شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصوم في السفر والإفطار

          ░33▒ بابُ: الصَّوْمِ في السَّفَرِ وَالإفْطَارِ.
          فيه: ابْنُ أبي أَوْفَى: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم في سَفَرٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، فَقَالَ(1): يَا رَسُولَ اللهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي(2)، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ، ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَاهُنَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ). [خ¦1941]
          وفيه: حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أصومُ في السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)(3). [خ¦1942]
          قال ابن المنذر: في هذا الحديث من الفقه تخيير الصَّائم في الصِّيام في السَّفر أو الفطر(4)، وفيه دليل أنَّ أمره تعالى للمسافر بعدَّةٍ من أيَّامٍ أُخر إنَّما هو لمن أفطر، لا أنَّ عليه أن يصوم(5) ويقضي، وممَّن روى(6) تخيير المسافر في الصِّيام ابنُ عبَّاسٍ، وذكر أنسٌ وأبو سعيدٍ ذلك عن أصحاب الرَّسول ◙(7)، وبه قال سعيد بن المسيِّب وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والنَّخعيُّ(8) ومجاهد والأوزاعيُّ واللَّيث.
          واختلفوا في الأفضل من ذلك لمن قدر عليه، فرُوي عن عثمان(9) بن أبي العاص(10) وأنس بن مالك صاحبي النَّبيِّ(11) صلعم أنَّ الصَّوم أفضل، وهو قول النَّخَعِيِّ وسعيد بن جبير والأسود بن يزيد، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ: الصَّوم أحبُّ إلينا، ورُوي عن ابن عمر وابن عبَّاس وسعيد بن جبير(12) والشَّعبيِّ أنَّ الفطر أفضل، لأنَّه رخصةٌ وصدقةٌ تصدَّق الله بها فيجب قبولها، وهو قول الأوزاعيِّ وأحمد وإسحاق، ورُوي عن عُمَر بن الخطَّاب وأبي هريرة وابن عمر وابن عبَّاس إن صام في السَّفر لم يجزئه(13)، وعليه أن يصوم في الحضر، وعن عبد الرَّحمن بن عوف قال: الصَّائم في السَّفر كالمفطر في الحضر، وذكر(14) هذا كلَّه ابن المنذر، وبهذا قال أهل الظَّاهر، وقد صحَّ التَّخيير في الصِّيام في السَّفر أو الفطر(15) عن النَّبيِّ صلعم من حديث حمزة بن عَمْرو، وحديث أنس وابن عبَّاسٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ، وأنَّ النَّبيَّ صلعم وأصحابه صاموا مرَّةً(16) وأفطروا أخرى، فلم يعب بعضهم(17) على بعضٍ، فلا يُلتفت إلى من خالف ذلك، لأنَّ الحجَّة في السُّنَّة.
          وقوله: (يَا رَسُولَ الله، الشَّمْسُ) إنَّما أراد أنَّ نور الشَّمس باقٍ، وظنَّ أنَّ ذلك يمنعه من الإفطار، فأجابه النَّبيُّ صلعم أنَّ ذلك لا يضرَّ إذا أقبل اللَّيل، وسيأتي الكلام في حديث ابن أبي أوفى في باب متى يحلُّ فطر الصَّائم(18).
          قوله(19): (اِجْدَحْ لي)، قال أبو عبيد: الجدح(20): الشَّراب المخوض بالمِجدَح، وقال صاحب «العين»: المجدح: خشبةٌ في رأسها خشبتان معترضتان.


[1] في (م): ((قال)).
[2] قوله: ((قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي)) ليس في (م). وبدله في (م): ((قالاها ثلاثًا)).
[3] في (م): ((يا رسول الله إني أسرد الصوم، الصوم في السفر قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)).
[4] في (ص): ((والفطر)).
[5] في (م): ((أن يفطر)).
[6] في (م): ((وممن وري عنه))، وفي (ص): ((وممن روى عنه)).
[7] في (م): ((النبي ◙)).
[8] في (م): ((وعطاء والحسن والنخعي وسعيد بن جبير)).
[9] في (ز) و(ص): ((عمرو)) والمثبت من (م).
[10] في (م): ((العاصي)).
[11] في (م): ((رسول الله)).
[12] في (م): ((المسيب)).
[13] في (م): ((لم يجزه)).
[14] في (م): ((ذكر)).
[15] في (ص): ((والفطر)).
[16] زاد في (م): ((في السفر)).
[17] زاد في (م): ((ذلك)).
[18] زاد في (م): ((إن شاء الله)).
[19] في (م): ((وقوله)).
[20] في (م): ((المجدح)).