شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر

          ░30▒ باب: إِذَا جَامَعَ في رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ.
          فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: (جَاءَ إلى(1) النَّبيِّ صلعم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ(2)، هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ على امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لا، قَالَ(3): فَمَكَثَ النَّبيُّ صلعم، فَبَيْنَا نَحْنُ على ذَلِكَ(4)، أُتِيَ النَّبيُّ صلعم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ، قَالَ(5): أَيْنَ السَّائِلُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، قَالَ(6) الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ، فَوَاللهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبيُّ صلعم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ). [خ¦1936]
          وترجم له: باب المُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنَ الكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ، وفيه: أنَّ الرَّجل قال للنَّبيِّ صلعم: إِنَّ الآخَرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ
          اختلف العلماء في الواطئ في رمضان إذا وجب عليه التَّكفير بالإطعام دون غيره ولم يجد ما يطعم، كالرَّجل الَّذي(7) ورد في هذا(8) الحديث، قال ابن شهاب: إباحة النَّبيِّ صلعم لذلك الرَّجل أكل الكفَّارة لعسرته رخصة له وخصوص، وقال: لو(9) أنَّ رجلًا فعل ذلك اليوم لم يكن له بدٌّ من التَّكفير، وزعم الطَّبريُّ أنَّ قياس قول أبي حنيفة والثَّوريِّ وأبي ثورٍ أنَّ الكفَّارة دين عليه لا يسقطها عنه عسرتُه(10) كسائر الكفَّارة(11)، وقال عيسى بن دينار: الكفَّارة على المعسر واجبة، فإذا أيسرَ أدَّاها، وقال الأوزاعيُّ: الكفَّارة ساقطةٌ عن ذمَّته(12)، قيل للأوزاعيِّ: أنسأل في الكفَّارة؟ قال: لا، ردَّ رسول الله صلعم كفَّارة المفطر عليه و على أهله، فليستغفر الله ولا يعد، ولم يرَ عليه شيئًا، وهو قول أحمد بن حنبل.
          وقال الشَّافعيُّ: يحتمل أن تكون الكفَّارة دَينًا عليه متى أطاقها أدَّاها، وإن كان ذلك ليس في الخبر، وهو أحبُّ إلينا وأقرب إلى(13) الاحتياط وله احتمالات أُخر، هذا الوجه الَّذي أستحبُّ، سأوردها في هذا الَّذي بعد هذا، وأردُّ فيه قول من جعل الكفَّارة ساقطة عن المعسر خلاف من ذكرت قوله في هذا الباب، إن شاء الله(14).
          ويحتمل أنَّه لمَّا كان في الوقت الَّذي أصاب فيه أهله ليس ممَّن يقدر على واحدة من الكفَّارات، تطوَّع رسول الله صلعم بأن قال له في شيء أتى به: (كَفِّر). فلمَّا ذكر الحاجة ولم يكن الرَّجل قبضه، قال له: (كُلْهُ وأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ)، وجعل التَّمليك له حينئذ مع القبض، ويحتمل أن يكون لمَّا ملكه وهو محتاج، وكان إنَّما تجب عليه(15) الكفَّارة إذا كان عنده فضل، ولم يكن عنده فضل، قال له: كُله _هو وأهله_ لحاجته. ويحتمل إذا(16) كان لا يقدر على شيء من الكفَّارات، وكان لغيره أن يكفِّر عنه، كان لغيره أن يتصدَّق عليه وعلى بيته(17) بتلك الكفَّارة إذا كانوا محتاجين، وتُجزئ عنه ويحتمل أن تسقط عنه الكفَّارة لعدمه، كما سقطت الكفَّارة(18) عن المغمى عليه إذا كان مغلوبًا.
          قال(19) المُهَلَّب: قوله ◙: (كُلْهُ) دليل على(20) أنَّه إذا وجب(21) على معسر كفَّارة إطعام(22)، وكان محتاجًا(23) إلى إبقاء رمق نفسه وأهله أن يؤثرها بذلك الإطعام، ويكون ذلك مجزئًا عنه على قول من رأى سقوط الكفَّارة عنه بالعسرة، فقال: أمَّا إباحته ◙ للواطئ أكل الكفَّارة فلا يمتنع(24) من بقاء حكم الكفَّارة في ذمَّته لأنَّه لمَّا أخبر عن حاجته أباح له الانتفاع بما أعطاه، ولم يتعرَّض لحكم ما في ذمَّته، فبقي ذلك بحاله.
