شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صوم شعبان

          ░52▒ باب: صَوْمِ شَعْبَانَ.
          فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ(1): (كَانَ(2) صلعم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، وَمَا(3) رَأَيْتُ النَّبيَّ(4) صلعم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ سِوَى(5) رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ في شَعْبَانَ). وَقَالَتْ عائشةُ أيضًا: (لَمْ يَكُنِ النَّبيُّ صلعم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) الحديث. [خ¦1969]
          قال المُهَلَّب: فيه من الفقه أنَّ أعمال التَّطوُّع ليست منوطة بأوقاتٍ معلومةٍ، وإنَّما هي على قدر الإرادة لها والنَّشاط فيها، وقد رُوي في بعض الحديث أنَّ هذا الصِّيام الَّذي كان يصوم في شعبان كان لأنَّه ◙(6) يلتزم صوم ثلاثة أيَّام من كلِّ شهر كما قال لعبد الله بن عَمْرو، لأنَّ الحسنة بعشر أمثالها، فذلك صيام الدَّهر(7) فكان يلتزم ذلك، فربَّما شُغل عن الصِّيام أشهرًا فيجمع(8) ذلك كلَّه في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض، وفيه وجه آخر، ذكر(9) الطَّحاوي وابن أبي شيبة من حديث يزيد بن هارون، عن صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: سُئل رسول الله أيُّ الصَّوم أفضل؟ قال: ((صَومُ شَعبَانَ تَعظِيمًا لِرَمَضَانَ)).
          وفيه وجه آخر، ذكر(10) الطَّحاويُّ من حديث ابن مهديٍّ، قال: حدَّثنا ثابت بن قيس أبو الغُصن، عن أبي سعيد المقبريِّ عن أسامة(11) قال: كان رسول الله صلعم يصوم يومين من كلِّ جمعة لا يدعهما: يوم(12) الاثنين والخمس، فقال ◙: ((هَذَانِ(13) يَومَانِ تُعرَضُ فِيهِما الأَعمَالُ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))، قال: وما رأيت رسول الله يصوم من شهر ما يصوم من شعبان، فسألته عن ذلك. فقال: ((هُوَ شَهرٌ تُرفَعُ فِيهِ الأَعمَالُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)).
          وقول عائشة في حديث يحيى عن أبي سلمة فإنَّه كان يصوم شعبان كلَّه، فليس على ظاهره وعمومه، والمراد أكثره لا جميعه، وقد جاء ذلك عنها مفسرًا، روى ابن وهب عن أسامة بن زيدٍ، قال: حدَّثني محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة قال: سألت عائشة عن صيام رسول الله فقالت: ((كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفطِرُ، ويُفطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَكَانَ يَصُومُ شَعبَانَ، أَوْ عَامَّةَ شَعبَانَ)).
          وروى عبد الرَّزَّاق عن ابن عيينة، عن ابن أبي لَبِيد، عن أبي سلمة، قال: سألت عائشة عن صيام رسول الله صلعم(14) / فذكرت الحديث، وقالت: ((مَا رَأيتُ رَسُولَ اللهِ صلعم أَكثَرَ صِيَامًا(15) مِنهُ فِي شَعبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ إِلَّا قَلِيلًا)).
          وهذه الآثار تشهد لصحِّتها رواية أبي النَّضر عن أبي سلمة، عن عائشة: ((أَنَّهُ مَا استَكمَلَ صِيَامَ شَهرٍ قَطٌّ إِلَّا رَمَضَانَ))، ومنها(16) حديث ابن عبَّاس الَّذي في الباب بعد هذا، [خ¦1971] فهي أولى من رواية يحيى عن أبي سلمة.
          وقوله: (فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)، فإنَّ الله تعالى لا يجوز عليه الملل ولا هو من صفاته، وإنَّما سمَّى المجازاة باسم الفعل، وهذا هو أعلى(17) طبقات الكلام، وقد تقدَّم بيان هذا بزيادة فيه في كتاب الإيمان في باب أحبُّ الدِّين إلى الله أدومه، [خ¦43] وفي آخر كتاب الصَّلاة في باب ما يكره من التَّشديد في باب(18) العبادة [خ¦1151].


[1] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[2] زاد في (م): ((النبي)).
[3] في (م): ((فما)).
[4] في (م): ((رسول الله)).
[5] في (م): ((إلا)).
[6] زاد في (م): ((كان)).
[7] صورتها في (ز): ((الشهر)).
[8] في (م): ((فجمع)).
[9] في (م): ((آخره ذكره)).
[10] في (م): ((ذكره)).
[11] زاد في (م): ((بن زيد)).
[12] في (م): ((يومي)).
[13] في (م): ((ذان)).
[14] قوله: ((ظاهر الحديث يطعمه الله ويسقيه. والثَّاني: على الاستعارة......سألت عائشة عن صيام رسول الله صلعم)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[15] صورتها في (ز): ((صيام)).
[16] في (م): ((ومثلها)).
[17] في (م): ((على)).
[18] قوله: ((باب)) ليس في (م).