التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الزكاة على الأقارب

          ░44▒ بَابُ: الزَّكَاةِ عَلَى الأَقَارِبِ.
          وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ القَرَابَةِ، وَالصَّدَقَةِ).
          1461- 1462- ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الله بْنِ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ / بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قال أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَبَاركَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فَقال رَسُولُ اللهِ صلعم: (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ) فَقال أَبُو طَلْحَةَ: (أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ).
          تَابعَهُ رَوْحٌ، وَقال يَحيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ: (رَايِحٌ).
          ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أبي سَعِيدٍ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلعم فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بَالصَّدَقَةِ) الحديث، وفي آخِرِهِ: (زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ).
          الشَّرحُ: أمَّا الحديثُ الأوَّلُ المعلَّقُ فسيأتي مُسنَدًا قريبًا في حديثِ زينبَ زوجِ ابنِ مسعودٍ بلفظِ: ((لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)) [خ¦1466] وأخرجه مسلمٌ أيضًا، وأمَّا حديثُ أنسٍ فأخرجهُ مسلمٌ أيضًا وكذا النَّسَائيُّ في التَّفسير، وفي روايةٍ للبُخاريِّ: ((قَبِلْنَاهُ مِنْكَ، وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَاجْعَلْهُ فِي الأَقْرَبِينَ)) فتصدَّقَ به أبو طلحةَ على ذوي رَحِمِه، قال: وكان منهم أُبَيٌّ _يعني ابنَ كعبٍ_ وحسَّانُ، فباعَ حسَّانُ حصَّتَهُ منه مِن معاويةَ فعُوتِبَ فيه فقال: أَلَا نبيعُ صاعًا مِنْ تمْرٍ بصاعٍ مِن دراهمَ! خَرّجهُ في الوصايا [خ¦2758].
          وقال: قال الأنصاريُّ: حَدَّثني أَبِي عن ثُمامةَ عن أنسٍ قال: ((اجعلْها لِفُقراءِ قرابتِكَ)) وهذا التَّعليقُ أسندهُ أبو نُعيم والطَّحَاويُّ مِن طريقِ إبراهيمَ بن مرزوقٍ عنه، زاد ابنُ خُزَيمةَ: ((أَوْ في أهلِ بيتِكَ)) وفي روايةٍ: ((لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران:92] قال: أو {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] قال أبو طلحة: يا رسولَ الله)) الحديث، وللتِّرمذيِّ: ((يا رسولَ الله حائطي لله، ولو استطعتُ أن أُسِرَّهُ لَمْ أُعلِنْهُ)) وسيأتي في الوقفِ [خ¦2752] والوكالة [خ¦2318] والأشربة [خ¦5611] والتَّفسير [خ¦4554] [خ¦4555] ووقعَ في «العُباب» للصَّغَانيِّ عن أنسٍ أَنَّهُ قال: وكنتُ أقربَ إليه منهما، وليسَ كذلك فإنَّهما يجتمعانِ في حَرَامٍ وهو الأبُ الثالثُ بخلافِه، وقد ساقَ ابنُ بطَّالٍ بإسنادِه قال أنسٌ: وكانا أقربَ إِلَيْهِ منِّي، فصحَّ.
          وحديثُ يَحيى بن يحيى أخرجهُ الدَّارَقُطْنيُّ في أحاديثِ «الموطَّأ» مِن حديثِ موسى بنِ أبي خُزيمةَ حدَّثَنا يَحيى به، وأمَّا طريقُ إسماعيلَ عن مالكٍ فسيأتي في كلامِ الدَّاني، وقال البُخاريُّ في بابِ مَنْ تصدَّق على وكيلِه ثُمَّ ردَّ وكيلُه عليه: وقال إسماعيلُ: أخبرني عبدُ العزيزِ بنُ أبي سَلَمةَ، عن إسحاقَ بنِ عبدِ الله قال: ولا أعلمُهُ إلَّا عن أنسٍ ولفْظُه فيه: ((قَبِلْنَاهُ مِنْكَ)) إلى آخِرِ ما أسلفْناهُ قبْلُ، وزَعَمَ أبو مسعودٍ وخَلَفٌ أَنَّهُ إسماعيلُ بن جعفرٍ، والصَّوَابُ _كما قال المِزِّيُّ_ أَنَّهُ ابنُ أبي أُويسٍ، وحديثُ أبي سعيدٍ أخرجهُ مسلمٌ أيضًا وقال مِثْلَ حديثِ ابنِ عمرَ.
          إذا تقرَّرَ ذَلِكَ فالكلامُ على ذَلِكَ مِنْ أوجهٍ:
          أَحَدُهَا: هذِه الأحاديثُ لا دِلالةَ فيها على ما ترجمَ عليه، أو يحتمل أَنَّ المرادَ بالصَّدقةِ التَّطوُّعُ كما ستعلمُه، لا جَرَم اعترضَ الإسماعيليُّ حيثُ قال: هذا الحديثُ في قصَّةِ أبي طلحةَ ليسَ مِن الزَّكَاةِ في شيءٍ وَإِنَّمَا هو الصَّدقةُ بحديقَةٍ، فإنْ أرادَ البُخاريُّ الاستدلالَ على أَنَّ الأقاربَ في الزَّكَاةِ أحقُّ بها إذْ رَأَى النَّبِيُّ صلعم ما ليس بزكاةٍ مِن صدقةٍ صَرْفُها إلى الأقاربِ أفضلُ فذلك حينئذٍ له وجهٌ. قال: ولا أعرف أحدًا منهم إلَّا قال: (رَابِحٌ) بالباء، وقال ابن قَعْنَبٍ بالشَّكِّ، ولم أذكُرْهُ.