          وقال(25) غيره: فإن احتجَّ محتجٌّ في سقوط الكفَّارة بقوله ◙: (أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ). ولم يقل له: وتؤدِّيها إذا أيسرتَ، لأنَّها لو كانت واجبةٌ لم يسكت حتَّى يبين ذلك، قيل له: ولا قال له رسول الله صلعم: إنَّها ساقطة عنك لعسرك بعد أن كان أخبره بوجوبها عليه وكلُّ ما وجب عليه(26) أداؤه في اليسار لزم الذِّمَّة إلى الميسرة.
          قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ الصَّدقة على أهل الفقير / واجبة بهذا الحديث(27) واحتجَّ بهذا الحديث من جعل كفَّارة المفطر في رمضان مرتَّبة على ما جاء في هذا(28) الحديث: أوَّلها بالعتق(29)، فإن لم يجد صام(30)، فإن لم يقدر أطعم، هذا قول أبي حنيفة وأصحابه والثَّوريِّ والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأحمد وأبي ثورٍ، وفي «المدوَّنة» قال ابن القاسم: لا يعرف مالك في الكفَّارة إلَّا الإطعام، لا عتقًا ولا صومًا، وقال في كتاب الظِّهار: ما للعتق وماله! قال تعالى(31): {وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ(32)}[البقرة:184].(33) وأَمَر المحترق بالصَّدقة، ورُوي عنه(34) أنَّه مخيَّر بين العتق أو الصِّيام أو الإطعام، ذكره ابن القصَّار، والحجَّة له حديثه عن الزُّهريِّ، عن حميد، عن أبي هريرة ((أنَّ رَجلًا أَفطَرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَمرَهُ النَّبيُّ أَنْ يُعتِقَ أو يَصُومَ أو يُطعِمَ))، و«أو» موضعها في كلام العرب للتَّخيير(35)، ولا توجب التَّرتيب، ويجوز أن يكون أبو هريرة قد حفظ الفتيا من الرَّسول(36) صلعم في مرَّتين فرواه مرَّة على التَّخيير، ومرَّة على التَّرتيب، ليعلِّمنا الجواز في التَّخيير أو النَّدب إلى تقديم العتق، ولا يكون أحدهما ناسخًا للآخر.
          وقال الطَّحاويُّ: إنَّما أمر النَّبيُّ(37) ◙ بكلِّ صنفٍ من أصناف الكفَّارة الثلاثة لما لم يكن واجدًا للصِّنف الذي ذُكر له قبله على ما ثبت في حديث هذا الباب، وقال بعض العراقيِّين: القصَّة واحدةٌ، والرَّاوي واحد وهو الزُّهريُّ، وقد نقل التَّخيير والتَّرتيب(38)، ولا يجوز أن يكون خيَّره ورتَّبه، فلا بدَّ من المصير إلى أحد الرِّوايتين، فالمصير إلى التَّرتيب أولى من وجوه: أحدها: كثرة ناقليها، والثَّاني(39): من نقل التَّرتيب فإنَّما نقل لفظه ◙، ومن نقل التَّخيير فإنَّما نقل لفظًا لراوٍ(40) وإن كانا في الحجَّة سواء، وإذا تعارضا كان المصير إلى من نقل لفظه ◙ أولى(41). والثالث: أنَّ من نقل التَّرتيب نقل الخبر مفسَّرًا، لأنَّه قال له: ((أَعتِق، قَالَ: لَا أَجِدُ، قَالَ: فَصُم)) ومن نقل التَّخيير لم يذكر أنَّه أمره بالصِّيام والإطعام بعد أن ذكر الأعرابيُّ عجزه، وهذه زيادةٌ. الرَّابع(42): أنَّ فيه احتياطًا، لأنَّها إن كانت على التَّخيير أجزأه إذا رتَّب، فإن(43) كانت على التَّرتيب لم يجزئه(44) ما دونه.
          واختلفوا في المرأة إذا وطئها طائعة في رمضان، فقال مالك: عليها مثل ما على الرَّجل من الكفَّارة، وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور، وقال الشَّافعيُّ: تجزئ الكفَّارة الَّتي كفَّرها الرَّجل عنهما، وفيها(45) قول ثالث(46): أنَّ الكفَّارة الواحدة(47) تجزئهما إلَّا الصِّيام، فإنَّه(48) عليهما، يصوم كلُّ واحد(49) شهرين متتابعين، وإن أكرهها(50) فالصَّوم عليه وحده.
