شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا نوى بالنهار صومًا

          ░21▒ باب: إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا.
          وَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لا، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ.
          فيه: سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم بَعَثَ رَجُلا يُنَادِي في النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلا يَأْكُلْ). [خ¦1924]
          غرض(1) البخاريِّ في هذا الباب إجازة صوم النَّافلة(2) / بغير تبييت، وذكر ذلك عن بعض(3) الصَّحابة، وقد رُوي عن ابن مسعود وأبي أيُّوب الأنصاريِّ أيضًا(4) إجازة ذلك، وذكره(5) الطَّحاويُّ عن عثمان بن عفَّان وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور، كلُّهم يجيز أن ينوي النَّافلة بالنَّهار، واحتجُّوا بحديث سلمة بن الأكوع هذا، وبحديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: ((هَلْ عِندَكُم مِنْ غَداءٍ؟ فَإِذَا قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ))، وقال الكوفيُّون(6): يجزئه أن ينوي صوم النَّافلة(7) بعد الزَّوال. وذهب مالك وابن أبي ذئبٍ واللَّيث والمزنيُّ إلى أنَّه لا يصحُّ صيام التَّطوع إلَّا بنيَّة من اللَّيل كالفرض سواء، وهو مذهب ابن عمر وعائشة وحفصة، وحجَّتهم ما رواه(8) اللَّيث عن يحيى بن أيُّوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزُّهريِّ عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النَّبيِّ صلعم أنه قال: ((مَنْ لَم يُبَيِّت(9) قَبلَ الفَجرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ)).
          واحتجَّ ابن القصَّار بعموم هذا اللَّفظ(10)، ولم يفرِّق بين فريضةٍ ولا نافلةٍ(11)، واحتجَّ أيضًا بقوله: ((الأَعمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وكلُّ جزء من النَّهار الإمساك فيه عمل، فلا يصحُّ بغير نيَّة في الشَّرع، ولنا أن نقيس الصِّيام على الصَّلاة، لأنَّه لم يختلف فرضها ونفلها في باب النِّيَّة.
          قالوا(12) في حديث سلمة بن الأكوع: إنَّ صوم عاشوراء منسوخٌ فنُسخت شرائطه، فلا يجوز ردُّ غيره إليه، وحديث عائشة رواه طلحة بن يحيى واضطرب في إسناده، فرواه عنه طائفةٌ عن مجاهدٍ عن عائشة، وروته طائفة عنه(13) عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أمِّ المؤمنين، ومنهم من لا يقول فيه: (إذًا) ويقول: (إِنِّي(14) صَائِمٌ).
          قال ابن القصَّار: يحتمل(15) أن يكون معناه أن يسألهم ◙ عن الغداء ليعلم هل عندهم شيء، وهم يظنُّون أنَّه يتغدَّى، وهو ينوي(16) الصَّوم ليقول لهم(17): اجعلوه للإفطار، فتسكن نفسه إليه، فلا يتكلَّف ما يفطر عليه، فلمَّا قالوا له: (لا) قال: (إِنِّي(18) صَائِمٌ إذًا)، أي: إنِّي(19) كما كنت، أو إنِّي بمنزلة الصَّائم، ويحتمل أن يكون عزم على الفطر لعذرٍ وجدَه، فلمَّا قيل له: ليس عندنا شيء، تمَّم الصَّوم، وقال: إنِّي صائم كما كنت، وإذا احتُمِل هذا كلُّه لم تخصَّ الظَّواهر به(20)، والأصول تشهد لما قلنا.
