شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحجامة والقيء للصائم

          ░32▒ باب: الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ.
          يروى(1) عن أبي هُرَيْرَةَ: (إِذَا قَاءَ فَلا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلا يُولِجُ)، وَيُذْكَرُ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ.
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: الفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ(2) يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا، وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ ابْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا، وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ(3) عَلْقَمَةَ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلا تَنْهَى، وَيُروى عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا: (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ)، قِيلَ لَهُ: عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَعْلَمُ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبيَّ صلعم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ(4) وَهُوَ صَائِمٌ، قِيلَ(5) لأَنَس: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ). [خ¦1938]
          قال المؤلِّف(6): أمَّا قول أبي هريرة: (إِذَا قَاءَ فَلا يُفْطِرُ) فقد رُوي مرفوعًا من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن حسَّان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلعم: ((مَنِ استَقَاءَ فَعَلَيهِ القَضَاءُ، ومَنْ ذَرَعَهُ القَيءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيهِ))، وهذا الحديث انفرد به عيسى بن يونس، عن هشام بن حسَّان، وعيسى ثقة، إلَّا أنَّ أهل الحديث أنكروه عليه(7)، ووهم عندهم فيه، قال(8) البخاريُّ: لا يُعْرَف إلَّا من هذا الطَّريق، ولا أراه محفوظًا وروى معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني عُمَر بن الحكم بن ثوبان أنَّه سمع أبا هريرة يقول: إِذا قاءَ أحدكم فلا يفطر، فإنَّما يخرج ولا يدخل. وهذا عندهم أصحُّ موقوفًا على أبي هريرة.
          وأجمع الفقهاء أنَّ من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، واختلف(9) فيمن استقاء، فقال مالك واللَّيث والثَّوريُّ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وأحمد: من استقاء عامدًا فعليه القضاء، وعليه الجمهور، رُوي(10) ذلك عن عليٍّ وابن عمر وأبي هريرة.
          وقال الأوزاعيُّ وأبو ثورٍ: عليه القضاء والكفَّارة مثل كفَّارة الآكل عامدًا في رمضان وهو قول عطاء، واحتجُّوا بحديث الأوزاعيِّ عن يعيش بن الوليد بن هشام أنَّ أباه حدَّثه قال: حدَّثنا(11) مَعْدَان بن طلحة أنَّ أبا الدَّرداء(12) حدَّثه: أنَّ رسول الله صلعم قاء فأفطر، قالوا: وإذا كان القيء يفطر الصَّائم فعلى من تعمَّده(13) ما على من تعمَّد الأكل والشُّرب والجماع(14) القضاء والكفَّارة، وتأوَّل الفقهاء هذا الحديث قالوا(15): معنى قاء أي استقاء، قال الطَّحاويُّ: ويجوز أن يكون قوله: (قَاءَ فَأفْطَر) أي قاء فضعف فأفطر، وقد يجوز هذا في اللُّغة، وقد روى هذا المعنى محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي هريرة وعن(16) فَضَالة بن عبيد: أنَّ رسول الله صلعم دعا بإناء فشرب، فقيل: يا رسول الله، هذا يوم كنت تصومه، قال: ((أَجَل، إنِّي قِئتُ فَأَفطَرتُ))، وهذا معناه ولكنِّي قئت فضعُفت عن الصِّيام(17) فأفطرت، وليس في هذين الحديثين دليلًا(18) أنَّ القيء كان مفطرًا له، إنَّما فيهما أنَّه قاء فأفطر بعد ذلك.
          وأمَّا الحجامة للصَّائم: فجمهور الصَّحابة والتَّابعين والفقهاء على أنَّها(19) لا تفطره، ورُوي عن عليِّ بن أبي طالب أنَّها تُفطر الصَّائم(20)، وهو قول الأوزاعيِّ وأحمد وإسحاق، واحتجُّوا بأحاديث ((أَفَطَرُ الحَاجِمُ والمَحجُومُ))، وقد صحَّح عليُّ(21) بن المدينيِّ والبخاريُّ منها حديث شدَّاد وثوبان.
          قال ابن القصَّار: وحجَّة الجماعة ما رواه ابن عبَّاس: أنَّ النَّبيَّ صلعم احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم، فإن صحَّ حديثهم فحديث ابن عبَّاس ناسخ له، لأنَّ في حديث شَدَّاد بن أوس أنَّ النَّبيَّ(22) صلعم قال عام الفتح في رمضان لرجل ٍكان يحتجم: ((أَفطَرَ الحَاجِمُ والمَحجُومُ))، والفتح كان في سنة ثمان، وحجَّة الوداع سنة عشر، فخبر ابن عبَّاسٍ متأخِّر ينسخ المتقدِّم.
          فإن قيل: لا حجَّة في هذا لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يكن محرمًا إلَّا وهو مسافرٌ، لأنَّه خرج إلى مكَّة وأحرم ودخلها وهو مسافر، وللمسافر أن يفطر بالحجامة وغيرها، وهذا سؤال لهم جيِّد، فنقول: إنَّ الخبر لم ينقل إلَّا لفائدة، فهذا يقتضي أنَّه وُجد منه كمال الحجامة وهو صائم لم يتحلَّل من صومه فأفطر بعد ذلك، إذ(23) الرَّاوي لم يقل: احتجم فأفطر، وعندكم أنَّ الفطر يقع بأوَّل خروج الدَّم، ولا يبقى صائمًا إلى أن تتمَّ الحجامة، والخبر يقتضي أن يكون صائمًا في حال حجامته وبعد الفراغ، والحجامة كالفِصَاد وهو لا يفطر الصَّائم، قال الطَّحاويُّ: وليس ما رووه من قوله ◙: ((أَفطَرَ الحَاجِمُ والمَحجُومُ))، ما يدلُّ أنَّ ذلك الفطر كان لأجل الحجامة، وإنَّما كان بمعنى آخر كانا يفعلانه، كما يُقال: فسق القائم، ليس بأنَّه(24) فسق بقيامه، ولكنَّه فسق بمعنى آخر غير القيام.