          ثانيها: تحصَّل في (بَيْرُحَاءَ) عَشَرةُ أَوْجُهٍ: فتْحُ الباءِ وكَسْرُها وتثليثُ الرَّاء، إِلَّا أنَّ الكسْرَ مع الجرِّ، وبالجيمِ والحاءِ، والمدِّ والقصْرِ، وبَرِيحا وبِأَرِيحَاءَ، قال عِياضٌ وغيرُهُ: روايةُ المغاربةِ بضم الرَّاءِ وفَتْحِها في النَّصْبِ وكسرِها في الجرِّ مع الإضافةِ أبدًا وحَاءٌ على حالِها، وذكرَ الباجيُّ عن أبي ذرٍّ إِنَّمَا هي بفتْحِ الرَّاءِ على كلِّ حالٍ، قال الباجيُّ: وعليه أدركتُ أهلَ الحفظِ والعلْمِ بالمشرقِ.
          وقال أبو عبد الله الصُّوْريُّ: إِنَّمَا هو بفتْحِ الباءِ والرَّاءِ عل كلِّ حالٍ، ومَن رَفَع الرَّاءِ وألزمِها حُكْمَ الإعرابِ أخطأَ. قال القاضي: وبالرَّفْعِ قرأناه على شيوخِنا بالأندلُسِ، قال: وعلى روايتِهم عن أبي جعفرٍ في مسلمٍ بكَسْرِ الباءِ وفتْحِ الرَّاء والقَصْرِ. وفي «الموطَّأ» عن ابن عَتَّابٍ وغيرِه بضمِّ الرَّاءِ وفتْحِها معًا عن الأَصيليِّ.
          وهو موضعٌ بقُرْبِ المسجدِ يُعرَفُ بقصْرِ بني جَدِيلةَ كما ذكره البخاريُّ في موضعٍ آخَرَ [خ¦2758] ورواه مسلمٌ مِنْ طريق حمَّاد بن سَلَمَة: بَرِيحَا، وروايةُ الرَّاوي في مسلمٍ مِن حديثِ مالكِ بنِ أنسٍ: بَرِيحا وَهَمٌ، وإِنَّمَا هذا في حديثِ حمَّادٍ. وقال ابنُ الجوزيِّ: أكثرُ المحدِّثِينَ يرْوُونَهُ بالجيمِ والصَّوَابُ بالحاءِ المهمَلةِ. وقال المنذريُّ: هو بضمِّ الرَّاء في الرَّفْعِ والنَّصْبِ وكسرِها في الجرِّ، مع الإضافةِ إلى (حَاءَ) أبدًا. وقيلَ: بفتْحِها في كلِّ حالٍ. وقال القُرْطُبيُّ: بكسْرِ الباءِ وفتحِ الرَّاءِ وضمِّهَا، وبمدِّ (حَاءَ) وقصْرِها لُغتانِ.
          وفي «سُنن أبي داود»: ((بِأَرِيحَاءَ)) وهذا يدلُّ على أنَّها ليست بِبِئْرٍ. وقال ابنُ التِّينِ: قيل: (حَاءَ) اسمُ امرأةٍ، وقيل اسمُ موضِعٍ، وهو ممدودٌ ويجوزُ قصرُهُ. وفي «المنتهى» أَنَّهُ اسمُ رجلٍ، قال ابنُ التِّين: والرِّوَايةُ أَنَّهُ مبنيٌّ غيرُ مضافٍ بالقصْرِ، وبناؤه في ضبْطِهم على الفتْحِ، وقال الزَّمَخْشَريُّ: هي فَيْعَلَى مِن البَرَاحِ، وهي الأرضُ الظَّاهرةُ المنكشفةُ.
          وفي «معجم أبي عُبيد»: حاءٌ _على لفظ الهجاءِ_ موضعٌ بالشَّام، وحاءٌ آخَرُ موضعٌ بالمدينة، وهو الَّذي يُنسَبُ إليهِ بِيرُ حَاءٍ، وبعضُ الرُّواةِ يَرويه ((بَيْرُحَا)) جَعَلَهُ اسمًا واحدًا والصَّحيحُ ما قدَّمْتُه، وروايةُ حمَّادِ بنِ سَلَمَة عن ثابت: ((أَريِحَاء)) خرَّجه أبو داودَ، / ولا أعلم أَرِيحَا إِلَّا بالشَّامِ، قُلْتُ: أخرجَ ابن خُزيمةَ في «صحيحه» مِن حديثِ أنسٍ: يا رسول الله ليسَ لي أرضٌ أحبُّ إليَّ مِنْ أرضِ أَرِيحَا، فقال ◙: ((أَرِيحَا خيرٌ رابِحٌ _أو خيرٌ رايِح_)) شكَّ الشَّيْخُ.
