التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع

          ░34▒ بَابٌ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ.
          وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم مِثْلُهُ.
          1450- ثُمَّ ذَكَر حديثَ الأَنْصَارِيِّ عَن أَبِيهِ، عَنْ ثُمامَة، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ).
          الشَّرح: المعلَّق أوَّلًا أسندَه التِّرمِذيُّ محسِّنًا لهُ، قال: وعليه عامَّةُ العلماءِ وقال في «عِلَلِه»: سألتُ محمَّدًا عن حديثِ سَالمٍ عن أَبيهِ: ((كَتَبَ رَسُولُ الله صلعم كتابَ الصَّدَقة)) فقال: أَرْجُو أَن يكونَ محفوظًا، وَسُفيانُ بن حُسين صدوقٌ. وقال الدَّاودي: إِنَّهُ حديثٌ ثابت. وقد أسلفنا الكلام فيهِ.
          وقالَ الحاكم: إِنَّهُ حديثٌ كبيرٌ في هذا البابِ يشهدُ لكثيرٍ مِنَ الأحكامِ الَّتِي في حديثِ ثُمَامةَ إِلَّا أَنَّ الشَّيخينِ لم يُخْرِجا لسُفيانَ بنِ حُسينٍ وهو أحدُ أئمَّةِ الحديثِ وثَّقه يحيى بن مَعين وغيرُهُ، ويُصحِّحهُ على شرطِ الشَّيخينِ حديثُ الزُّهريِّ _وإِنْ كان فيه أدنى إرسالٍ_ أَنَّهُ شاهدٌ صحيحٌ لحديثِ سُفيَان بن حسين. قال: وممَّا يشهدُ لهُ بالصِّحَّةِ حديثُ عمْرِو بنِ حَزمٍ وحديثُ عمرَ مثلُهُ.
          وقال ابنُ جريرٍ في «تهذيبِه»: حديثُ سفيانَ بن حُسين أصلحُ هذِه الأحاديثِ إسنادًا إِذْ لا خبرَ منها إِلَّا وفيهِ مَقالٌ لقائلٍ، وفي البَابِ عن عليٍّ وسُوَيدِ بنِ غَفَلة وسعدِ بن أبي وقَّاصٍ. وحديثُ أنسٍ سَلَفَ.
          وقولُهُ: (فَرَضَ) أي قدَّر، قالهُ الخطَّابيُّ لأَنَّ الإيجابَ قد بيَّنهُ الله، ويحتملُ _كما قاله ابنُ الجوزيِّ_ أَنْ يكونَ على بابِه بمعنى الأمْرِ، يُبيِّنُهُ قولُهُ في الرِّوَايَة السَّالِفَةِ: ((وهي الَّتي أمر الله رَسُولَهُ)).
          واختَلفَ العلماءُ في تأويلِ هذا الحديثِ فقالَ مالكٌ في «الموطَّأ»: تفسيرُهُ (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ) أَنْ يكونَ ثلاثةُ نفرٍ لكلِّ واحدٍ أربعونَ شاةً فإذا أظلَّهُمُ المُصَدِّقُ جمعوها لِيؤَدُّوا شاةً (وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ) أَنْ يكونَ لكلِّ واحدٍ مئةٌ وشاةٌ / فعليهما ثلاثُ شياهٍ، فيفرِّقُوها ليُؤَدُّوا شاتين، فنُهوا عن ذَلِكَ، وهو قولُ الثَّوريِّ والأَوزاعيِّ.
          وقال الشَّافعيُّ: تفسيرُهُ أَنْ يفرِّق السَّاعي الأوَّلَ ليأخُذَ مِنْ كلِّ واحدٍ شاةً، وفي الثَّاني ليأخُذَ ثَلاثًا، فالمعنى واحدٌ لكنْ صَرَفَ الخطابَ الشَّافعيُّ إِلَى السَّاعي كما حكاهُ عنهُ الدَّاوديُّ في كِتَابِ «الأَمْوَال» وصرَفهُ مالكٌ إلى المالِكِ، وهو قولُ أبي ثورٍ، وقال الخطَّابيُّ عن الشَّافعيِّ: إنَّهُ صَرَفَه إِلَيْهِمَا.
          قال ابنُ التِّين: وقولُ مالكٍ عندي أَولى لقولِه ◙: (خَشْيَةَ الصَّدَقَة) وصرْفُهُ إِلَى المالِكِ أَولَى، كذا قال والخَشيةُ خَشيتانِ خشيةُ السَّاعي قلَّةَ الصَّدَقةِ وخشيةُ المالِكِ كثرتَها، فأمَرَ كلَّ واحدٍ منهما أَلَّا يُحدِثَ في الأَمْوَالِ شيئًا.
