إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل تكون له الأمة فيعلمها

          3011- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) قال: (حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ) ضدُّ الميِّت، لقبٌ له، وهو صالح بن صالحِ بن مسلم بن حيَّان وكنيته (أَبُو حَسَنٍ) بفتح الحاء والسِّين المهملتَين (قَالَ) أي: صالحٌ: (سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ) عامر بن شراحيل (يَقُولُ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَبُو بُرْدَةَ) بضمِّ الموحَّدة، الحارث (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ) عبد الله أبا موسى بن قيس الأشعريَّ ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: ثَلَاثَةٌ) من الرِّجال، مبتدأٌ، خبره قوله: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ(1) لَهُ الأَمَةُ) برفع «الرَّجل» بدلًا(2) من «ثلاثةٌ» بدل تفصيلٍ، أو بدل كلٍّ بالنَّظر إلى المجموع، أو «الرَّجل» خبر مبتدأ محذوف تقديره: أوَّلهم، أو الأوَّل الرَّجل (فَيُعَلِّمُهَا) ما يجب تعليمه من الدِّين (فَيُحْسِنُ) بفاء العطف، ولأبي ذَرٍّ: ”ويُحْسِن“ (تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا) لتتخلَّق بالأخلاق الحميدة (فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا) من غير عنفٍ ولا ضربٍ بل بالرِّفق، وإنَّما غاير بينه وبين التَّعليم وهو داخل فيه؛ لتعلُّقه بالمروءات والتَّعليم بالشَّرعيَّات، أي: الأوَّل عرفيٌّ والثَّاني شرعيٌّ، أو الأوَّل دنيويٌّ والثَّاني دينيٌّ (ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا) بعد أن يَصْدُقَها (فَلَهُ أَجْرَانِ) أجر العتق وأجر التَّزويج، وإنَّما اعتبرهما لأنَّهما الخاصَّان(3) بالإماء دون السَّابقين (وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الكِتَابِ) اليهوديُّ والنصرانيُّ (الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا) بنبيِّه موسى وعيسى (ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ) محمَّدٍ ( صلعم ) في عهد بعثته أو بعدها إلى يوم القيامة، جزم الكِرمانيُّ _وتبعه العينيُّ_ بالأوَّل معلِّلًا: بأنَّ نبيَّه بعد البعثة إنَّما هو محمَّدٌ صلعم باعتبار عموم بعثته ╕ ، ولا يخفى ما فيه، فإنَّ بعثته ╕ في عهده وبعده عامَّةٌ لا فرق بينهما، وجزم بالثَّاني الإمام البلقينيُّ وتبعه / الحافظ ابن حجرٍ عملًا‼ بظاهر اللَّفظ، وفي كلٍّ منهما نظرٌ؛ لأنَّا إذا قلنا: إنَّ بعثته ╕ قاطعةٌ لدعوة عيسى، فلا نبيَّ للمؤمن من أهل الكتاب إلَّا محمَّدٌ صلعم ، وحينئذٍ فالإيمان إنَّما هو بمحمَّدٍ صلعم فقط؛ فكيف ترتَّب الأجر مرَّتين؟! أُجيبَ: بأنَّ مؤمن أهل الكتاب لا بدَّ أن يكون مع إيمانه بنبيِّه مؤمنًا بمحمَّدٍ صلعم ؛ للعهد المتقدِّم والميثاق في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} الاية[آل عمران:81] المفسَّر بأخذ الميثاق من النَّبيِّين وأممهم مع وصفه تعالى له في التَّوراة والإنجيل، فإذا بُعِث صلعم فالإيمان(4) به مستمرٌّ. فإن قلت: فإذا كان الأمر كما ذكرت فكيف تعدَّد إيمانه حتَّى تعدَّد أجره؟ أُجيبَ: بأنَّ إيمانه أوَّلًا تعلَّق بأنَّ الموصوف بكذا رسول، وإيمانه ثانيًا تعلَّق بأنَّ محمَّدًا صلعم هو الموصوف بتلك الصِّفات، فهما معلومان متباينان فجاء التَّعدُّد (فَلَهُ أَجْرَانِ) أجر الإيمان بنبيِّه وأجر الإيمان بمحمَّدٍ صلعم ، وكذا حكم الكتابيَّة؛ إذ(5) النِّساء شقائق الرِّجال في الأحكام. واستُشكِلَ دخول اليهود في ذلك لأنَّ شرعهم نُسِخ بعيسى ╕ ، والمنسوخ لا أجر في العمل به، فيختص الأجران(6) بالنَّصرانيِّ. وأجيب: بأنَّا لا نسلِّم أنَّ النَّصرانيَّة ناسخةٌ لليهوديَّة. نعم، لو ثبت ذلك لكان كذلك، كذا قرَّره الكِرمانيُّ وتبعه البرماويُّ وغيره، لكن قال في «الفتح»: لا خلاف أنَّ عيسى ╕ أرسل إلى بني إسرائيل، فمَن أجاب منهم نُسِب إليه، ومَن كذَّب منهم واستمرَّ على يهوديَّته لم يكن مؤمنًا، فلا يتناوله الخبر لأنَّ شرطه أن يكون مؤمنًا بنبيِّه. نعم، مَن دخل في اليهوديِّة من غير بني إسرائيل، أو(7) لم يكن بحضرة عيسى فلم تبلغه دعوته يصدق عليه أنَّه يهوديٌّ مؤمنٌ؛ إذ هو مؤمنٌ بنبيِّه موسى ولم يكذِّب نبيًّا آخرَ بعده، فمن أدرك بعثة محمَّدٍ صلعم ممَّن كان بهذه المثابة، وآمن به لم يشكل أنَّه دخل في الخبر المذكور. نعم، الإشكال في اليهود الَّذين كانوا بحضرته صلعم ، وقد ثبت أنَّ الآية الموافقة لهذا الحديث، وهي قوله تعالى في سورة القصص: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ}[القصص:54] نزلت في طائفةٍ آمنوا به(8) (9) كعبد الله بن سَلَام وغيره، ففي «الطَّبرانيِّ» من حديث رِفَاعة القُرظيِّ قال: نزلت هذه الآيات(10) فيَّ وفيمن آمن معي، وروى الطَّبرانيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن عليِّ بن رِفَاعة‼ القُرظيِّ قال: خرج عشرةٌ من أهل الكتاب _منهم أبي(11) رِفاعةُ_ إلى النَّبيِّ صلعم ، فآمنوا فأُوذوا، فنزلت: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ}... الآيات[القصص:52-55] فهؤلاء من بني إسرائيل ولم يؤمنوا بعيسى، بل استمرُّوا على اليهوديَّة إلى أن آمنوا بمحمَّدٍ صلعم ، وقد ثبت أنَّهم يؤتون أجرهم مرَّتين. قال الطِّيبيُّ: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه؛ إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمَّدٍ صلعم سببًا لقبول تلك الأديان وإن كانت منسوخةً. انتهى. ويمكن أن يقال: إنَّ الَّذين كانوا بالمدينة لم تبلغهم دعوة عيسى ╕ لأنَّها لم تنتشر في أكثر البلاد، فاستمرُّوا على يهوديَّتهم مؤمنين بنبيِّهم موسى إلى أن جاء الإسلام، فآمنوا بمحمَّدٍ صلعم ، فبهذا يرتفع الإشكال، واشترط بعضهم في الكتابيِّ بقاءه(12) على ما بُعِث به نبيُّه من غير تبديلٍ ولا تحريفٍ، وعُورض: بأنه صلعم كتب إلى هرقل: «أسلمْ تَسلمْ، يؤتك الله أجرك مرَّتين»، وهرقل كان ممَّن دخل في النَّصرانيَّة بعد التَّبديل، والتَّقييد بأهل الكتاب مخرجٌ لغيرهم من الكفَّار، فلا ينبغي حمله على العموم، وإن جاء في الحديث أنَّ حسناتِ الكفَّار مقبولةٌ بعد إسلامهم؛ لأنَّ لفظ الكفَّار يتناول الكافر الحربيَّ، وليس له أجران قطعًا (وَالعَبْدُ) المملوك (الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ) تعالى كالصَّلاة والصَّوم (وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ) في خدمته وغيرها (لَهُ أَجرَان) أيضًا أجر تأديته للعبادة(13) وأجر نصحه.
          (ثُمَّ قَالَ) عامرٌ (الشَّعْبِيُّ) يخاطب صالحًا: (وَأَعْطَيْتُكَهَا) بواو العطف، أي: المسألة أو المقالة، وللحَمُّويي والمُستملي: ”أُعطيكها“ بضمِّ الهمزة بلفظ المستقبل من غير واوٍ ولا فوقيَّةٍ (بِغَيْرِ شَيْءٍ) من الأجرة (وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ) أي: يسافر (فِي أَهْوَنَ مِنْهَا) أي: من المسألة (إِلَى المَدِينَةِ) النَّبويَّة. /


[1] في (م): «يكون».
[2] «بدلًا»: ليس في (د).
[3] في (ص): «الخاصَّات»، وهو تحريفٌ.
[4] في (د) و(ص) و(م): «فإيمانه».
[5] في (د1) و(ص) و(م): «لأنَّ».
[6] في غير (ب) و(س): «الأجر» وليس بصحيحٍ.
[7] في (م): «و».
[8] «آمنوا به»: ليس في (د).
[9] في (ص) و(م): «منهم».
[10] في (م): «الآية».
[11] في (م): «أبو».
[12] في (ج) و(ل): «بقاؤه».
[13] في (د): «العبادة».