شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة

          ░60▒ باب: صِيَامِ الأَيَّامِ الْبِيضِ.
          ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: (أَوْصَانِي النَّبيُّ صلعم بِثَلاثٍ: صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ). [خ¦1981]
          قال المؤلِّف: ليس في حديث أبي هريرة أنَّ الثَّلاثة الأيَّام(1) الَّتي أوصاه بها من كلِّ شهرٍ هي الأيَّام(2) البيض كما ترجم به البخاريُّ، وهي موجودةٌ في حديثٍ آخر، روى الطَّبريُّ، قال: حدَّثنا مخلد بن الحسن، حدَّثنا عبيد(3) الله بن عَمْرو الرَّقِّي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق السَّبيعيِّ، عن جرير بن عبد الله البَجليِّ، عن النَّبيِ صلعم أنَّه(4) قال: ((صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهرٍ صِيَامُ الدَّهرِ، أَيَّامِ البِيضِ: صَبِيحَةِ ثَلاثَ عَشرَةَ وَأَربَعَ عَشرَةَ وَخَمسَ عَشرَةَ))، وروى(5) شعبة، عن أنس بن سيرين عن عبد الملك بن المِنْهَال عن أبيه قال: ((أَمَرَنِي النَّبيُّ صلعم بِالأَيَّامِ البِيضِ، وَقَالَ: هُوَ صَومُ الشُّهُورِ(6))). ورُوي من حديث عمر وأبي ذرٍّ عن النَّبيِّ صلعم،(7) قال لأعرابيٍّ ذُكر له أنَّه صائم قال(8): ((أَينَ أَنتَ عَنِ الغُرِّ البِيضِ: ثَلاثَ عشَرَةَ وأَربَعَ عَشرَةَ وَخَمسَ عَشرَةَ)).رواه ابن عيينة عن محمِّد بن عبد الرَّحمن مولى آل طلحة، عن موسى بن طلحة، عن رجل من بني تميم يُقال له: ابن الحَوْتَكِيَّة عن عمر، وأبي ذرٍّ.
          فمن(9) كان يصوم الأيَّام(10) البيض من السَّلف: عُمَر بن الخطَّاب وابن مسعود وأبو ذرٍّ، ومن التَّابعين الحسن البصريُّ والنَّخعيُّ، وسُئل الحسن البصريُّ لمَ صام النَّاس الأيَّام البيض وأعرابيٌّ يسمع، فقال الأعرابيُّ: لأنَّه لا يكون الكسوف إلَّا فيها، ويحبُّ الله ألَّا تكون في السَّماء آية إلَّا كانت في الأرض عبادة.
          قال الطَّبريُّ: فاختار هؤلاء هذه الأيَّام(11) البيض لهذه الآثار(12)، واختار قوم من السَّلف صيام / ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهر غير معيَّنة على ظاهر حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب، وروى معمر عن الجريريِّ، عن أبي العلاء بن الشِّخِّير أنَّ أعرابيًّا(13) سمع النَّبيَّ صلعم قال: ((صَومُ شَهرِ الصَّبرِ وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهرٍ يُذهَبنَ كَثِيرًا مِنْ وَغَرِ الصَّدرِ)). قال(14) مجاهد: وَغَر الصَّدر هو(15) غِشُّه.
          وممَّن كان يصوم ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ ويأمر بهنَّ عليُّ بن أبي طالبٍ ومعاذ بن جبل وأبو ذرٍّ وأبو هريرة، وكان بعض السَّلف يختار الثَّلاثة مِن أوَّل الشَّهر، وهو الحسن البصريُّ، وكان بعضهم يختار الاثنين والخميس، وهي أمُّ سلمة زوج النَّبيِّ صلعم، وقالت إنَّه أمرها بذلك، وكان بعضهم يختار السَّبت والأحد والاثنين، ومن الشَّهر الَّذي يليه الثَّلاثاء والأربعاء والخميس، ومن الشَّهر(16) الَّذي يليه كذلك، وهي عائشة أمُّ المؤمنين، ومنهم من كان يصوم آخر الشَّهر، وهو النَّخَعِيُّ ويقول: هو كفَّارة لما مضى، فأمَّا الذين اختاروا صوم الاثنين والخميس فلحديث أمِّ سلمة وأخبار أُخر رُويت عن النَّبيِّ صلعم أنَّ(17) الأعمال(18) تُعرض على الله في الاثنين والخميس، فأحبُّوا أن تُعرض أعمالهم على الله وهم صيامٌ، وأمَّا(19) الَّذين اختاروا ما اختارت عائشة فلِئلَّا يكون يوم(20) من أيَّام السَّنة إلَّا قد صامه، وأمَّا الذين اختاروا ذلك من أوَّل الشَّهر فلِما رواه شيبان عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زرٍّ عن عبد الله بن مسعود، قال: ((كَانَ النَّبيُّ صلعم يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كِلِّ شَهرٍ(21) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)).
