التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المنان بما أعطى

          ░19▒ بَابُ المَنَّانِ بِمَا أَعْطَى.
          لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} الآية [البقرة:262].
          هَذِهِ الآية نزلتْ _فِيمَا ذَكَرَهُ الواحديُّ عن الكلبيِّ_ في عثمانَ وعبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عوفٍ: جاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ إِلى رَسُولِ اللهِ صلعم بأربعةِ آلافِ درهمٍ نصفِ مالِه، وقال عثمانُ: عَلَيَّ جِهازُ مَن لا جِهاز له في غزوةِ تَبوك، فجهَّزَ المسلمينَ بألْفِ بعيرٍ بأَقْتَابِها وأَحْلاسِها، فنزلتْ فيهما هذِه الآيةُ.
          وَقال ابنُ بطَّالٍ: ذَكَرَ أهلُ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا نزلتْ في الَّذِي يُعطِي مالَهُ المجاهدَ في سبيلِ الله معونةً لهم على جهادِ العدوِّ، ثُمَّ يمنُّ عليهم بأَنَّهُ قد صنعَ إِلَيْهِمْ معروفًا إِمَّا بلسانٍ أو بفعلٍ. والأذى أَن يقولَ لهم أن يقوموا بالواجبِ عليهم في الجِهَادِ وشِبْهُ ذلك مِنَ القولِ.
          ومنْ أخرج شيئًا لله لم ينبغِ له أن يَمُنَّ به على أحدٍ لأَنَّ ثوابَهُ على الله، وفي مسلمٍ مِن حديثِ أبي ذرٍ: ((ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله يوم القيامة: المنَّانُ الَّذِي لا يُعطِي شيئًا إِلَا مَنَّهُ، والمنفِقُ سِلعتَهُ بالحلفِ، والمسبِلُ إزارَه)) وفي البابِ أيضًا عن ابنِ مسعودٍ وأبي هُريرةَ وأبي أُمامة بن ثعلبة وعِمرانَ بنِ حُصينٍ ومَعْقِلِ بن يسارٍ، ولا شكَّ أَنَّ الامتنانَ بالعطاءِ يُحْبِطُ أجْرَ الصَّدقةِ، قال _تعالى_: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264].
          قال القُرْطبيُّ: ولا يكونُ المنُّ غالبًا إِلَّا مِنَ البُخْلِ والكِبْرِ والعُجْبِ ونسيانِ مِنَّةِ الله تعالى فيما أنعمَ عليه، فالبخيلُ تَعظُمُ في نفْسِه العَطيَّةُ وإن كانت حقيرةً في نفْسِها، والعُجبُ يَحمِلُه على النَّظَرِ لنفْسِه بعينِ العظَمَةِ وأَنَّهُ مُنعِمٌ بمالِه على المعطَى، والكِبْرُ يحملُه على أن يَحْقِرَ المعطَى لهُ وإِنْ كانَ في نفْسِهِ فاضلًا، ومُوجِبُ ذلكَ كُلِّهُ الجهلُ ونسيانُ مِنَّةِ الله تعالى فيما أنعمَ به عليهِ، ولو نظرَ مصيرَه لَعَلِمَ أَنَّ المنَّةَ للآخِذِ لما يُزيلُ عن المعطِي مِن إِثْمِ المنْعِ وذمِّ المانِعِ ولِمَا يحصلُ له مِن الأجرِ الجزِيلِ والثَّنَاءِ الجميلِ.
          وقيلَ: المنَّانُ في حديثِ أبي ذرٍّ مِنَ المنِّ وهو القطعُ كَمَا قال تَعَالَى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8] أي غيرُ منقطعٍ، فيكون معناه البخيلُ بقَطْعِهِ عطاءَ ما يجبُ عليه للمستَحِقِّ كما جاء في حديثٍ آخَرَ: ((البخيلُ المنَّانُ)) فنعَتَهُ بهِ والأَوَّلُ أظهرُ.