          قال البَكْريُّ: وفي الحديثِ لَمَّا قال حسَّان:
أمسى الجِلابُ وقد عزُّوا وقد كَثُرُوا                     وابنُ الفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ البَلَدِ
          اعترضهُ صفوانُ بنُ المعطَّلِ فضرَبَهُ بالسَّيفِ، فقال صلعم لحسَّان: ((أحسِنْ في الَّذي أصابَك)) قال: هي لكَ يا رسُولَ الله، فأعطاهُ النَّبيُّ صلعم بَيْرُحا قصرَ بني جَدِيلةَ اليوم، كانتْ لأبي طلحةَ فتصدَّق بها إلى رسولِ الله صلعم، وأعطاه سِيرين، ويجوزُ أَنَّ حسَّانَ لَمَّا ضربَهُ صفوانُ تصدَّق أبو طَلحةَ بتلكَ الصَّدقةِ في تلكَ الأيَّامِ فأشار صلعم بما أشار، فاعتقدَ الرَّاوي أنَّ ذَاكَ كان لأجْلِ تلك الضَّربةِ.
          وقال بعضُهم: سُمِّيت (بَيْرُحَاءَ) بزجْرِ الإبلِ عنها، وذلك أَنَّ الإبلَ يُقال لها إذا زُجرتْ وقد رَوِيتْ: حاحا، وقال بعضُهم: بَيْرُحَاء مِنَ البَرْحِ والياءُ زائدةٌ، جمعَ ابنُ الأثيرِ لغاتِهِ فقال: هي بفتْحِ الباءِ وكسْرِها وبفتْحِ الرَّاءِ وضمِّهَا، والمدِّ فيهما، وبفتحِهما والقصْرِ، قال: وهو اسمُ مالٍ، موضعٌ بالمدينةِ.
          ثالثُها: قوله: (بَخ) هو بسكونِ الخاءِ وبتنوينِها مكسورةً، قال عِياض: وبالكسْرِ بلا تنوينٍ، ورُوِيَ بالرَّفْعِ دونَ تنوينٍ وبالضَّمِّ مع التَّنوينِ والتَّخفيف. وعن الخطَّابيِّ: الاختيارُ إذا كُرِّرَتْ تنوينُ الأُولى وتسكينُ الثَّانية، وهكذا هو في كلِّ كلامٍ مبنيٍّ كقولِهم: صهٍ صهْ وطابٍ طابْ ونحوِهما.
          ومعناها تعظيمُ الأمرِ وتفخيمُه، وعبارةُ ابنِ بطَّالٍ: هي كلمةُ إعجابٍ، وعبارةُ ابنِ التِّين: تقولُها العربُ عندَ المدحِ والمَحْمَدةِ، وكلُّهُ متقاربٌ، وعبارةُ القزَّازِ: هي كلمةٌ يقولها المفتخرُ عندَ ذِكْرِ الشَّيءِ العظيمِ، وتخفِّفُها العربُ فتُلحِقُها بالرُّباعيِّ. وقال صاحب «الواعي»: عن الأحمرِ في (بَخ) أربعُ لغاتٍ: الجزمُ والخفضُ والتَّشديدُ والتَّخفيفُ، وحكاها عنه ابنُ بطَّالٍ بعدَ أن قال: وقد تُخفَّفُ وتثقَّلُ.
          رابعُها: قولُه: (ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ) أي ذو رِبحٍ، وقيل: فاعلٌ بمعنى مفعولٍ أي مالٌ مربوحٌ فيه كقولِه: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16] ومَنْ رواهُ بالمثنَّاةِ تحتُ فمعناهُ يروحُ عليه أجرُهُ كلَّما أُطْعِمت الثِّمارُ، قاله ابنُ بطَّالٍ، قال: والرَّايح القريبُ المسافةِ الَّذي يروحُ خيرُه ولا يَغرُبُ نفعُه، وقيل: معناهُ قريبٌ يروحُ خيرُه ليس بغارِبٍ، وذلكَ أَنْفَسُ الأموالِ. وقيل: يروحُ بالأجرِ ويغدو به. واكتفى بالرَّواح عن الغُدُوِّ لعِلْمِ السَّامعِ.
          وقال صاحبُ «المطالع»: (رَابِحٌ) بباءٍ موحَّدَةٍ، أي ذو رِبحٍ أو رابحٌ به، ورُوِيَ بالياءِ المثنَّاةِ تحتُ مِنَ الرَّواحِ عليه بالأجرِ على الدَّوام ما بقِيَتْ أصولُه، وقال القاضي: هي روايةُ يَحيى بنِ يحيى وجماعةٍ، والأُولى روايةُ أبي مصعبٍ وغيرِه، وقال صاحبُ «المطالع»: بل الَّذي رُوِّيناهُ ليَحيى بالباءِ المفردةِ، وهو ما في مسلمٍ، قُلْتُ: يَحيى الَّذي أشار إليهِ هو اللَّيثيُّ المغربيُّ، ويَحيى في البُخاريِّ هو النَّيْسَابُوريُّ، قال الدَّاني في «أطرافِه»: في روايةِ يَحيى الأندلُسِيِّ بالباء الموحَّدَةِ، وتابعه رَوْح بن عُبادة وغيرُه، وقال يَحيى بن يحيى النَّيْسابُوريُّ وإسماعيل وابن وَهْب وغيرهم: ((رائح)) بالهمز مِنَ الرَّواح، وشكَّ القَعْنَبيُّ فيه كما سَلَفَ، وقال الإسماعيليُّ: مَنْ قالَهُ بالياء فقد صحَّف.
