التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من تصدق في الشرك ثم أسلم

          ░24▒ بَابُ مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ.
          1436- ذَكَرَ فيه حديثَ حَكِيم بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ).
          الشَّرح: قالَ «صاحب المطالع»: رواهُ المَرْوَزيُّ: <أتَحَنَّتُ> بتاءٍ مثنَّاةٍ وهو غلطٌ مِنْ جهةِ المعنى دونَ الرِّوَايةِ، والوهَمُ قِبَلَ شيوخ البخاريِّ بدليلِ قولِهِ في بابِ مَنْ وصل رَحِمه: ويُقال أيضًا عن أبي اليمان: أتحنَّثُ أو أتحنَّتُ على الشَّكِّ، والصَّحِيحُ الَّذِي رواهُ الكافَّةُ بثاءٍ مثلَّثَةٍ، وعن عِياضٍ: بالتَّاء المثنَّاةِ غَلَطٌ مِن جهةِ المعنى، ويحتمل أنْ يكون معناه الحانوتُ لأنَّ العربَ كانتْ تُسمِّي بُيوتَ الخمَّارينَ الحوانيتَ، يعني كنتُ أتجنَّبُ حوانيتَهم، وقال ابنُ التِّينِ: (أَتَحَنَّثُ) أي أتقرَّبُ إِلَى اللهِ، وأصلُهُ اطِّراحُ الحِنْثِ عن النَّفْسِ كما تقول: يتأثَّمُ أي يُلْقِي الإثمَ عن نفْسِهِ وكذلك يتحرَّجُ.
          وقولُه: (عَتَاقَةٍ) وذلك أَنَّهُ أعتقَ مئةَ رقَبَةٍ في الجاهليَّةِ، وحَمَلَ على مئةِ بعيرٍ، وفي روايةٍ: قال: يا رَسُولَ اللهِ لا أَدَعُ شيئًا صنعْتُهُ في الجاهليَّةِ إِلَّا فعلْتُ في الإسلامِ مثلَهُ، ففعل ذلك.
          وقولُه: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ) قال المازَريُّ: ظاهرُه خلافُ ما تقتضيهِ الأُصولُ لأَنَّ الكافرَ لا تَصِحُّ منهُ قُربةٌ فيكون مُثَابًا على طاعاتِهِ، ويَصِحُّ أَنْ يكونَ مطيعًا غيرَ متقرِّبٍ كنظيرِه في الإيمانِ، فإِنَّهُ مطيعٌ مِنْ حيثُ كان موافقًا للأمْرِ، والطَّاعةُ عندَنا موافَقَةُ الأمْرِ، لكنَّهُ لا يكونُ متقرِّبًا لأنَّ مِن شَرْطِ التَّقرُّبِ أَنْ يكونَ عارفًا بالمتقرَّب إِلَيْهِ، وهو في حينَ كفْرِه لم يحصُلْ له العلمُ باللهِ بَعْدُ، فَإِذَا قَرَّرْتَ هذا عُلِمَ أنَّ الحديثَ متأَوَّلٌ وهو محتمِلٌ وجوهًا:
          أحدُها: أَنْ يكونَ المعنى أَنَّكَ اكتسبتَ طِباعًا جميلةً وأنتَ تنتَفِعُ بتلْكَ الطِّبَاعِ في الإسلامِ، وتكونُ تلكَ العادةُ تمهيدًا لكَ ومعونةً على فِعْلِ الخيرِ والطَّاعاتِ.
          ثانيها: معناه اكتسبْتَ بذلكَ شيئًا جميلًا، فهو باقٍ عليك في الإسلامِ ويكثُرُ أَجْرهُ لِمَا تقدَّمَ لكَ مِن الأفعالِ الجَمِيلةِ، وقد تأوَّلُوا في الكافرِ أَنَّهُ إِذَا كان يفعلُ الخيرَ فَإنَّهُ يُخفَّف عنه به ولا يَبْعُدُ أَن يُزادَ هذا في الأُجورِ. وَقال عِياضٌ: ببركةِ ما سبقَ لك مِن خيرٍ هداكَ اللهُ إلى الإسلامِ، فَإِنَّ مَن ظهَرَ فيه خيرٌ في أوَّلِ أمْرِهِ فهو دليلٌ على سعادةِ أُخراهُ وحُسْنِ عاقِبَتِه.
