شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {وعلى الذين يطيقونه فدية}

          ░39▒ باب: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}.[البقرة:184]
          وقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ(1): نَسَخَتْهَا {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى(2) {تَشْكُرُونَ}[البقرة:185]. وَقَالَ ابْنُ أبي لَيْلَى: (حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ في ذَلِكَ، فَنَسَخَتْهَا: {وَأَنْ تَصُومُوا(3) خَيْرٌ لَكُمْ}[البقرة:184]، فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ).
          فيه: ابْنُ / عُمَرَ قَرَأَ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مسكِينَ(4)}[البقرة:184]، قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. [خ¦1949]
          اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فرُوي عن ابن عبَّاسٍ وعكرمة وسعيد بن جبيرٍ ومجاهدٌ أنَّهم قرأوها: ▬وَعلى الَّذِينَ يُطوَّقُونَهُ(5)↨، قال: الَّذين(6) يُحمَّلونه ولا يطيقونه فدية، فعلى(7) هذا تكون الآية محكمةٌ غير منسوخةٍ، يعني في الشَّيخ والحامل والمرضع، قال أبو عبيد: وهو قول حسن(8)، ولكنَّ النَّاس ليسوا عليه، لأنَّ الَّذي ثبت بين اللَّوحين في مصاحف أهل الحجاز والشَّام والعراق(9): {وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}، ولا تكون الآية على هذا اللَّفظ إلَّا منسوخة، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ وسلمة بن الأكوع وابن عمر وابن أبي ليلى وعلقمة وابن شهاب، فتفرَّق النَّاس في ناسخ هذه الآية ومنسوخها على أربع منازل، لكلِّ واحدة منهنَّ حكم سوى(10) حكم الأخرى:
          فالفرقة الأولى منهم: وهم الأصحَّاء ففرضهم الصِّيام لا(11) يجزئهم غيره، لزمهم ذلك بالآية المحكمة، وهي قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]. والثَّانية: هم مخيَّرون بين الإفطار والصِّيام، ثمَّ عليهم القضاء بعد ذلك ولا إطعام عليهم، وهم المسافرون والمرضى بقوله(12): {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184]. والثَّالثة: هم الَّذين لهم الرُّخصة في الإطعام ولا قضاء عليهم، وهم الشُّيوخ الَّذين لا يطيقون(13) الصِّيام. والرَّابعة: هم الَّذين اختلف العلماء فيهم بين القضاء والإطعام.
          وبكلِّ(14) ذلك قد جاء(15) تأويل القرآن، وأفتت به الفقهاء، فذهب القاسم وسالم وربيعة ومكحول(16) ومالك وأبو ثورٍ إلى أنَّ الشَّيخ إن استطاع الصَّوم صام، وإلَّا فليس عليه شيء لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286]إلَّا أنَّ مالكًا يستحبُّ له الإطعام عن كلِّ يوم مدًّا، وحجَّة هذا القول أنَّ الله تعالى إنَّما أوجب الفدية قبل النَّسخ على المطيقين دون غيرهم، وخيَّرهم فيه بين أن يصوموا بقوله: {وَ على الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} ثمَّ نسخ ذلك وألزمهم الصَّوم حتمًا، وسكت عمَّن لا يطيق فلم يذكره في الآية، فصار فرض الصِّيام زائلًا(17) عنهم كما زال فرض الزَّكاة والحجِّ عن المعدمين الَّذين لا يجدون إليها سبيلًا.
          وأبى ذلك أهل العراق والثَّوريُّ، وأوجبوا الفدية على الشَّيخ، وقالوا: إنَّ الزَّكاة والحجَّ لا يشبهان الصِّيام، لأنَّ الكتاب والسُّنَّة فرَّق بينهما، وذلك أنَّ الله تعالى جعل من الصَّوم بدلًا أوجبه على كلِّ من حيل بينه وبين الصِّيام وهو الفدية، كما جعل التَّيمُّم بدلًا من الطَّهور واجبًا على كلِّ(18) من أعوزه(19) الماء، وكما جعل الإيماء بدلًا من الرُّكوع والسُّجود لمن لا يقدر عليهما، ولم يجعل من الزَّكاة والحجِّ بدلًا لمن لا يقدر عليهما، وإلى هذا ذهب الكوفيُّون والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ.
          وأمَّا الفرقة الرَّابعة: فالحوامل والمراضع، وفيهنَّ اختلف النَّاس قديمًا وحديثًا، فقال بعض العلماء: إذا ضعفن عن الصِّيام وخافت على نفسها وولدها أفطرت وأطعمت عن كلِّ يومٍ مسكينًا، ـ فإذا فطمت ولدها قضته، وهو قول مجاهدٍ، وبه قال الشَّافعيُّ وأحمد، وقال آخرون: عليهما الإطعام ولا قضاء، وهو قول ابن عبَّاسٍ وابن عمر وسعيد بن جبير، وقال آخرون: عليهما القضاء ولا إطعام عليهما، وجعلوهما(20) بمنزلة المريض، وهو قول عطاء والنَّخعيِّ والحسن والزُّهريِّ وربيعة والأوزاعيِّ وأبي حنيفة والثوريِّ، وروى ابن عبد الحكم عن مالك مثله، ذكره ابن القصَّار، وهو قول أشهب، وفرقة رابعةٌ فرَّقت بين الحبلى والمرضع، فقال(21) في الحبلى: هي بمنزلة المريض تفطر وتقضي ولا إطعام(22) عليها، والمرضع تفطر وتطعم وتقضي، هذا قول مالك في «المدوَّنة»، وهو قول اللَّيث.