          وروى(25) يزيد بن ربيعة الدِّمشقيُّ عن أبي الأشعث الصَّنعانيِّ قال: إنَّما قال رسول الله صلعم: ((أَفطَرَ الحَاجِمُ والمَحجُومُ))، لأنَّهما كانا يغتابان، وليس إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشُّرب والجماع، لكن(26) حبط أجرهما باغتيابهما، فصارا بذلك مفطرين، لا أنَّه إفطار يوجب عليهما القضاء، كما قالوا(27): الكذب يفطر الصَّائم، إنَّما هو بمعنى حبوط الأجر، وقد رُوي عن جماعة من الصَّحابة في ذلك معنى آخر، روى قَتادة عن أبي المتوكِّل النَّاجيِّ، عن أبي سعيد الخدريِّ قال: إنَّما كرهت الحجامة للصَّائم(28) من أجل الضَّعف، وعن ابن عبَّاس وأنس بن مالك مثله(29)، فدلَّت هذه الآثار على أنَّ المكروه من أجل الحجامة في الصِّيام هو الضَّعف الَّذي يصيب الصَّائم فيفطر من أجله بالأكل والشُّرب، وقد رُوي هذا المعنى عن أبي العالية وأبي قِلابة وسالم والنَّخعيِّ والشَّعبيِّ والحسن(30) بن عليٍّ، وقال القاسم بن محمَّد في ما يذكر من قول النَّاس ((أَفطَرَ الحَاجِمُ والمَحجُومُ))، فقال: لو أنَّ رجلًا حجم يده أو بعض جسده لم(31) يفطره ذلك، قال الطَّحاويُّ: وتأويل أبي الأشعث أشبه بالصَّواب لأنَّ الضَّعف لو كان هو المقصود(32) بالنَّهي لما كان الحاجم داخلًا في ذلك، فإذا كان الحاجم والمحجوم قد جمعا في ذلك أشبه أن يكون ذلك لمعنى واحد(33) هما فيه سواء، مثل الغيبة الَّتي هما فيها سواء، كما قال أبو(34) الأشعث(35).
          قال الطَّحاويُّ: وأمَّا طريق النَّظر فرأينا خروج الدَّم أغلظ أحواله أن يكون حدثًا تنتقض به الطَّهارة، وقد رأينا الغائط والبول خروجهما حدث تنتقض به الطَّهارة(36)، ولا ينقض الصِّيام، فالنَّظر على ذلك أن يكون الدَّم كذلك، ورأينا(37) لا يفطره فصد العروق فالحجامة في النَّظر كذلك(38)، وبالله التَّوفيق(39).


[1] في (م): ((ويروى)).
[2] في (م): ((وكان)).
[3] في (م): ((صيامًا وقالت أم)).
[4] قوله: ((واحتجم)) ليس في (م).
[5] في (م): ((وقيل)).
[6] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[7] في (م): ((عليهم)).
[8] في (م): ((وقال)).
[9] في (م): ((واختلفوا)).
[10] في (م): ((وروي)).
[11] في (م): ((حدثني)).
[12] في (م): ((عن أبي الدرداء أنه)).
[13] في (م): ((تعمد)).
[14] في (م): ((أو الشرب أو الجماع)).
[15] في (م): ((فقالوا)).
[16] في (م): ((عن أبي مرزوق عن)).
[17] في (م): ((الصوم)).
[18] في (م): ((دليل)).
[19] في (م): ((أنه)).
[20] في (م): ((تفطره)).
[21] في (ز): ((صح عن عليِّ)) والمثبت من (م).
[22] العبارة في (م): ((محرم، وهذا ناسخ لحديث شداد لأن فيه أن النبي)).
[23] في (م): ((لم يحل صومه إذ)).
[24] في (م): ((أنه)).
[25] في (م): ((روى)).
[26] في (م): ((ولكنه)).
[27] في (م): ((قيل)).
[28] قوله: ((واجبة بهذا الحديث واحتجَّ بهذا الحديث من جعل كفَّارة المفطر في رمضان.... قال: إنَّما كرهت الحجامة للصَّائم)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[29] في (م): ((وعن أنس بن مالك وابن عباس مثله)).
[30] في (م): ((والشعبي والنخعي والحسين)).
[31] في (م): ((ما)).
[32] زاد في (م): ((إليه)).
[33] قوله: ((واحد)) ليس في (م).
[34] في (م) صورتها: ((ابن)).
[35] زاد في (م): ((وحديث ابن عباس المقنع في هذا الباب.)).
[36] قوله: ((وقد رأينا الغائط والبول خروجهما حدث تنتقض به الطَّهارة)) ليس في (ص).
[37] زاد في (م): ((أيضًا الصائم))، زاد في (ص): ((الصائم)).
[38] في (ص): ((لايفطره قطع العروق فالحجامة كذلك)).
[39] قوله: (وبالله التوفيق) ليس في (م).