شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه

          ░51▒ بابُ: مَنْ أَقْسَمَ على أَخِيهِ لِيُفْطِرَ في التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ(1) لَهُ.
          فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ(2): (آخَى النَّبيُّ ◙ بَيْنَ سَلْمَانَ وأبي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ(3) في الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ(4): نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، قَالَ(5) سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًَّا، وَلأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبيَّ صلعم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: صَدَقَ سَلْمَانُ). [خ¦1968]
          اختلف العلماء فيمن دخل في صلاةٍ أو صيام تطوُّعٍ فقطعه عامدًا، فرُوي عن عليِّ بن أبي طالب وابن عبَّاسٍ وجابر بن عبد الله أنَّه لا قضاء عليه، وبه قال الثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق، واحتجُّوا بحديث أبي جحيفة وقالوا: ألا ترى سلمان لمَّا أمر(6) بالفطر جوَّزه(7) النَّبيُّ ◙ وجعله أفقه منه، واحتجَّ ابن عبَّاسٍ لذلك فقال(8): مثل ذلك كمثل رجل طاف سبعًا ثمَّ قطعه فلم يوفِّه فله ما احتسب، أو صلَّى ركعة ثمَّ انصرف ولم يصلِّ أخرى فله ما احتسب، أو ذهب بمالٍ يتصدَّق به فرجع ولم يتصدَّق، أو تصدَّق ببعضه وأمسك بعضًا. فكره(9) ابن عمر ذلك وقال: المفطر متعمِّدًا في صوم التَّطوُّع ذلك اللَّاعب بدينه، وكره النَّخَعِيُّ والحسن البصريُّ ومكحولٌ الفطر في التَّطوُّع، وقالوا: يقضيه، وذكر ابن القصَّار عن مالك أنَّه من أفطر في التَّطوُّع لغير عذرٍ فعليه القضاء، وإن أفطره لعذرٍ فلا قضاء عليه، وقال(10) أبو حنيفة وأصحابه: عليه القضاء وإن أفطر لعذرٍ.
          واحتجَّ مالك لمذهبه بما رواه في «الموطَّأ» عن ابن شهاب أنَّ عائشة وحفصة زوجيِّ النَّبيِّ صلعم أصبحتا صائمتين متطوِّعتين، فأُهدي لهما طعام فأفطرتا عليه، فدخل عليهما رسول الله صلعم فأخبرتاه بذلك فقال رسول الله صلعم: ((اِقضِيَا مَكَانَهُ يَومًا آخَرَ)). فكان معنى هذا الحديث(11) عند مالكٍ أنَّهما أفطرتا بغير عذرٍ فلذلك أمرهما بالقضاء، ومن حجَّته أيضًا قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]، ومن أفطر متعمِّدًا بعد دخوله في الصَّوم فقد أبطل عمله، وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ(12)}[البقرة:196]، وأجمع المسلمون أنَّ المفسد لحجِّة التَّطوُّع وعمرته أنَّ عليه القضاء، فالقياس على هذا الإجماع يوجب القضاء على مفسد صومه عامدًا، فإن قيل: فقد رُوي عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((اِقضِيَا إِنْ شِئتُما يَومًا مَكَانَهُ)) قيل: لا يصحُّ، ولو صحَّ لكان معناه أنَّهما أفطرتا لعذرٍ، فقال لهما: ((اِقضِيَا إِنْ شِئتُما)). وأفطرتا في حال أخرى لغير عذرٍ، فأمرهما بالقضاء حتَّى لا تتنافى الأحاديث، عن ابن القصَّار.
          ومن حجَّة أبي حنيفة ظاهر(13) حديث مالك أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لعائشة وحفصة(14): ((اِقضِيَا يَومًا مَكَانَهُ))، ولم يشترط(15) ذلك لعذرٍ ولا غيره، فدلَّ أنَّه موجبٌ للقضاء في جميع الأحوال.
          قال الطَّحاويُّ: والنَّظر في ذلك أنَّا رأينا أشياء تجب على العباد بإيجابهم فيها(16) على أنفسهم، منها الصَّلاة والصَّدقة والحجُّ والعمرة والصِّيام، فكان مَن أوجب شيئًا مِن ذلك على نفسه فقال: لله عليَّ كذا، وجب الوفاء عليه(17) بذلك، وكان مَن دخل في حجٍّ أو عمْرةٍ تطوُّعًا ثمَّ أراد الخروج منهما لم يكن له ذلك، وكان بدخوله فيهما في حكم من قال: لله عليَّ حجٌّ(18) أو عمْرةٌ، فعليه الوفاء بهما(19)، وإن خرج منهما(20) بعذرٍ أو بغير عذرٍ فعليه قضاؤهما، والصَّلاة(21) والصِّيام في النَّظر كذلك.
          قال المُهَلَّب: وفي حديث أبي جُحَيْفَةَ حُجَّةٌ لمالك أنَّ من أفطر لعذرٍ أنَّه لا قضاء عليه، لأنَّ فطر أبي الدَّرداء إنَّما كان لوجه من أوجه الاجتهاد في السُّنَّة وسلوك السَّبيل الوسطى، ولم يكن إفطاره منتهكًا ولا متهاونًا فيجب عليه القضاء، وإنَّما يجب القضاء على من أفطر متهاونًا بحرمة الصِّيام لغير عذرٍ ولا وجه من أوجه الصَّواب.
          ألا ترى أنَّ ابن عمر لم يجد ما يصفه به إلَّا أن قال: ذلك المتلاعب بدينه، فإذا لم يكن متلاعبًا وكان لإفطاره وجه لم يكن عليه قضاؤه(22)، وفيه النَّهي عن التَّعمق والغلوِّ في العبادة.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ على من احتجَّ عليه بالإجماع في حجِّ(23) التَّطوُّع والعمرة أنَّه ليس لأحدٍ الخروج منهما، ومن خرج منهما قضاهما، فإنَّ الصِّيام قياسٌ على ذلك، فقال: الفرق بين ذلك أنَّ من أفسد صلاته أو صيامه أو طوافه كان عاصيًا لو تمادى في ذلك فاسدًا، وهو في الحجِّ مأمورٌ بالتَّمادي فيه فاسدًا، ولا يجوز له الخروج منه حتَّى يتمَّه على فساده، ثمَّ يقضيه، وليس كذلك الصَّوم والصَّلاة.


[1] صورتها في (ز): ((أرفق)).
[2] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[3] زاد في (ز): ((في النساء)).
[4] في (م): ((قال)).
[5] في (م): ((فقال)).
[6] في (م): ((أمره)).
[7] في (م): ((وجوزه)).
[8] في (م): ((وقال)).
[9] في (م): ((وكره)).
[10] في (ز): ((قال)) والمثبت من (م).
[11] قوله: ((الحديث)) ليس في (م).
[12] زاد في (م) قوله: ((لله)).
[13] في (م): ((ظاهره)).
[14] في (م): ((لحفصة وعائشة)).
[15] في (م) صورتها: ((يشرط)).
[16] في (م): ((لها)).
[17] في (م): ((وجب عليه الوفاء)).
[18] في (م): ((حجة)).
[19] في (م): ((بها)).
[20] في (م): ((منها)).
[21] في (م): ((فالصلاة)).
[22] في (م): ((قضاء)).
[23] في (ز): ((الحج)) والمثبت من (م).