          قال أبو عبيد: وكلُّ هؤلاء إنَّما تأوَّلوا(23) قوله تعالى: {وَ على الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فمَن أوجب القضاء والإطعام معًا ذهب إلى أنَّ الله حكم في تارك الصَّوم مِن عُذرٍ بحكمين، فجعل الفدية في آيةٍ والقضاء في أخرى، فلمَّا لم يجد ذكر الحامل والمرضع مسمَّى في واحدةٍ منهما جمعهما جميعًا عليهما(24) احتياطًا لهما(25) وأخذا بالثقة(26)، وأمَّا الَّذين رأوا(27) أن يطعما ولا يقضيا فإنَّهم أرادوا أنَّهما ليستا(28) من السَّفْر ولا من المرضى(29) الَّذين فرضهم القضاء، ولكنَّهما ممَّن كلَّف الصِّيام وطُوِّقه وليس بمطيقٍ، فهم من أهل الفدية لا يلزمهم سواها لقوله تعالى: {وَ على الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينٍ}[البقرة:184]، وهي قراءة ابن عبَّاسٍ وفتياه، وقد يجوز هذا القول على قراءة من قرأ: {وَعلى الَّذِينَ(30) يُطِيقُونَهُ} أي يطيقونه بجهدٍ ومشقَّة، ويكون معنى القراءتين واحدًا. قاله غير أبي عبيدٍ.
          وأمَّا الَّذين أوجبوا عليهما القضاء بلا طعامٍ ذهبوا(31) إلى أنَّ الحمل والرَّضاع علَّتان من العلل، لأنَّه يُخاف فيهما من التَّلف على الأنفس ما يُخاف من المرض، قال أبو عبيد: وقد وجدنا شاهدًا لهذا القول ودليلًا عليه، حدَّثنا إسماعيل / بن إبراهيم، حدَّثنا أيُّوب، قال: حدَّثني أبو قِلابة، عن أنس بن مالك قال: أتيت النَّبيَّ(32) صلعم في إبلٍ لجارٍ لي أُخذت، فوافقته يأكل فدعاني إلى طعامه فقلت: إنِّي صائمٌ، قال(33): ((اُدنُ أُخبِركَ عَنْ ذَلِكَ(34)، إِنَّ اللهَ(35) وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّومَ وَشَطَرَ الصَّلَاةَ، وَعَنِ الحَامِلِ وَالمُرضِعِ))، قال أبو عبيد: فقَرَنَ رسول الله صلعم الحامل(36) والمرضع بالمسافر(37)، وجعلهما معًا في معنى واحدٍ، فصار حكمهما كحكمه، فهل على المسافر(38) إلَّا القضاء لا يعدوه إلى غيره.


[1] قوله: ((ابن الأكوع)) ليس في (م).
[2] زاد في (م): ((قوله)).
[3] زاد في (م): ((فهو)).
[4] في (م): ((مساكين)).
[5] في (م): ((يطيقونه)).
[6] قوله: ((الذين)) ليس في (م).
[7] في (م): ((وعلى)).
[8] في (ز) و(ص): ((الحسن)) والمثبت من (م).
[9] في (م): ((والعراق والشام)).
[10] صورتها في (ز): ((يسوي)).
[11] في (م): ((ولا)).
[12] في (م): ((لقوله ╡)).
[13] في (م): ((لا يستطيعون)).
[14] في (م): ((وكل)).
[15] زاد في (م): ((به)).
[16] في (م): ((ومكحول وربيعة)).
[17] صورتها في (ز) و(ص): ((لازمًا)).
[18] قوله: ((كل)) ليس في (م).
[19] في (ص): ((أعوز)).
[20] في (م): ((جعلوهما)).
[21] في (ص): ((فقالت)).
[22] في (ز) و(ص): ((إعادة)) والمثبت من (م).
[23] في (م): ((تأول)).
[24] في (م): ((عليها)).
[25] في (م): ((لها)).
[26] في (م): ((بالسعة)).
[27] زاد في (م): ((عليهما)).
[28] في (م) صورتها: ((ليسا)).
[29] قوله: ((المرضى)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[30] قوله: ((وعلى الذين)) ليس في (م).
[31] في (م): ((إطعام فذهبوا)).
[32] في (م): ((رسول الله)).
[33] في (م): ((فقال)).
[34] في (م): ((ذاك)).
[35] زاد في (م): ((قد)).
[36] في (ز): ((فقرن الله الحامل)) والمثبت من (م).
[37] صورتها في (ز): ((وبالمسافر)).
[38] زاد في (م): ((إذا أفطر)).