شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: الحائض تترك الصوم والصلاة

          ░41▒ باب: الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاةَ(1).
          وَقَالَ أَبُو(2) الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا على خِلافِ الرَّأْيِ، فَلا(3) يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا، مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ، وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ.
          فيه: أَبو سَعِيدٍ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ، فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا). [خ¦1951]
          قال المُهَلَّب: هذا الحديث أصلٌ لترك الحائض الصَّوم والصَّلاة، وفيه من الفقه أنَّ ترك الصِّيام(4)، وإن كان فيه بعض القوَّة إذا كان يدخل عليه المشقَّة والخوف، ألا ترى أنَّ الحائض ليست تضعف عن الصِّيام ضعفًا واحدًا، وإنَّما يشقُّ عليها بعض المشقَّة من أجل نزف دمها، وضعف النَّفس عند خروج الدَّم معلومٌ(5) ذلك من عادة اليسير فغلبت(6) على كلِّ النِّساء، وفي جميع الأحوال رحمةً من الله ورَفعًا لقليل الحرج وكثيره، وأُمرت بإعادة الصِّيام من قول الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} ونزف الدَّم مرض {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ولم تُؤمر بإعادة الصَّلاة، لأنَّها أكبر الفرائض وأكثرها تردُّدًا، ولما يلزم من المحافظة على وضوئها والقيام إليها وإحضار النِّيَّة للمناجاة، كما شهد الله تعالى لذلك بقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ على الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45]، وهي(7) الَّتي حطَّها الله في أصل الفرض من خمسين إلى خمسٍ، فلو أُمرت بإعادة الصَّلوات لتضاعف عليها الفرض، إذ المرأة نصف دهرها أو نحوه(8) حائضٌ، فكان النَّاس يصلُّون صلاة واحدة وتصلِّي هي في كلِّ صلاة صلاتين، فتختلف أحوال النِّساء والرِّجال، والله أعلم.
          واختلفوا في المرأة تطهر من حيضتها في بعض النَّهار والمسافر يقدم، والمريض يبرأ، فقال أبو حنيفة والأوزاعيُّ وأحمد وإسحاق: يلزمهم كلُّهم الإمساك بقيَّة النَّهار، وإن قدم المسافر مفطرًا فلا يطأ زوجته لتعظيم حرمة الشَّهر، وقال مالكٌ والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ: يأكلون بقيَّة يومهم(9)، وللمسافر المفطر يقدم أن يطأ زوجته إذا وجدها قد طهُرت من حيضتها(10)، واحتجَّ الأوَّلون بقوله ◙ يوم عاشوراء(11): ((مَنْ أَكَلَ فَليُمسِك بَقِيَّةَ نَهَارِهِ)). فأمرهم بالإمساك مع الفطر، وهذا المعنى موجودٌ في الإقامة الطَّارئة في بعض النَّهار.
          قال ابن القصَّار: والحجَّة لمالك والشَّافعيِّ قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:185]، وهؤلاء قد أفطروا فحكم الإفطار لهم باقٍ، والفطر رخصةٌ للمسافر، ومن تمام الرُّخصة ألَّا يجب عليه(12) أكثر من يوم، فلو أمرناه أن يمسك بعد ذلك ثمَّ يصوم يومًا آخر مكانه، كنَّا قد منعناه من الرُّخصة، وأوجبنا عليه في ترك اليوم أكثر من يوم(13) والله إنَّما قال: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وكذلك الحائض كان يلزمها أكثر من يوم، وإنَّما يلزم الصِّيام من(14) يصحُّ منه الصِّيام الَّذي لا يجب معه قضاء، وأمَّا صوم يوم عاشوراء فإنَّما لزمهم صومه من الوقت الذي خُوطبوا فيه، ولم يجب عليهم الابتداء، لأنَّهم لم يعلموا ذلك الوقت قبل لهم(15)، وأيضًا فإنَّهم متطوِّعون، وأمرُه بالإمساك لهم كان مستحبًا، فلا يلزم الاعتراض به.


[1] في (م): ((الصلاة والصوم)).
[2] في (م): ((ابن)).
[3] في (م): ((فما)).
[4] في (م): ((أن للمريض يترك الصوم)).
[5] في (ز): ((لا يعلم)) والمثبت من (م).
[6] في (م): ((البشر فغلب)).
[7] صورتها في (ز): ((وهو)).
[8] قوله: ((أو نحوه)) ليس في (م).
[9] في (م): ((نهارهم)).
[10] قوله: ((إذا وجدها قد طهُرت من حيضتها)) ليس في (م).
[11] قوله: ((يوم عاشوراء)) زيادة من (م).
[12] زاد في (م): ((بدل اليوم)).
[13] قوله: ((فلو أمرناه أن يمسك بعد.... أكثر من يوم)) ليس في (م).
[14] في (م): ((متى)).
[15] في (م): ((ذلك إلا وقت قيل لهم)).