          خامسُها: في فوائدِهِ:
          الأُولى: حُبُّ الرَّجُلِ الصَّالحِ المالَ، وقال أبو بكرٍ لعائشةَ: ما أحدٌ أحبَّ إليَّ غنًى منكِ ولا أعزَّ عليَّ فقرًا منكِ. وإيثارُ حُبِّ بعضه.
          الثَّانيةُ: دخولُ الشَّارعِ حوائطَ أصحابِه ويشرب مِنْ مائِها، وهو مِنْ قولِه تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] وهم وأموالُهم فداءٌ له، ففيه إباحةُ دخولِ أَجِنَّةِ الإخوانِ والشُّربِ مِنْ مائها والأكلِ مِنْ ثمارِها بغيرِ إذنِهم إذا عَلِمَ أنَّ أنفُسَ أصحابِها تطيبُ بذلك وكان ممَّا لا يُتشاحُّ فيه.
          الثَّالثةُ: تفويضُ الصَّدقةِ إلى الشَّارعِ.
          الرَّابعةُ: إشارةُ الشَّارعِ لِما هو أفضلُ.
          الخامسةُ: فضلُ الكفافِ على ما سواهُ لأَنَّهُ أمسَكَ بعضَ مالِه.
          السَّادسةُ: اعتبارُهم بالقرآنِ واتِّباعُهم لما فيه.
          السَّابعةُ: صحَّةُ الوقفِ وإن لم يُذكر سبيلُه ومصارفُ دخلِه، وهو ما بوَّبَ عليه البُخاريُّ في الوصايا [خ¦2752] وسيأتي الكلامُ فيه هناك إن شاء اللهُ تعالى.
          الثَّامنةُ: إعطاءُ الواحدِ مِن الصَّدقةِ فوقَ مِئَتَيْ درهمٍ لأَنَّ هذا الحائطَ مشهورٌ أَمْرُهُ أنَّ دَخْلَهُ يزيدُ عليه زيادةً كثيرةً، وقد جعلَهُ أبو طلحةَ بينَ نفْسَينِ كما سَلَفَ، وسواءٌ صدقةُ الفرضِ ونفلُها في مقدارِ ما يجوزُ إعطاؤه المتصدَّقَ عليه، قاله الخطَّابيُّ، يريدُ إذا نُذِرتْ صدقةٌ، وإلَّا لو ابتدأَ الصَّدقةَ بها على أقارِبِه لَمَا كان حكمُها حُكْمَ المفروضةِ.
          التَّاسعةُ: {الْبِرَّ} في الآيةِ الجنَّةُ، قالَهُ ابنُ مسعودٍ، والتَّقديرُ على هذا: ثوابُ البِرِّ، وقيل: العملُ الصَّالحُ، والمرادُ بِـ {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} حَتَّى تتصدَّقُوا، ورُوي أنَّ عمرَ كتبَ إلى أبي موسى الأَشعريِّ أن يشتريَ جاريةً حين فُتحتْ مدائنُ كسرَى فاشتراها ووجَّه بها إليه، فلمَّا رآها أُعجِبَ بها وأعتقَها وقرأَ الآيةَ، قال مجاهد: وهو مِثلُ قولِه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] وذُكِر عن ابنِ عمرَ أَنَّهُ كان يُنفِذُ إِلَى مصرَ فيأتيهِ السُّكَّرُ فيتصدَّقُ به، ويقولُ: إني أحبُّهُ، ويتلُو هذِه الآيةَ.
          العاشرةُ: معنى (أَرْجُو بِرَّهَا) أي ثوابَ بِرِّها (وَذُخْرَهَا) أي أُقَدِّمُه فأدَّخرُه لأجدَه هناك.
          الحاديةَ عشرةَ: أَنَّ الصَّدقةَ إذا كانت جَزْلَةً مُدِحَ صاحبُها بها وغُبِطَ، لقولِه ◙: (بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ) فسلَّاهُ بما ينالُه مِن رِبْحِ الآخرةِ، وما عوَّضهُ اللهُ فيها عمَّا عجَّلَهُ في الدُّنيا الفانيةِ.
