شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الريان للصائمين

          ░4▒ باب: الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ.
          فيه: سَهْلٌ قال: (قَالَ(1) النَّبيُّ صلعم: إِنَّ في الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، / لا يَدْخُلُ أَحَدٌ(2) منه غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لا يَدْخُلُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ(3)، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ(4)). [خ¦1896]
          وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: (قَالَ(5) النَّبيُّ صلعم: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ نوديَ(6) مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، قَالَ(7) أَبُو بَكْرٍ: بأبي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ(8)، مَا على مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ)، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ). [خ¦1897]
          قال المُهَلَّب: إنَّما أفرد الصَّائمين بهذا الباب ليسارعوا إلى الرِّيِّ من عطش الصَّيام في الدُّنيا إكرامًا لهم واختصاصًا، وليكن(9) دخولهم في(10) الجنَّة هينًا غير متزاحم عليهم عند أبوابها، كما خصَّ النَّبيُّ صلعم أبا بكر الصِّدِّيق ببابٍ في المسجد يقرب منه خروجه إلى الصَّلاة ولا يزاحمه أحدٌ، وأغلق سائرها إكرامًا له وتفضيلًا.
          ومعنى قوله: (زَوْجَيْن) أي شيئين كدينارين أو ثوبين وشبه ذلك، والحجَّة لذلك ما رواه حمَّاد بن أبي سلمة(11) عن يونس بن عبيد وحميد عن الحسن عن صعصعة بن معاوية عن أبي ذرٍّ أنَّ النَّبيُّ صلعم قال: ((مَنْ أَنفَقَ زَوجِينِ مِنْ مَالِهِ ابتَدَرَتهُ حَجَبَةُ الجَنَّةِ))، ثمَّ قال: ((بَعِيرَينِ شَاتَينِ حِمارَينِ دِرهَمَينِ))، قال حمَّاد: أحسبه قال: ((خُفَّينِ)).
          وروى عن صعصعة، قال(12): رأيت(13) أبا ذرٍّ بالرَّبَذَة وهو يسوق بعيرًا له عليه مزادتان، قال: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((مَا مِنْ مُسلِمٍ يُنفِقُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ زَوجَينِ فِي سَبِيلِ اللهِ إلَّا استَقبَلَتهُ حَجَبَةُ الجَنَّةِ كُلَّهُم يَدعُوهُ إِلَى مَا عِندَهُ))، قلت: زوجين ماذا؟(14) قال: ((إِنْ كَانَ صَاحِبَ خَيلٍ فَفَرَسَينِ، وإِنْ كَانَ صَاحِبَ إِبِلٍ فَبَعِيرَينِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ بَقرٍ فَبَقَرَتَينِ)). حتَّى عدَّ أصناف المال.
          فإن قال قائل: إنَّ النَّفقة إنَّما تسوغ في باب الجهاد وباب الصَّدقة، فكيف تكون في باب الصَّلاة والصِّيام؟ قال عبد الواحد: معنى زوجين أراد نفسه وماله، والله أعلم.
          قال المؤلِّف: والعرب(15) تسمِّي ما يبذله الإنسان من نفسه واجتهاده نفقةً فيقول أحدهم فيما تعلَّم من العلم أو صنعة من سائر الأعمال: أنفقتُ في هذا عمري، وبذلتُ فيه نفسي، قال حبيب(16):
كَمْ بَينَ قَومٍ إنَّما نَفَقَاتُهُم                     مَالٌ وقَومٌ يُنفِقُونَ نُفُوسًا
          قال المُهَلَّب: فتكون النَّفقة على هذا الوجه في باب الصَّلاة والصِّيام من الجسم بإتعابه له(17).
          فإن قيل: كيف تكون النَّفقة في ذلك زوجين، وإنَّما نجد الفعل في هذا الباب نفقة الجسم لا غير؟ فالجواب: أنَّ نفقة المال مقترنة بنفقة الجسم في ذلك، لأنَّه لابدَّ للمصلِّي والصَّائم من قوت يقيم رمقه وثوب يستره، وذلك من فروض الصَّلاة، ويستعين بذلك على طاعة الله تعالى، فقد صار(18) منفقًا لزوجين: لنفسه وماله(19)، وقد تكون النَّفقة في باب الصَّلاة أن يبني لله مسجدًا للمصلِّين، لدلالة(20) قوله: ((مَنْ بَنَى للهِ مَسجِدًا بَنَى اللهُ لَهُ بَيتًا فِي الجَنَّةِ))، والنَّفقة في الصِّيام إذا فطَّر صائمًا(21) فكأنَّما صام يومًا، ويعضدُه قوله تعالى: {وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة:184]، فجعل الإطعام للمسكين عوضًا من صيام يوم، وأبواب الجنَّة ثمانية، وإنَّما ذكر منها في الحديث أربعة(22). فمن الأربعة الباقية(23) باب الكاظمين الغيظَ والعافين عن النَّاس.