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب عندي في ذلك أنَّ جميع الأخبار(22) عن النَّبيِّ صلعم صحاح، ولكن لمَّا صحَّ عنه ◙ أنَّه اختار لمن أراد صوم الثَّلاثة الأيَّام من كلِّ شهر الأيَّام البيض فالصَّواب اختيار ما اختار ◙، وإن كان غير محظورٍ عليه أن يجعل صوم ذلك ما شاء من أيَّام الشَّهر إذ كان ذلك نفلًا لا فرضًا.
          فإن قيل: أو ليس قد قلت أنَّ النَّبيَّ ◙ كان يصوم الاثنين والخميس، ويصوم الثَّلاثة من غرَّة الشَّهر؟ قيل: نعم، ولا يدلُّ على أنَّ الَّذي اختار للأعرابيِّ(23) من أيَّام البيض ليس(24) كما اختار وأنَّ ذلك من فعله دليل على أنَّ أمره للأعرابيِّ ليس بالواجب، وإنَّما هو أمر ندب وإرشاد، وأنَّ لمن أراد من أمَّته صوم ثلاثة أيَّام من كلِّ شهر تخيَّر ما أحبَّ من أيَّام الشَّهر، فيجعل صومه فيما اختار من ذلك كما كان الرَّسول(25) صلعم يفعله، فيصوم مرَّةً الأيَّام البيض، ومرَّةً(26) غرَّة الهلال، ومرَّةً الاثنين والخميس، إذ كان لأمَّته الاستنان به فيما لم يعلمهم أنَّه له خاصٌّ دونهم، روى ابن القاسم عن مالك في «العُتْبِيَّة» أنَّه كره تعمُّد صوم(27) الأيَّام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا، وقال: الأيَّام كلُّها لله، وكره أن يجعل على نفسه صوم يوم يؤقِّته أو شهر، قال عنه ابن وهب: فإنَّه(28) لعظيم أن يجعل صوم يوم يؤقِّته أو شهر كالفرض(29)، ولكن يصوم إذا شاء ويفطر إذا شاء. قال ابن حبيب: وبلغني أنَّ صوم مالك بن أنس أوَّل يوم من الشَّهر واليوم العاشر واليوم العشرين.


[1] قوله: ((الأيام)) ليس في (م).
[2] في (م): ((أيام)).
[3] في (ز) و(ص): ((عبد)) والمثبت من (م).
[4] قوله: ((أنه)) ليس في (م).
[5] في (م): ((ورواه)).
[6] في (م): ((الشهر)).
[7] زاد في (م): ((أنه)).
[8] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[9] في (م): ((وممن)).
[10] في (م): ((أيام)).
[11] في (م): ((هؤلاء صيام الأيام)).
[12] في (م): ((الأخبار)).
[13] في (م): ((عن أعرابي)).
[14] في (م): ((وقال)).
[15] في (م): ((وهو)).
[16] في (م): ((الخميس والشهر)).
[17] صورتها في (ز): ((وأن)).
[18] في (م): ((أعمال العباد)).
[19] في (ز) و(ص): ((فأما)) والمثبت من (م).
[20] في (ص): ((يومًا)).
[21] في (م): ((هلال)).
[22] زاد في (م): ((في ذلك)).
[23] في (م): ((الأعرابي)).
[24] قوله: ((ليس)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[25] في (م): ((النبي)).
[26] زاد في (م): ((من)).
[27] في (م): ((صيام)).
[28] في (م): ((وإنه)).
[29] في (م): ((أن يجعل على نفسه شيئًا كالفرض)).