          الثَّانيةَ عشرةَ: أنَّ ما فوَّتَهُ الرَّجلُ مِنْ صميمِ مالِه وغبيطِ عقارِه عن ورثتِه بالصَّدقةِ يُستحبُّ له أن يردَّه إلى أقاربِه غيرِ الورثةِ لئلَّا يَفقِدَ أهلُه نفْعَ ما خوَّلَهُ الرَّبُّ جلَّ جلالُهُ، وفي القرآنِ ما يؤيِّدُه، قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إلى قولِه: {فَارْزُقُوهُم مِنْهُ} [النساء:8] فثبتَ بهذا المعنى أَنَّ الصَّدقةَ على الأقاربِ / وضُعفاءِ الأَهْلينَ أفضلُ منها على سائرِ النَّاسِ إذا كانتْ صدقةَ تطوُّعٍ، ودلَّ على ذَلِكَ حديثُ زينبَ امرأةِ ابنِ مسعودٍ، وقولُهُ صلعم: ((لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)) وقال لميمونة حينَ أعتقَتْ جاريةً لها: ((أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ)) ذَكَرَهُ البُخاريُّ في الهبة كما سيأتي [خ¦2592].
          واستَعمل الفقهاءُ الصَّدقةَ في غيرِ الأقاربِ لئلَّا يصرفُوها فيما يجري بين الأهلينَ مِن الحقوقِ والصِّلاتِ والمرافقِ؛ لِأَنَّهُم إذا جعلوا الصَّدقةَ الفريضةَ في هذا المعتادِ بين الأهلين فكأنَّهُم لم يُخرجوها مِنْ أموالِهم لانتفاعهِم بها وتوفيرِ تلك الصِّلَاتِ بها، فإذا زال هذا المعنى جازت الزَّكَاةُ للأقاربِ الَّذِين لا يلزمُهُ نفقتُهم، وقد تقدَّمَ اختلافُ العلماءِ في الزَّكَاةِ على الأقاربِ في بابِ إذا تصدَّق على ابنِه وهو لا يشعُرُ فراجِعْهُ.
          ولم يختلف العلماءُ _كما قال ابنُ بطَّالٍ_ أَنَّ قولَهُ: (فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) أَنَّهُم أقاربُ أبي طلحةَ لا أقاربُه ◙، وقد روى ذَلِكَ الثِّقاتُ، ثُمَّ ساق بإسنادِه ذلكَ إلى أنسٍ، وهو في البُخاريِّ كما أسلفناه.
          الثَّالثةَ عشرةَ: فيه استعمالُ عمومِ اللَّفظِ، ألا ترى إلى فهمِ الصَّحَابَةِ لذلك؟ وأَنَّهُم يتوقَّفون حتَّى يتبيَّنَ لهم بآيةٍ أُخرى أو بِسُنَّةٍ مبيِّنَةٍ لمرادِ اللهِ تعالى في الشَّيْءِ الَّذِي يجب أن ينفِقَهُ عبادُه لأَنَّهُم يُحبُّونَ أشياءَ كثيرةً فبَدَرَ كلُّ واحدٍ منهم إلى نفقةِ أحبِّ أموالِه إليهِ، فتصدَّق أبو طلحةَ بحائطِهِ وكذلك فعلَ زيدُ بن حارثة.
          ورُوي عن ابن عُيَينة عن ابن المُنْكَدِر قال: لَمَّا نزلتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران:92] قال زيد: اللَّهم إنَّك تعلم أَنَّهُ ليس لي مالٌ أحبُّ إليَّ مِنْ فَرَسِي هذِهِ، وكان له فرسٌ فجاء به إلى رسولِ الله صلعم فقال: هذا في سبيل الله، فقال لأسامةَ بن زيدٍ: ((اقبِضْها منه)) فكأنَّ زيدًا وَجدَ في نفْسِهِ مِن ذَلِكَ، فقالَ رسول الله صلعم: ((إِنَّ الله قد قَبِلَها منك)).
          وفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ابنُ عمرَ، رُوي أَنَّهُ كانت له جاريةٌ جميلةٌ كان يحبُّها فأعتقَها لهذِهِ الآية، ثُمَّ اتَّبَعَتْها نفسُه فأراد تزويجَها فمنعَهُ بنوهُ، فكان بعد ذَلِكَ يُقَرِّبَ بنِيها مِن غيرِه لمكانِها في نفْسِه، ورَوَى الثَّوريُّ أَنَّ أمَّ ولدِ الرَّبيعِ قالت: كان إذا جاءنا السَّائلُ يقول: يا فلانةُ أعطي السَّائلَ سُكَّرًا فإنَّ الرَّبيعَ يُحبُّهُ، قال سفيان: يتأوَّلُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
          الرَّابعةَ عشرةَ: فيه مِن معاني الصَّدقاتِ والهِباتِ كما سيأتي في موضِعِه إن شاءَ اللهُ تعالى.
          الخامسةَ عشرةَ: في حديثِ أبي سعيدٍ: (تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ) يعني أكثَرَ مِن الرِّجَالِ (وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ) أي الزَّوْجَ، وقد سَلَفَ تفسيرُه. ونُقصانُ عقولِهنَّ أَنَّهُنَّ لا يَذْكُرْنَ عندَ الغضَبِ ما أُسدِيَ إليهِنَّ مِن الخيرِ، ودينِهِنَّ مضى، واللُّبُّ العقلُ، يعني أنَّهنَّ إذا أردْنَ شيئًا غَالَبْنَ عليهِ والْتَوَيْنَ حتَّى يفعلَهُ الرِّجَالُ صوابًا كان أو خطأً.