          وذكر(24) ابن البراء في «كتاب(25) الرَّوضة» عن أحمد بن حنبل قال: حدَّثنا روح عن أشعث، عن الحسن قال: إنَّ للهَ في الجنَّةِ بابًا لَا يَدخُلُهُ إلَّا مَنْ عَفَا عَنْ مَظلَمَةٍ، فقالَ(26) لابنهِ: يا بُنيَّ ما خرجت من دار أبي إسحاق حتَّى أحللته ومن معه إلَّا رجلين: ابن أبي دؤاد، وعبد الرَّحمن بن أبي(27) إسحاق فإنَّهما طلبا دمي، وأنا أهون على الله من أن يُعَذِّبَ فيَّ أحدًا، أشهدك أنَّهما في حلِّ.
          ومنها: باب التَّوبة، رُوي عن ابن مسعود أنَّه سأله رجل عن ذنب ألمَّ به، هل له منه توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود، ثمَّ التفت(28) فرأى عينيه تذرفان، فقال: إنَّ للجنَّة ثمانية أبوابٍ كلُّها تُفتح وتُغلق إلَّا باب التَّوبة فإنَّ عليه ملكًا موكَّلًا به لا يغلق، فاعمل ولا تيأس.
          ووجه الإنفاق في ذلك ما يتقوَّى به على طاعة الله، ويتحلَّل من المحارم الَّتي سلفت منه، ويؤدِّي المظالم إلى أهلها، ويمكن أن يكون من الثَّلاثة الباقية(29)، باب المتوكِّلين الَّذين يدخلون / الجنَّة في سبعين ألفًا من باب واحد، لا يدخل أوَّلهم حتَّى يدخل آخرهم، وجوههم كالبدر: الَّذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيَّرون(30) وعلى ربِّهم يتوكَّلون، ووجه الإنفاق في ذلك أنَّهم ينفقون على أنفسهم في حال المرض المانع لهم من التَّصرف في طلب المعاش، صابرين على ما أصابهم، وينفقون على من أصابه ذلك البلاء من غيرهم.
          ومنها: باب(31) الصَّابرين لله على المصائب، المحتسبين(32) الَّذين يقولون عند نزولها(33): {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} الآية(34)[البقرة:156]، ومنها: باب الحافظين فروجهم والحافظات المستعفِّين بالحلال عن الحرام، وغير المتَّبعين للشَّهوات، ووجه الإنفاق في ذلك: الصَّداق والوليمة والإطعام حتَّى اللُّقمة يضعها في فِي امرأته، والله أعلم بحقيقة الثَّلاثة الأبواب(35).
          فإن قيل: فإذا جاز أن يُسمَّى استعمال الجسم في طاعة الله نفقة، فيجوز أن يدخل في معنى الحديث ((مَنْ أَنفَقَ نَفسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاستَشهَدَ وأَنفَقَ كَرِيمَ مَالِهِ))؟ قيل: نعم، وهو أعظم أجرًا من الأوَّل.
          ويدلُّ على ذلك ما رواه سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رجل: يا رسول الله، أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: ((أَنْ يُعقَرَ جَوَادُكَ ويُهرَاقَ دَمُكَ)).
          قال عبد الواحد(36): فإن قيل: هل يدخل في ذلك صائم رمضان والمزكِّي(37) لماله ومؤدِّي الفرائض؟ قيل: المراد بالحديث النَّوافل وملازمتها والتَّكثير منها(38)، فذلك الَّذي يستحقُّ أن يُدعى من أبوابها لقوله: ((فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهلِ كَذَا)).
          قال المُهَلَّب: قول أبي بكر: ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، يريد أنَّه من لم يكن إلَّا من أهل خصلة واحدة من هذه الخصال، ودعي من باب تلك الخصلة فإنَّه(39) لا ضرورة عليه، لأنَّ الغاية المطلوبة دخول الجنَّة.
