شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل الصوم

          ░2▒ باب: فَضْلِ الصَّوْمِ.
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: (قَالَ النَّبيُّ صلعم: الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ، فإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، مَرَّتَيْنِ، والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا). [خ¦1894]
          قوله: (الصِّيَامُ جنَّة) أي ستر من النَّار، ومنه قيل للتُّرس: مجنٌّ لأنَّ صاحبه يستتر به.
          وقوله: (فَلَا يَرفَث) فالرفث(1) هاهنا الفحش والخَنا، والجهل ما لا يصلح(2) من القول والفعل، قال الشَّاعر:
ألا لا يَجهَلن أحدٌ عَلَينـا                     فَنَجهـَلَ فَـوقَ جَهـلِ الجَاهِلِينَا
          والجهل: السَّفه.
          قال المُهَلَّب: واختلف أهل العلم في معنى قوله: (فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ)، فقيل: يقول: إنِّي صائم، للَّذي يشاتمه، ليكفَّ عن شتمه، واستدلَّ بعضهم بقول مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}[مريم:26]، فكان حكم الصِّيام عند مريم وأهل زمانها ألَّا يتكلَّموا فيه، وكان هذا متعارفًا(3) عندهم. وقال ابن جُريج: قلت لعطاء: أبلَغَك أنَّه يؤمر الإنسان إذا دُعي إلى طعام أن يقول: إنِّي صائم؟ قال: سمعنا(4) أبا هريرة يقول: إذا كنت صائمًا، فلا تسابَّ ولا تجهل، فإن جُهل عليك فقل: إنِّي صائم. ورُوي عن ابن مسعود: إذا دُعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إنِّي صائم، وقاله قَتادة والزُّهريُّ.
          وقالت(5) طائفةٌ: معنى قوله: (فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ) أي يذكِّر نفسه بذلك، ولا يجهر(6) به(7) لأنَّه إذا جهر(8) به فقد أظهر نيَّته(9) وربَّما دخل فيه الرِّياء، قال ثابت: ومعنى القول هاهنا العلم(10). قال الشَّاعر:
إذا ما خَلَوتَ الدَّهرَ يومًا فَلا تَقـُل                     خَلَوتُ ولَكِـن قـُل(11) عَلـيَّ رَقِيـبُ
          ومثله قول مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا}[الإنسان:9]قال: أما إنَّهم لم يتكلَّموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم به(12) ليرغب في ذلك راغب، وعلى هذا المعنى يدلُّ قوله في الحديث: ((الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجزِي بِهِ))(13)، فالصِّيام(14) وجميع الأعمال(15) لله، لكن لمَّا كانت الأعمال الظَّاهرة يشرك فيها الشَّيطان بالرِّياء وغيره، وكان الصِّيام لا يطَّلع عليه أحد إلَّا الله، فيثيبه عليه على قدر خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه.
          قال الطَّبريُّ: ألا ترى قوله في الحديث: ((يَدَعُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهوَتَهُ مِنْ أَجلِي(16)))، وكان ابن عيينة يقول في قوله: ((إلَّا الصَّومَ فَإِنَّه لِي))، قال: لأنَّ الصَّوم هو الصَّبر، يصبِّر الإنسان نفسه عن المطعم والمشرب والمنكح، ثمَّ قرأ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر:10]وهذا كلُّه إنَّما يكون فيما خلُص لله من(17) الرِّياء.
          قال عبد الواحد(18): ويدلُّ على ذلك أيضًا قوله ◙ عن الله تعالى أنَّه قال: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشرَكَ فِيهِ غَيرِي فَهُو لَهُ، وأَنَا أَغنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ))، فجعل عمل الرِّياء لغيره، وجعل ما خلُص من الرِّياء له تعالى، وقال آخرون: إنَّما خصَّ الصَّوم بأن يكون هو الَّذي(19) يتولَّى جزاءه لأنَّ الصَّوم لا يظهر من ابن آدم بلسان، ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنَّما هو نيَّة في القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب، فيقول: أنا أتولَّى جزاءه على ما أحبُّ من التَّضعيف، وليس على كتاب كتب، وهذا القول ذكره الدَّاوديُّ(20).