          وقال أبُو حنيفة: معنى (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ) أَنْ يكونَ بينَ رجُلَينِ أربعون شاةً فإذا جَمَعَاهَا فشاةٌ وإنْ فرَّقاها فلا شيء، قالوا: ولو كانا شريكينِ متفاوضَيْنِ لَمْ يُجمَعْ بينَ أغنامِهما. قال: (وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ) أَن يكونَ لرجُلٍ مئةٌ وعشرونَ شاةً فإِنْ فرَّقَهَا المُصَدِّقُ أربعينَ أربعينَ فثلاثُ شياهٍ.
          وقال أبو يوسُفَ: معنى الأوَّلِ أَنْ يكونَ للرَّجُلِ ثمانونَ شاةً، فإذا جاءَ المُصَدِّق قالَ: هي بينِي وإخْوَتِي لكلِّ واحدٍ منَّا عشرونَ فَلا زَكَاةَ. أَو يكونَ لهُ أربعونَ ولِأَخَوَيْهِ أربعون فيقولُ: كلُّها لي فشاةٌ، فهذِهِ خشيَةُ الصَّدقةِ لأَنَّ الَّذِي يُؤخَذُ منه يَخشى الصَّدَقَة، قال: ويكونُ وجهٌ آخرُ أَن يَجِيءَ المُصَدِّقُ إِلَى ثلاثةِ إِخوةٍ لواحِدٍ عشرون ومئةُ شاةٍ، فيقولُ: هذِه بينَكُم لكُلِّ واحدٍ أربعونَ فأَنا آخَذُ ثلاثًا، أو يكونَ لهم جميعًا أربعونَ فلا زكاة فيقولَ: هذِه لواحدٍ منكم فشاةٌ.
          وقال أبو حنيفةَ وأصحابُهُ: الخُلطاءُ في الزَّكَاةِ كغيرِ الخُلطاءِ لا يجبُ على كلِّ واحدٍ منهم فيما يملك إِلَّا مثلُ الَّذِي يجبُ عليه لو لم يكنْ خليطًا كالذَّهَبِ والفضَّةِ والزَّرعِ، ولا يغيِّرُ سُنَّةَ الزَّكَاةِ خلْطُ أربابِ المواشي بعضَها ببعضٍ.
          وهذا التَّأويلُ _كما قالَ ابنُ جَريرٍ_ تسقُطُ معه فائدةُ الحديثِ لأَنَّ نهيَهُ أَن يُجمَعَ بين متفرِّقٍ وعكسِه إِنَمَّا أرادَ بهِ لا يَجمَعَ أربابُ المواشي ولا المُصَدِّقُ بينَ المواشي المفتَرِقَةِ بافتراقِ الأوقاتِ، ولا يُفرَّق بينَ المواشي المجتمعةِ بخلْطِ أربابِها بينَها، وأراد صلعم إِقرارَ الأموالِ المختلِطَةِ والمُفرَّقَةِ على ما كانتْ عليه قبلَ لُحوقِ السَّاعي، ولا يُتحيَّلُ بإسقاطِ صدقةٍ بتفريقٍ ولا جمعٍ، ولو كان تفريقُها مثلَ جمعِها في الحكم ما أفاد ذَلكَ فائدةً ولا نَهَى عنه، وإِنَّمَا نهى عن أمرٍ لو فَعَلهُ كانت فيه فائدةٌ قَبْلَ النَّهيِ عنه، ولولا أنَّ ذَلِكَ معناه لَمَا كان لِتَراجُعِ الخليطينِ بالسَّوِيَّةِ بينهما معنًى معقولٌ لأَنَّهُمَا إِذا كانا يُصدِّقانِ وهما خليطانِ صدقةَ الْمُفرَدَينِ لم يجب لأَحدِهما قِبَلَ صاحبِه بسببِ ما أخذ فيه مِنَ الصَّدقة تِبَاعَةٌ فلا يجوزُ أَنْ يخاطِب أُمَّتَه خطابًا لا يفيدُهم. وفي أَمْرِه صلعم الخليطينِ بالتَّراجُعِ بينَهما بالسَّوِيَّة _كما سيأتي_ صحَّةُ القولِ بأنَّ صدقةَ الخلطاءِ صدقةُ الواحدِ، ولولا ذَلِكَ ما انتفَعَا بالخُلْطةِ، والتَّراجعُ مقتضاهُ مِن اثنينِ وهذا لا يجيءُ على مذهبِه بوجهٍ.
          وعند الشَّافعيِّ للخُلطةِ شُروطٌ محلُّ الخَوضِ فيها كتبُ الفروعِ، وكذا عندَ المالكيَّة، وفي الدَّارقُطْنيِّ مِنْ حديث سعدِ بن أبي وقَّاصٍ مرفوعًا: ((لا يُفرَّق بين مجتمعٍ ولا يُجمَع بين مفْترِقٍ والخليطان ما اجتمعا في الحوضِ والفحلِ والرَّاعي)) وفيه ابنُ لَهِيعةَ وحالتُهُ معروفةٌ.