          وقوله: (هَلْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: نَعَم) يريد أنَّ من كان من أهل الصَّلاة والجهاد والصِّيام والصَّدقة أنَّه يدعى منها كلِّها(40)، فلا ضرورة عليه في دخوله من أيِّ باب شاء(41)، لاستحالة دخوله منها كلِّها معًا، ولا يصحُّ دخوله إلَّا من باب واحد، ونداؤه منها كامل(42) إنَّما هو على سبيل الإكرام والتَّخيير له في دخوله(43) من أيِّها شاء.
          قال عبد الواحد(44): وفيه أنَّ أعمال البرِّ(45) يجوز أن يُقال فيها في سبيل الله ولا يخصُّ بذلك الجهاد وحده.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] قوله: ((أحد)) ليس في (م).
[3] قوله: ((يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لا يَدْخُلُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ)) ليس في (م).
[4] قوله: ((فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)) ليس في (م).
[5] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[6] في (م): ((دعي)).
[7] في (م): ((فقال)).
[8] قوله: ((يا رسول الله)) ليس في (م).
[9] في (م): ((وليكون)).
[10] قوله: ((في)) ليس في (م).
[11] في (م): ((حماد بن سلمة)).
[12] قوله: ((من أنفق زوجين من ماله ابتدرته...... صعصعة، قال)) ليس في (م).
[13] في (م): ((لقيت)).
[14] في (م): ((زوجين من ماذا)).
[15] قوله: ((قال عبد الواحد: معنى...... المؤلف: والعرب)) ليس في (م). وبدله في (م): ((فالجواب أن العرب قد)).
[16] زاد في (م): ((بن أوس)).
[17] في (م): ((باتباعه له)).
[18] قوله: ((صار)) ليس في (م).
[19] زاد في (م): ((قال)).
[20] في (م): ((بدلالة)).
[21] زاد في (م): ((وأنفق عليه يبتغي وجه الله بدلالة قوله ◙: من فطر صائمًا)).
[22] في (م): ((منها أربعة في الحديث)).
[23] قوله: ((فمن الأربعة الباقية)) ليس في (م). وفيهما بدله: ((ورُوي عن النبي صلعم: ((إن من أبواب الجنة باب الواصلين روى إسماعيل بن أبي خالد عن يونس بن خَبَّاب قال: ((أُخبرت أن رسول الله صلعم قال: للجنة ثمانية أبواب منها: باب للصائمين، وباب للمجاهدين، وباب للمتصدقين، وباب للواصلين، وليس أحد من هذه الأصناف يمرُّ بخزنة الجنة إلا كلهم يدعوه: هلَّم إلينا عبد الله، ومن أبواب الجنة)).
[24] في (م): ((ذكر)).
[25] قوله: ((كتاب)) ليس في (م).
[26] زاد في (م): ((أحمد)).
[27] قوله: ((أبي)) ليس في (م).
[28] زاد في (م): ((إليه)).
[29] في (م): ((يكون الباب الباقي)).
[30] قوله: ((ولا يتطيرون)) ليس في (م).
[31] قوله: ((ووجه الإنفاق في ذلك أنهم.... غيرهم. ومنها: باب)) ليس في (م).
[32] قوله: ((المحتسبين)) ليس في (م).
[33] زاد في (م): ((بهم)).
[34] في (م): ((راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون)).
[35] قوله: ((ومنها: باب الحافظين فروجهم...... الثلاثة الأبواب)) ليس في (م). وبدله في (م): ((ووجه الإنفاق في ذلك أنهم ينفقون على أنفسهم في حال المرض المانع لهم من التصرف في طلب المعاش، صابرين على ما أصابهم، وينفقون على من أصابه ذلك البلاء من غيرهم والله أعلم بحقيقة الباب.)).
[36] قوله: ((قال عبد الواحد)) ليس في (م).
[37] في (م): ((أو المزكي)).
[38] في (م) صورتها: ((وملازمتها وأهل التبرير)).
[39] قوله: ((فإنه)) ليس في (م).
[40] قوله: ((وقوله: هل يدعى أحد من.... يدعى منها كلها)) ليس في (م). وبدله في (م): ((وكذلك من كان من أهل الخصال كلها ودعي من جميع أبواب الجنة)).
[41] في (م): ((من أيها شاء)).
[42] في (م): ((كلها)).
[43] في (م): ((الدخول)).
[44] قوله: ((قال عبد الواحد)) ليس في (م).
[45] زاد في (م): ((كلها)).