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب عندي القول الأوَّل، وأمَّا معنى(21) قوله: ((وَأَنَا أَجزِي بِهِ)) فأنا المنفرد بجزائه(22) على عمله ذلك لي بما لا يعلم كنه مبلغه غيري، إذ كان غير الصِّيام من أعمال الطَّاعة(23) قد علم غيري بإعلامي إيَّاه أنَّ الحسنة فيه بعشر أمثالها إلى(24) سبعمائة ضعف.
          قال المؤلِّف: وقد روى يحيى(25) بن بكير عن مالك في هذا الحديث بعد(26) قوله: (الحَسَنَةُ بِعَشرِ أَمثَالِها)، فقال:(27) ((كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشرِ أَمثَالِها إِلَى سَبعِمائَةِ ضِعْفٍ إلَّا الصِّيامَ فَهُو لِي وَأَنَا أَجزِي بِهِ(28))). فخصَّ الصِّيام بالتَّضعيف على سبعمائة ضعفٍ في هذا الحديث، وقد نطق التَّنزيل بتضعيف النَّفقة في سبيل الله أيضًا كتضعيف الصِّيام، فقال ╡: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء}[البقرة:261]وجاء في ثواب الصَّبر(29) مثل ذلك وأكثر، فقال(30) تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر:10]فيحتمل _والله أعلم_ أن تكون هاتان الآيتان نزلتا على النَّبيِّ صلعم بعد ما أعلمه الله ثواب الصِّيام لأنَّه لا(31) ينطق عن الهوى، والفضائل إنَّما تُدرك(32) من طريق الوحي.
          وقال عبد الواحد: أمَّا قول من قال: كلُّ عملٍ تكتبه الحفظة إلَّا الصيام فإنَّما هو نيَّة(33) في القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب فلا يكتب(34)، فغير صحيحٍ، لأنَّ الحفظة تعلم الإمساك عن الأكل، وهو حقيقة إذا اطَّلعت على الإمساك عن الأكل في خلوته فقد علمت صيامه، لأنَّه ليس يرائي أحد الحفظة(35)، ولا ينتفع بالرِّياء إلَّا إذا أكل في الباطن، فإذا كفَّ عن الأكل في الباطن وتمادى على ذلك فقد علمت صيامه، وليس أيضًا قول من تأوَّل(36) في قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}[مريم:26]أنَّ مريم كانت صائمة في ذلك الوقت بصواب(37)، بدليل قوله تعالى في الآية: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}[مريم:25-26]، فأخبر أنَّ ذلك كان بعد أكلها وشربها، ويشهد لذلك أنَّها كانت نفساء، والنُّفساء لا تصوم، وإنَّما معنى قولها: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}[مريم:26]، أي إمساكًا(38) عن الكلام، والعرب تقول: صام، إذا أمسك عن الكلام، فإن قيل: كيف(39) نذرتْ أن تمسك عن الكلام وقد قيل لها: {فَقُولِي}؟ قيل: المراد هاهنا: تقول بالإشارة(40) بدليل قوله بعد هذا: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}الآية[مريم:29]، وقال زيد بن أسلم: كانت(41) بنو إسرائيل يصومون من الكلام كما يصومون من الطَّعام ولا(42) يتكلَّمون إلَّا بذكر الله.
          وقوله: (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ) بضمِّ الخاء، هو مصدر خَلَف فمه يَخلُف يعني تغيُّر رائحته(43) في آخر النَّهار، لأنَّ الفم يتغيَّر بترك(44) الطَّعام، قال أبو عبيد: خَلَف اللَّبن وغيره: تغيَّر(45) ريحه وطعمه(46).
          وقوله: (أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) يريد أزكى عند الله وأقرب إليه، لأنَّ الله تعالى لا يوصف بالشَّمَّ.