          السَّادسةَ عشرةَ: (زَيْنَبُ) هذِه زعمَ الطَّحَاويُّ أَنَّهُا رائطةُ، قال: ولا نعلمُ عبدَ الله تزوَّجَ غيرَها في زَمَنِهِ ◙، وقال الكَلَاباذيُّ: رائطةُ هي المعروفة بزينبَ، وقال ابنُ طاهرٍ وغيرُهُ: امرأةُ ابنِ مسعودٍ زينبُ، ويُقال اسمُها رائطةُ، وكذا رواه أبو يوسُفَ القاضي في كتابِ «الزَّكَاة» مصرِّحًا بهِ، وأَمَّا ابنُ سعدٍ والعسكريُّ والطَّبَرانيُّ والبَيْهَقيُّ وابنُ عبد البرِّ وأبو نُعَيمٍ وابنُ مَنْدَهْ وأبو حاتم بن حبَّان فجعلوهما ثِنتينِ، والله أعلم.
          السَّابعةَ عشرةَ: قولُه: فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ...) إلى آخرِه ظاهرُهُ سماعُهَا مِن رسولِ الله صلعم، وقد وَرَدَ مصرَّحًا في البزَّارِ: فقالَ لها النَّبِيُّ صلعم لَمَّا دخلت عليه: ((صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ...)) الحديث، قال ابنُ القطَّان عقِبَها: تبيَّنَ أَنَّ زينبَ سمعتْهُ مِنْ رسُولِ الله صلعم، ولكنْ لا ندري ممَّن تلقَّى ذَلِكَ أبو سعيدٍ؟ وفي «صحيحِ ابنِ خُزيمةَ» مِن حديثِ أبي سعيدٍ المَقْبُريِّ عن أبي هُريرةَ: ((تصدَّقِي عليه وعلى بنيهِ فإِنَّهُم لهُ موضِعٌ)).
          الثَّامنةَ عشرةَ: استئذانُ النِّسَاءِ على الرَّجُلِ وهو مع أهلِه، وسُؤالُه قَبْلَ الإذنِ عمَّن يستأذِنُ، وأَنَّهُ إذا لم يُنسَبْ إليه مَن يستأذِنُ سَأَلَ أَنْ يُنسَبَ. و(الزَّيَانِبِ) جمعُ زينبَ.
          التَّاسعةَ عشرةَ: فيه اتَّخاذُ الحُلِيِّ، وفي التِّرمِذيِّ مِن حديثِ ابنِ لَهِيعَةَ عن عمرِو بن شُعيبٍ عن أبيهِ عن جَدِّهِ عن النَّبِيِّ صلعم أَنّهُ رأى في الحُلِيِّ زكاةً، وفي إسنادِه مَقالٌ، ولا يصِحُّ في هذا البابِ شيءٌ عن رسولِ الله صلعم، وقال بعضُ الصَّحَابةِ _ابنُ عمر وجابرٌ وعائشةُ وأنسٌ_ ليسَ في الحُلِيِّ زكاةٌ، وبه يقولُ الشَّافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ، قُلتُ: وأسماءُ وعبدُ الله بن يزيدَ كما ذكرَهُ أحمدُ.
          وحديثُ أمِّ سَلَمَة أَنَّهَا كانت تلبَسُ أوضاحًا مِنْ ذهبٍ فسألتْ رسولَ الله صلعم: أَكَنْزٌ هو؟ قالَ: ((لا إذا أدَّيتِ زكاتَه فليسَ بكنْزٍ)) حديثٌ حسنٌ، وصحَّحَهُ الحاكمُ على شرطِ الشَّيخَيْنِ، وعن عائشَة مِثْلُه وقال: صحيحٌ على شرطِهِما، وَقد سَلَفَتِ المسألةُ.
          العشرونَ: فتوى العالمِ مع وجودِ أعلمَ منهُ، وأَرادت التثبُّتَ مع قولِ ابنِ مسعودٍ ممَّن هو أعلمُ منهُ.
          الحاديةُ بعدَ العشرين: قولُه صلعم لها: (زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ) قال ابنُ التِّينِ: لم يَخُصَّ فرضًا مِن تطوُّعٍ، قال ابنُ أبي ذِئبٍ وسفيانُ وأهلُ المشرِقِ: تُعطي المرأةُ زوجَها الفقيرَ مِن زكاتِها، وقال ابنُ حَبيبٍ عن مالكٍ: لا يُجزئُها، وقال أشهبُ: إنْ صَرَفَ ذَلِكَ في منافعِها لم يجزِئْها وإِلَّا أجزَأَها، وبه قال ابنُ حَبيب.
          الثَّانيةُ بعدَ العشرين: قال أبو عُبيدٍ في تفسيرِ هذا الحديثِ في قولِها: (فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ) أُراهم أولادَ ابنِ مسعودٍ مِن غيرِها لأَنَّهُم أجمعوا أَنَّ المرأةَ لا تُعطي صدقتَها بنِيها، والَّذِي زعمَ أَنَّهُ إجماعٌ ليسَ كذلكَ كما قال ابنُ التِّين لأَنَّ مالكًا ومَن اقتدى به يقولون: مَنْ لا تَلزم نفقتُهُ إن أُعطِي مِن الصَّدقة أجزأَ.