          واختلفوا إذا وطئها مكرهةً، فقال مالك: عليه كفَّارتان عنه وعنها، وكذلك إن وطئ أمَته كفَّر كفَّارتين، وقال أبو حنيفة: عليه كفَّارة واحدة ولا شيء عليها(51)، وقال الشَّافعيُّ: ليس عليها كفَّارة سواء طاوعته أو أكرهها(52)، واحتجَّ بأنَّ النَّبيَّ إنَّما أجاب السَّائل بكفَّارة واحدةٍ ولم يسأله هل طاوعته(53) أم أكرهها، ولو اختلف الحكم لم يترك النَّبيُّ ◙ تبيين ذلك، وحجَّة من أوجب عليها الكفَّارة إن طاوعته القياس على قضاء ذلك اليوم، فلمَّا وجب عليها قضاء ذلك اليوم(54)، وجب عليها الكفَّارة عنه، وأمَّا وجوب الكفَّارة عليه عنها إذا أكرهها، فلأنَّه(55) سبب إفساد صومها بتعدِّيه الَّذي أوجب الكفَّارة عليه عن نفسه، فوجب أن يكفِّر عنها، وهذا مبنيٌّ على أصولهم إذا أكرهها، وأفسد(56) حجَّها بالوطء، فعليه أن يحجَّها من ماله ويُهدي عنها، وكذلك إذا حلق رأس محرم نائم فإنَّه ينسك عنه، لأنَّه أدخل ذلك عليه بتعدِّيه من غير اختيار من المفعول به ذلك، ولا يلزم على هذا النَّاسي والحائض والمريض وغيرهم من المعذورين إذا أفطروا، لأنَّ السَّبب أتاهم من قبل الله تعالى، وفي مسألتنا الفطر أتى من قبل الواطئ، والكفَّارة تتعلَّق بالذِّمَّة، لأنَّ ماله لو تلف لم تسقط.
          وقوله: (إِنَّ الآخَرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِه) قال ثابت: الآخر على مثال فعل هو الأبعد، فقال بعضهم: الآخر الأبعد، والأخير الغائب(57)، وقال قيس بن عاصم(58): يا بنيَّ، إيَّاكم ومسألة النَّاس، فإنَّها آخر كسب المرء يعني: أرذله وأوسخه.


[1] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[2] قوله: ((يا رسول الله)) ليس في (م).
[3] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[4] في (م): ((نحن كذلك)).
[5] في (م): ((فيه تمر فقال)).
[6] في (م): ((فقال)).
[7] في (م): ((يطعم كالذي)).
[8] في (م): ((فيه)).
[9] في (م): ((قال ولو)).
[10] صورتها في (ز) و(ص): ((غيره)).
[11] في (م): ((الكفارات)).
[12] زاد في (م): ((إذا كان محتاجًا، لأنَّه لما جاز للمكفر أن يطعم أهله الكفارة علم أنها ساقطة عن ذمته)).
[13] في (م): ((من)).
[14] قوله: ((وله احتمالات أُخر، هذا الوجه.... هذا الباب، إن شاء الله)) ليس في (م).
[15] في (م): ((عنده)).
[16] في (م): ((إذ)).
[17] في (م): ((أهله)).
[18] قوله: ((الكفارة)) ليس في (م).
[19] في (م): ((وقال)).
[20] قوله: ((على)) ليس في (م).
[21] في (م): ((وجبت)).
[22] في (م): ((الطعام)).
[23] في (ص): ((محتاج)).
[24] في (م): ((يمنع)).
[25] في (م): ((قال)).
[26] قوله: ((عليه)) ليس في (م).
[27] قوله: ((بهذا الحديث)) ليس في (م).
[28] قوله: ((الحديث)) ليس في (م).
[29] في (م): ((العتق)).
[30] في (م): ((فصيام)).
[31] في (م): ((قال الله تعالى)).
[32] في (م): ((مساكين)).
[33] زاد في (م): ((قال المؤلف)).
[34] في (م): ((عن مالك)).
[35] في (م): ((التخيير)).
[36] في (م): ((عن النبي)).
[37] في (م): ((إنما أمره)).
[38] في (م): ((الترتيب والتخيير)).
[39] زاد في (م): ((أن)).
[40] في (م): ((لفظ الراوي)).
[41] زاد في (ز): ((من)) وبعدها كلمة غير واضحة.
[42] في (م): ((والرابع)).
[43] في (م): ((وإن)).
[44] في (م): ((يجزه)).
[45] في (م): ((وفيه)).
[46] زاد في (م): ((وهو)).
[47] قوله: ((الواحدة)) ليس في (م).
[48] في (م): ((فإن الصيام)).
[49] زاد في (م): ((منهما)).
[50] في (م): ((استكرهها)).
[51] في (ز): ((عليه)) والمثبت من (م).
[52] في (م): ((لا شيء عليها وهو قول الشافعي أكرهها أو طاوعته)).
[53] في (م): ((أطاوعته)).
[54] في (م): ((قضاؤه)).
[55] في (م): ((فإنه)).
[56] في (م): ((فأفسد)).
[57] في (م): ((وقال بعضهم الأخير الأبعد والآخر الغائب)).
[58] زاد في (م): ((لبنيه)).