شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صوم الدهر

          ░56▒ باب: صَوْمِ الدَّهْرِ.
          فيه عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: (أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ(1) صلعم أَنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لأقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلأصُومَنَّ النَّهَارَ(2) مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بأبي أَنْتَ وَأُمِّي(3)، قَالَ: فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ(4)، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ، قُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَينِ،(5) قُلْتُ: فإِنِّي(6) أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَصُمْ(7) يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ، قُلْتُ(8): إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ(9) صلعم: لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ). [خ¦1976]
          قال المُهَلَّب: فيه من الفقه أنَّ التألِّي على الله في أمرٍ لا يجد منه سعةً ولا إلى غيره سبيلًا منهيٌّ عنه، كما نهى النَّبيُّ صلعم عبد الله بن عَمْرو(10) عن ما تألَّى فيه من(11) قيام اللَّيل وصيام النَّهار، وكذلك مَن حلف ألَّا يتزوج ولا يأكل ولا يشرب، فهذا كلُّه غير لازمٍ عند أهل العلم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1]وللَّذي حلف ألَّا ينكح(12) أن ينكح، وكذلك سائر المحرَّمات الشَّاملة مباح له إتيان ما حلف عليه وعليه كفَّارة اليمين بالله.
          وفيه: أنَّ التَّعمُّق في العبادة والإجهاد للنَّفس مكروه لقلَّة صبر البشر على التزامها لا سيَّما في الصِّيام الَّذي هو إضعاف للجسم، وقد رخَّص الله فيه في السَّفر، لإدخال الضَّعف على من تكلَّف مشقَّة الحِلِّ والتَّرحال، فكيف إذا انضاف(13) ذلك إلى مَن كلَّفه الله قتال أعدائه الكافرين حتَّى تكون كلمة الله العليا، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ ◙(14) قال ذلك في هذا الحديث عن داود: ((وَكَانَ لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى))، فإنَّه(15) أبقى لنفسه قوَّة لئلَّا تضعف نفسه عند المدافعة واللِّقاء.
          وقد كَره قومٌ من السَّلف صوم الدَّهر، رُوي ذلك عن عمر وابن مسعود وأبي ذرٍّ وسلمان، وعن مسروق وابن أبي ليلى وعبد الله بن شَدَّاد وعمرو بن ميمون واعتلُّوا بقوله ◙ في صيام داود: ((لَا أَفضَلَ مِنْ ذَلِكَ)). وقوله: ((لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، مَرَّتَينِ))، وقالوا: إنَّما نهى عن صيام(16) الأبد لما في ذلك من الإضرار بالنَّفس، والحمل عليها، ومنعها(17) من الغذاء الَّذي هو قوامها وقوَّتها على ما هو(18) أفضل من الصَّوم كصلاة(19) النَّافلة وقراءة القرآن والجهاد وقضاء حقِّ الزَّور والضَّيف، وقد أخبر(20) ◙ بقوله في صوم داود: ((وَكَانَ لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى)) أنَّ من(21) فضل صومه على غيره إنَّما كان من أجل أنَّه(22) لا يضعف عن القيام بالأعمال الَّتي هي أفضل من الصَّوم، وذلك ثبوته لحرب أعداء الله عند التقاء الزُّحوف، وتركه الفرار منهم، فكان صلعم إذ قضى لصوم(23) داود بالفضل على غيره من معاني الصِّيام قد بيَّن أنَّ كلَّ من كان صومه لا يورثه ضعفًا عن أداء فرائض الله وعن ما هو أفضل من صومه، وذلك(24) من نفل الأعمال، وهو صحيح الجسم غير(25) مكروهٍ له صومه ذلك.
          وكلُّ / من أضعفه صومه النَّفلَ عن أداء شيء من فرائض الله فغير جائز له صومه، بل هو محظورٌ عليه، فإن لم يضعفه عن الفرائض، وأضعفه عما هو أفضل منه من النَّوافل فإنَّ صومه(26) مكروه، وإن كان غير آثم، وكان(27) ابن مسعود يُقلُّ الصَّوم فقيل له في ذلك(28)، فقال: إنِّي إذا صمت ضعفت عن الصَّلاة، والصَّلاة أحبُّ إليَّ من الصَّوم، وكان أبو طلحة لا يكاد يصوم على عهد النَّبيِّ(29) صلعم من أجل الغزو، فلمَّا توفِّي النَّبيُّ صلعم ما رأيته يفطر(30) إلَّا يوم فطرٍ و أضحى(31)، وقد سرد ابن عمر الصِّيام قبل موته بسنتين، وسرد(32) أبو الدَّرداء وأبو أمامة الباهليُّ وعبد الله بن عَمْرو وحمزة بن عَمْرو، وعائشة وأمُّ سلمة زوجا النَّبيِّ صلعم، وأسماء بنت أبي بكر، وعبد الله وعروة ابنا الزُّبير، وأبو بكر بن عبد الرَّحمن وابن سيرين، وقالوا: من أفطر الأيَّام الَّتي نهى رسول الله صلعم عن صيامها، فليس بداخل في ما نهى عنه من صوم الدَّهر، وقال(33) مالك في «المجموعة»: لا بأس بصيام الدَّهر إذا أفطر يوم الفطر ويوم النَّحر وأيَّام منى، وقد قيل: إنَّ رسول الله صلعم إنَّما قال إذ سُئل عن صوم الدَّهر: ((لَا صَامَ وَلَا أَفطَرَ))، لمن صام حتَّى هلك من صومه، حدَّثني بذلك(34) يعقوب بن إبراهيم، حدَّثنا ابن عليَّة، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قِلابة: أنَّ امرأة صامت حتَّى ماتت فقال النَّبيُّ صلعم: ((لَا صَامَت ولَا أَفطَرَت))، ومن صام حتَّى بلغ به الصَّوم هذا الحدَّ فلا شكَّ أنَّه بصومه ذلك آثم، قاله الطَّبريُّ.


[1] في (م): ((النبي)).
[2] في (م): ((والله لأصومن النهار ولأقومن الليل)).
[3] قوله: ((فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بأبي أَنْتَ وَأُمِّي)) ليس في (م).
[4] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
[5] قوله: ((قُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَينِ)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[6] في (م): ((إني)).
[7] في (ص): ((صم)).
[8] في (م): ((فقلت)).
[9] في (م): ((فقال النبي)).
[10] في (ص): ((عمر)).
[11] في (ز) و(ص): ((عن)) والمثبت من (م).
[12] في (م): ((نكح)).
[13] في (م): ((استضاف)).
[14] زاد في (م): ((قد)).
[15] في (م) و(ص): ((أي إنه)).
[16] في (م): ((صوم)).
[17] في (م): ((في منعها)).
[18] في (ص): ((على هذا)).
[19] في (م): ((كالصلاة)).
[20] زاد في (م): ((النبي)).
[21] قوله: ((من)) ليس في (م).
[22] زاد في (م): ((كان)).
[23] في (م): ((بصوم)).
[24] في (م): ((ذلك)).
[25] في (م): ((فغير)).
[26] زاد في (م): ((ذلك)).
[27] في (م): ((وفد كان)).
[28] قوله: ((في ذلك)) ليس في (م).
[29] في (م): ((رسول الله)).
[30] في (م): ((مفطراَ)).
[31] في (م): ((أو الأضحى)).
[32] زاد في (م): ((الصيام أيضًا)).
[33] في (م): ((قال)).
[34] قوله: ((بذلك)) ليس في (م).