          والأُمُّ لا يلزمُها نفقةُ الولدِ، ويَرِدُ عليه أيضًا قولُه ◙: (زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ...) إلى آخرِه، وخاطَبَها بذلكَ فدلَّ على أنَّهُم ولدُها، / وكذلكَ في الحديثِ الآتي بعدَه: أيجزئ عَنِّي أَن أنفقَ على زوجي وأيتامٍ لي في حِجْري؟ وقال الإسماعيليُّ: حديثُ أبي سعيدٍ هذا فيه نظرٌ، فإنَّ في حديثِ زينبَ: وأيتامٌ في حِجْرِها؟ وفي بعضِ الحديثِ: وولدِ ابنِ مسعودٍ، كأنَّهُم مِن غيرِها.
          وفي الجملةِ لا يجوزُ صرفُ الزَّكَاةِ مِن سَهمِ الفقراءِ مِن الرَّجُلِ إلى ولدِه وهو يَعلمُ، فإِنْ كان معنى الخبرِ على ما رُوي: ((ما أنفقهُ المسلمُ فهو له صدقةٌ حتَّى اللُّقمة ترفعُها إلى فيكَ)) فهذا محتملٌ ويحتملُ أن تكونَ النَّفقةُ على أبي الصِّغار دونَ أنفُسِهم، فإذا كان الأبُ لا مالَ له يُنفِقُ عليهم كان للأُمِّ أن تتصدَّقَ عليه وعليهم، أو تُعطيَهُ ليُنفِقَ هو على نفسِه وعليهِم، يدلُّ على ذَلِكَ حديثُ أمِّ سَلَمَةَ مِن عند البُخاريِّ: ((أُنفِقَ على بني أبي سَلَمَةَ إِنَّمَا هم بَنِيَّ)) [خ¦1467] وفي «معجم الطَّبَرانيِّ»: ((أيجزِئُ أن أجعلَ صدقتي فيكَ وفي بني أخي أيتام؟)) الحديث، وفي روايةٍ: ((يا رسولَ الله هل لي مِنْ أجرٍ أنْ أتصدَّق على ولدِ عبدِ الله مِن غيرِي؟)) وإسنادُهما جيِّدٌ، وللبَيْهقيِّ: ((كُنتُ أُعُولُ عبدَ الله ويتامَى في حِجري)).
          وقالَ أبو طالبٍ: سُئل أبو عبدِ الله: أتعطي المرأةُ زوجَها مِن الزَّكَاةِ؟ قال: لا أحبُّ أن تعطيَه، قيل له: فامرأةُ ابنِ مسعودٍ أليس أمَرَها النَّبِيُّ صلعم أن تعطيَه؟! قال: ذاك صدقةٌ ليس مِن الزَّكَاةِ، ثُمَّ حسبْتُه _إن شاء الله_ قالَ: لم يروِه إِلَّا إبراهيمُ النَّخَعيُّ مِن الزَّكَاةِ، وفي موضعٍ آخَرَ قال: وقد قال بعضُ النَّاس فيه ((مِن الزَّكَاة)) وما هو عندي بمحفوظٍ.
          قال ابن المنذِر: أجمع أهلُ العلمِ على أَنَّهُ لا يجوزُ لأحدٍ دفْعُ الزَّكَاة إلى أبيه وجدِّه وإنْ علا، ولا إلى ولدِه وولدِ ولدِه وإنْ سَفَلَ، ومَن سِواهم يجوز دفعُها إليهم وهو أَفْضَلُ، وأجمعوا أَنَّهُ لا يُعطي زوجتَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، ولا تدفعُ المرأةُ لزوجِها عندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، وقد أسلفْنا قولَ أحمدَ.
          وقال الشَّافعيُّ وأبو يوسُفَ ومحمَّدٌ وأشهبُ وأبو ثورٍ وأبو عبيدٍ وابنُ المنذرِ وابنُ حزمٍ: يجوزُ، محتجِّينَ بحديثِ زينبَ، وبما رواهُ الجَوْزَجانيُّ عن عطاءٍ قال: أتتْ رسولَ الله صلعم امرأةٌ فقالتْ: يا رسولَ الله إِنَّ عليَّ نذرًا أن أتصدَّقَ عشرين درهمًا، وإنَّ لي زوجًا فقيرًا أفيجزئ عنِّي أن أعطيَه؟ قال: ((نعم، لكِ كِفلانِ مِنَ الأجرِ)).
          وحديثُ زينبَ في التَّطوُّعِ لقولِها: وعندي حُلِيٌّ لي فأردتُ أن أتصدَّقَ به، ولا تجبُ الصَّدقةُ في الحُلِيِّ عندَ بعضِ العلماء، ومَنْ يُجيزه لا يكونُ الحُلِيُّ كلُّهُ زكاةً إِنَّمَا يجب جزءٌ منه، وقال صلعم: (زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ عَلَيْهِمْ) والولدُ لا تُدفع إليهِ الزَّكَاةُ إجماعًا. انتهى كلامُه.
