شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصوم كفارة

          ░3▒ باب: الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ.
          فيه: حُذَيْفَةُ: قَالَ عُمَرُ: (مَنْ يَحْفَظُ حَدِيثَ النَّبيِّ صلعم في الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ، قَالَ: لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنِ الَّتي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ(1) الْبَحْرُ) الحديثَ. [خ¦1895]
          الفتنة(2) عند العرب الابتلاء والاختبار، وهي في هذا الحديث شدَّة حبِّ الرَّجل لأهله، وشفقته(3) بهنَّ، كما روى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلعم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله فرفعهما ووضعهما في حجره، ثمَّ قال: ((صَدَقَ اللهُ(4) {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}[التغابن:15]رَأَيتُ هَذَينِ فَلَم أَصبِر، ثمَّ أَخَذ في خُطبَتِهِ)). وسمع عُمَر بن الخطَّاب رجلًا يستعيذ بالله من الفتنة فقال له: أتدعو الله ألَّا يرزقك مالًا وولدًا! فاستعذ(5) بالله من مضلَّات الفتن.
          وقال ابن مسعود: لا يقل أحدكم: اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك من الفتنة، فليس أحدٌ إلَّا وهو مشتملٌ على فتنةٍ، لأنَّ الله يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}[التغابن:15]فأيُّكم استعاذ فليستعذ بالله من(6) مضلِّات الفتن.
          ومن فتنة الأهل أيضًا الإسراف والغلوُّ في النَّفقة عليهنَّ، والشُّغل بأمورهنَّ عن كثير من النَّوافل، وفتنته(7) في ماله أن يشتدَّ سروره به حتَّى يغلب عليه، وهذا مذموم، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ لمَّا نظر إلى عَلَم الخَمِيصَة في الصَّلاة ردَّها إلى أبي جهم وقال: ((كَادَ يَفتِنَنِي)) فتبرَّأ ممَّا خشي منه الفتنة، وكذلك عرَض لأبي طلحة حين كان يصلِّي في حائطه فطار دُبسِيٌّ فأعجبه فأتبعه(8) بصره(9) ثمَّ رجع إلى صلاته فلم يَدْرِ كَمْ صلَّى، فقال: لقد أصابني(10) في مالي هذا فتنة، فجاء إلى النَّبيِّ صلعم فذكر ذلك له فقال: هو صدقةٌ يا رسول الله فضعه حيث شئت. ومن فتنة المال أيضًا ألَّا يصل منه أقاربه، ويمنع معروفه أجانبه، وفتنته في جاره أن يكون أكثر مالًا منه وحالًا، فيتمنَّى مثل حاله، وهو معنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}[الفرقان:20]فهذه الأنواع وما شابهها ممَّا يكون من الصَّغائر فدونها(11) تكفِّرها أعمال البرِّ، ومصداق ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}[هود:114]قال أهل التَّفسير: الحسنات هاهنا(12) الصَّلوات الخمس، والسِّيِّئات الصَّغائر.


[1] في (م): ((تموج كموج)).
[2] في (م): ((قال الفتنة)).
[3] في (م): ((وشغفه)).
[4] زاد في (م) و(ص): ((ورسوله)).
[5] في (م): ((استعذ)).
[6] في (م): ((استعاذ بالله فليستعذ من)).
[7] في (م): ((وفتنه)).
[8] في (م): ((فأعجبه فجعل يتبعه)).
[9] زاد في (م): ((ساعة)).
[10] قوله: ((أصابتني)) غير واضحة في (ز) و(ص) والمثبت من (م).
[11] في (م): ((فما دونها)).
[12] قوله: ((ها هنا)) ليس في (م).