          واحتجَّ الكوفيُّون بحديث سلمة بن الأكوع، وقالوا: هو حجَّةٌ لنا في أنَّ كلِّ صوم فُرض في وقت معيَّن فإنَّه لا يحتاج(21) إلى تبييتٍ من اللَّيل كالنَّذر المعيَّن، ويجوز أن ينوي له بالنَّهار قبل الزَّوال، وكلُّ صوم واجب في الذِّمَّة ولا يتعلَّق بوقتٍ معيَّن فلابدَّ فيه من النِّيَّة في اللَّيل، قالوا: ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم أمر النَّاس بيوم(22) عاشوراء بعد ما أصبحوا أن يصوموا، وهو يومئذ(23) عليهم فرض كما صار(24) صوم رمضان بعد ذلك على النَّاس فرضًا، وكان تصحيح هذه الأخبار أن يحمل حديث عاشوراء في صوم الفرض في اليوم المعيَّن، لأنَّ عاشوراء فُرض في يومٍ معيَّن كرمضان(25) فُرض في أيَّام معيَّنةٍ، فلمَّا(26) كان يجزئ صوم عاشوراء من(27) نوى صومه بعد ما أصبح، كذلك شهر رمضان.
          وقال الأوزاعيُّ كقول أبي حنيفة، وذهب مالك واللَّيث والشَّافعيُّ وأحمد إلى أنَّه لابدَّ في صوم الفرض من نيَّةٍ متقدِّمةٍ في اللَّيل(28)، واحتجَّ ابن القصَّار لهم(29) فقال: إنَّا لا نسلِّم استدلال من خالفنا بحديث سلمة بن الأكوع أنَّ صوم عاشوراء كان واجبًا، بدليل قوله(30) فيه: (مَنْ أَكَلَ فَليَصُم)، فأمر من كان آكلًا(31) بالإمساك، ولم يأمره بالقضاء، ولو كان واجبًا لأمره(32) بقضائه، وقوله ◙: (نَحنُ أَحَقُّ بِصِيَامِهِ) يدلُّ أنَّه كان على وجه التَّطوُّع حين نسخ برمضان فزال حكمه، ولو قلنا: إنَّ صومه كان(33) واجبًا، لقلنا: إنَّ صومه إنَّما وجب في الوقت الذي أمر به، وقد زال ذلك بزواله، فحصلت النِّيَّة متقدِّمة عليه، ولا يُقاس عليه(34).


[1] في (م): ((قال المؤلف: غرض)).
[2] قوله: ((وهو كمن شكَّ في غروب الشَّمس فأكل...........غرض البخاريِّ في هذا الباب إجازة صوم النَّافلة)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[3] في (م): ((عن طائفة من)).
[4] قوله: ((الأنصاري أيضًا)) ليس في (م).
[5] في (ز) و(ص): ((وذكر)) والمثبت من (م).
[6] زاد في (م): ((والشافعي)).
[7] في (ز) و(ص): ((النهار)) والمثبت من (م).
[8] في (م): ((روى)).
[9] زاد في (م): ((الصيام)).
[10] في (م): ((هذا القول)). زاد في (م): ((قال)).
[11] في (م): ((ولم يفرق بين صوم فريضة ونافلة)).
[12] في (م): ((وقالوا)).
[13] قوله: ((عنه)) ليس في (م).
[14] في (م): ((وأنا)).
[15] في (م): ((ويحتمل)).
[16] في (م): ((وهو اعتقاده)).
[17] في (ص): ((الصوم ويقول)).
[18] في (م): ((فإني)).
[19] قوله: ((إني)) ليس في (م).
[20] في (م) و(ص): ((بها)).
[21] زاد في (م): ((فيه)).
[22] في (م): ((يوم)).
[23] في (م): ((حينئذ)).
[24] في (م): ((كان)).
[25] زاد في (م): ((وهو)).
[26] في (م): ((فكما)).
[27] في (م): ((ما)).
[28] في (م): ((بالليل)).
[29] في (م): ((واحتج لهم ابن القصار)).
[30] في (م): ((بدليل أن قال)).
[31] في (م) تحتمل: ((أكل)).
[32] في (م): ((لا)).
[33] في (م): ((إنه كان)).
[34] زاد في (م): ((وسأتقصى الكلام في صوم عاشوراء في بابه بعد هذا، إن شاء الله)).