          وقد أسلفْنَا كلامَ ابنِ التِّينِ عن مالكٍ وأنَّ الأمَّ لا يَلزمُها نفقةُ الولدِ، أي لقولِه تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] وقد جاء أَنَّهُم أولادُه مِن غيرِها فنَسَبَتْهم إليها مجازًا لأَنَّهُم في مُؤنتِها، واحتجَّ مَن جوَّز ذَلِكَ بأنَّهُ داخلٌ في جملةِ الفقراءِ الَّذِين تَحِلُّ لهم الصَّدقةُ، ولأَنَّ كلَّ مَن لا يلزمُ الإنسانَ نفقتُهُ جائزٌ أن يضعَ فيهِ الزَّكَاةَ، والمرأةُ لا تلزمُها النَّفقةُ على زوجِها ولا على بنيهِ.
          الثَّالثةُ بعدَ العشرين: فيه اتِّخاذُ البساتينِ والعَقارِ، قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: وفيه ردٌّ لما يُروَى عن ابنِ مسعودٍ أَنَّهُ قال: لا تتَّخذوا الضَّيعةَ فترغبوا في الدُّنيا، قال: ولا خلافَ أنَّ كَسْبَ العَقارِ مباحٌ إذا كان حلالًا ولم يكن بِسَبَبِ ذلٍّ ولا صَغارٍح فإنَّ ابنَ عمر كَرِهَ كَسْبَ أرضِ الخراجِ ولم يرَ شراءَها وقال: لا تجعلْ في عُنُقِكَ صَغارًا.
          الرَّابعةُ بعدَ العشرين: إباحةُ استعذابِ الماء وتفضيلِ بعضِه على بعضٍ لقولِه: (وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ).
          الخامسةُ بعدَ العشرين: فيه دِلالةٌ للمذهبِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يجوزُ أن يُقال: إنَّ الله جلَّ جلاله يقولُ، كما يُقال: إنَّ الله تعالى قالَ، خلافًا لما قالَهُ مطرِّف بن عبدِ الله بن الشِّخِّيرِ إذْ قالَ: لا يُقال: اللهُ تعالى يقولُ، إِنَّمَا يُقالُ: قال، أو الله ╡ قالَ، كأَنَّهُ ينحُو إلى استئنافِ القولِ، وقولُ الله تعالى قديمٌ، وكأَنَّهُ ذَهِلَ عن قولِه: {وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4].
          السَّادسةُ بعدَ العشرين: قولُه: (ضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ) فيه مشاورةُ أهلِ العلمِ والفضلِ في كيفيَّةِ وجوهِ الطَّاعاتِ وغيرِها، والإنفاقُ مِنَ المحبوبِ.
          السَّابعةُ بعدَ العشرين: قولُهُ: (وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ) بوَّبَ عليه البُخاريُّ في الوكالة باب إذا قال الرَّجُل لوكيلِهِ ضعْهُ حيثُ أراكَ اللهُ وقال الوكيلُ قد سمعتُ [خ¦2318] قال المهَلَّبُ: دلَّ على قَبولِه صلعم ما جَعَلَ إِلَيْهِ أبو طَلحةَ، ثُمَّ ردَّ الوضعَ فيها إلى أبي طَلحةَ بعْدَ مشورتِه عليه فيمَن يضعُها. وفيه أنَّ الوَكالة لا تتمُّ إِلَّا بالقَبول، وقد ذكرَ إسماعيلُ القاضي في «مبسوطِه» عن القَعْنَبيِّ بسندِهِ سواء.
          وفيه أَنَّهُ صلعم قسَّمَهَا في أقاربِهِ وبني عمِّهِ، يعني أقاربَ أبي طلحةَ لا خلافَ في ذَلِكَ، قال أبو عمرَ: وهو المحفوظُ عندَ العلماءِ، وأضافَ القَسْم في ذَلِكَ إلى الشَّارعِ لأَنَّهُ الآمرُ به.
          الثَّامنةُ بعدَ العشرين: قولُه: (أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ) ضَبَطَهُ ابنُ التِّين في غيرِ هذا الباب بِضَمِّ اللَّام، قال: وهو فِعْلٌ مستَقْبَلٌ مرفوعٌ، ويُحتمل كما قال النَّووي أَنْ يكون: اِفعلْ أنتَ ذاك فقد أمضيتُهُ على ما قُلْتَ، فجعلَهُ أمرًا. واختلفَ الفقهاءُ إذا قال الرَّجُل لآخَرَ: خذْ هذا المالَ فاجعلْهُ حيثُ أراكَ اللُه مِن وجوهِ الخيرِ، قال مالكٌ في «المدوَّنَة»: لا يأخُذُ منه شيئًا وإن كان فقيرًا، وقال آخرونَ: يأخُذُ منه كنصيبِ أَحَدِ الفقراءِ، وقال آخَرونَ: جائزٌ لهُ أن يأخذَهُ كلَّهُ إذا كان فقيرًا.