع)).
[26] قوله: ((إنَّ من قبل فأمذى فلا قضاء عليه)) ليس في (م).
[27] في (م): ((إن)).
[28] في (م): ((عليه وقد تقدم أن الكفارة لا تجب عندهم إلا بالإيلاج)).
[29] في (م): ((وقال مالك: إن قبل فأنزل أو نظر وتابع النظر، فأنزل فعليه القضاء والكفارة، وإن نظر فأمذى، أو قبل فأمذى فعليه القضاء وحده، ولا قضاء في ذلك عند الكوفيين)).