          قال: عبد الواحد(47): ومعنى قوله: (عِنْدَ اللهِ) يريد في الآخرة، أي يجازيه يوم القيامة بتطييب نكهته الكريهة في الدُّنيا حتَّى تكون كريح المسك، والدَّليل على أنَّه أراد الآخرة بقوله: (عِندَ اللهِ) قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ}[الحج:47]يريد أيَّام الآخرة، ومن هذا الباب قوله ◙ في الشَّهيد: ((أَنَّهُ يَأتِي يَومَ القِيَامَةِ وجُرحُهُ يَثعَبُ دَمًا، اللَّونُ لَونُ الدَّمِ(48) والرِّيحُ رِيحُ المِسكِ(49)))، فأخبر أنَّه يجازي الشَّهيد في الآخرة بأن يجعل رائحة دمه الكريهة في الدُّنيا كريح المسك في الآخرة(50).
          


[1] في (م): ((الرفث)).
[2] في (م): ((يصح)).
[3] في (م): ((تعارفًا)).
[4] في (م): ((سمعت)).
[5] في (م): ((وقال)).
[6] في (م) صورتها: ((ولا يفوه)).
[7] زاد في (م): ((ولا يراجع به من سبه)).
[8] في (م): ((تكلم)).
[9] في (م): ((بليته))، وهي غير واضحة في (ز).
[10] قوله: ((العلم)) زيادة من (م).
[11] قوله: ((قل)) ليس في (م).
[12] في (م): ((فأثنى به عليهم)).
[13] زاد في (م): ((ولا يكون لله خالصًا إلا بانفراده بعلمه دون الناس. وقوله: (الصيام لي وأنا أجزي به).
[14] في (م): ((والصيام)).
[15] زاد في (م): ((كلها)).
[16] في (م): ((وشهوته لي)).
[17] في (م): ((عن)).
[18] قوله: ((قال عبد الواحد)) ليس في (م).
[19] قوله: ((الذي)) ليس في (م).
[20] في (م): ((هذا قول أبي عبيد))، و في حاشية (ز): ((نسخة: أبو عبيد)).
[21] قوله: ((معنى)) زيادة من (م).
[22] في (م): ((من جزائه)).
[23] في (م): ((الطاعات)).
[24] في (م): ((فيها عشر إلى)).
[25] في (م): ((قال المؤلف: ويبين هذا ما رواه يحيى بن يحيى ويحيى)).
[26] في (م): ((من)).
[27] قوله: ((الحسنة بعشر أمثالها فقال)) ليس في (م).
[28] قوله: ((فهو لي وأنا أجزي به)) ليس في (م).
[29] في (ز): ((الصوم)) والمثبت من (م).
[30] في (م): ((وأكثر وهو قوله)).
[31] في (م): ((ما)).
[32] في (م): ((والفضائل لا تعلم إلا)).
[33] في (م): ((قال غيره وأما قول من قال: إن الحفظة لا تكتب الصيام لأنه نية)).
[34] قوله: ((فلا يكتب)) ليس في (م).
[35] العبارة في (م): ((فغير صحيح، لأن الحفظة تعلم الإمساك عن الأكل في خلوته وليس يرائي أحد الحفظة)).
[36] قوله: ((قَالَ: أخبرني بمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ........ فقد علمت صيامه، وليس أيضًا قول من تأوَّل)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[37] في (ز): ((صواب)) والمثبت من (م).
[38] في (م): ((إمساكها)).
[39] في (م): ((فكيف)).
[40] في (م): ((تقولي الإشارة)).
[41] في (م): ((كان)).
[42] في (م): ((من الطعام والشراب لا)).
[43] في (م): ((مصدر خلف فيه يخلف له إذا تغير ريحه)).
[44] في (م): ((لترك)).
[45] في (م): ((تغيره)).
[46] زاد في (م): ((وقال صاحب «العين»: الخالف: اللحم المتغير الريح، قال الخطابي: فأما الخلوف بفتح الخاء، فهو الذي يعد ثم يخلف، قال النمر بن تولب:
~ جـزى الله عنـي جمـرة ابنـة                     نوفل جزاء خلوف بالخلافة كاذب)).
[47] قوله: ((قال عبد الواحد)) ليس في (م).
[48] في (م): ((دم)).
[49] في (م): ((مسك)).
[50] قوله: ((في قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}...... في الدُّنيا كريح المسك في الآخرة)) الكلام غير واضح في (ص).