          وزعمَ ابنُ بطَّالٍ وغيرُه أَنَّهُ على ظاهرِهِ وَأَنَّهُ إِذَا أسلمَ الكافرُ وماتَ على إسلامِه يُثابُ على ما فَعَلَهُ مِن الخيرِ في حالةِ الكُفْرِ، وقال عن بعضِ أهلِ العلمِ: معنى الحديثِ أَنَّ كلَّ مشركٍ أسلمَ أَنَّهُ يُكتبُ له كلُّ خيرٍ عَمِلهُ قَبْلَ إِسلامِه ولا يُكتَبُ عليه شيءٌ مِن سيِّئاتِه لأَنَّ الإسلامَ يهدِمُ ما قَبْلَهُ مِنَ الشِّركِ، وإِنَّمَا كُتِبَ له الخيرُ لأَنَّهُ أراد به وجهَ اللهِ لأَنَّهُم كانوا مقرِّينَ باللهِ تعالى إِلَّا أَنَّهُم كان عملُهم مردودًا عليهم لو ماتوا على شركِهِم، فلمَّا أسلمُوا تفضَّل اللهُ عليهم فكتبَ لهم الحسناتِ ومحا عنهم السَّيِّئاتِ كما قالَ صلعم: ((ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أجرَهم مَرَّتَيْنِ)) أحدُهم: رجلٌ مِنْ أهلِ الكتابِ آمن بنبيِّهِ وآمن بنبيِّنا.
          وممَّا يدلُّ على ذلكَ حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ السَّالفُ في بابِ حُسْنِ إسلامِ المرءِ مِنْ كتابِ الإيمانِ معلَّقًا عن مالكٍ عن زيدِ بن أَسْلَمَ عن عطاءِ بنِ يسارٍ عنه [خ¦41] ورواهُ عبدُ الله بنُ وهبٍ عن مالكٍ به، وذكرَهُ الدَّارَقُطْنيُّ في غريبِ حديثِ مالكٍ مِنْ تسعِ طُرُقٍ، وثبتَ فيها كلِّها أنَّ الكافرَ إذا حَسُنَ إسلامُه كُتِبَ له في الإسلامِ كلُّ حسنةٍ عمِلَها في الشِّرْكِ، ولعلَّ حكيمًا لو ماتَ على جاهلِيَّتِه أَنْ يكونَ ممَّن يُخَفَّفُ عنه مِنْ عذابِ النَّارِ كما جاء في أبي طالبٍ وأبي لهبٍ بعَتَاقَتِه ثُوَيْبَةَ.
          قُلْتُ: لا يُقاس، وقيل إِنَّهُ صلعم وَرَّى عن جوابِه، فإنَّهُ سألَهُ: هلْ لي فيها أَجْرٌ؟ يريدُ ثوابَ الآخرةِ ومعلومٌ نفيُه عنهُ فقالَ له ذلكَ، والعِتقُ فِعْلُ خَيْرٍ، فأراد إِنَّكَ فَعَلْتَ خيرًا والخيرُ يُمدَحُ فاعِلُه، وقد يُجازَى عليه في الدُّنيا، حكاه ابنُ الجَوزيِّ، وفي مسلمٍ مِنْ حديثِ أنسٍ: ((أمَّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بحسنَاتِهِ في الدُّنيا، فإذا لقِيَ اللهَ لم يكن له حسنةٌ)).
          ورُوي أنَّ حسناتِ الكافِرِ إذا أسلمَ محسوبةٌ له مقبولةٌ، فإنْ ماتَ على كُفْرِه كانتْ هَدَرًا، ذكره الخَطَّابيُّ، قال ابنُ الجَوزيِّ: فإنْ صحَّ هذا كان المعنى أسلمْتَ على قَبولِ ما سَلَفَ لكَ مِنْ خيرٍ. قلتُ: ومرادُ الفقهاءِ لا يصحُّ مِنَ الكافرِ عبادةٌ ولو أسلمَ لَمْ يعتدَّ بها المرادُ في أحكامِ الدُّنيا وليسَ فيه تعرُّضٌ لثوابِ الآخرةِ، وإنْ أقدمَ قائلٌ على التَّصريحِ بأنَّهُ إذا أسلمَ لا يُثابُ عليها في الآخِرةِ رُدَّ قولُه بهذِهِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.
          وقد يُعتدُّ ببعضِ أفعالِ الكفَّارِ في أحكامِ الدُّنيا فقد قالَ الفقهاءُ: إذا وجبَ على الكافرِ كفَّارةُ ظِهارٍ أو غيرُها فكفَّرَ في حال كُفْرِهِ أجزأه ذلكَ، وإذا أَسلمَ لم يجِبْ عليه إعادتُها، وسيأتي إن شاء الله في كتابِ العِتْقِ اختلافُ أهلِ العلمِ في عِتْقِ المشركِ.
          واختَلف أصحابُنا فيمَن أجنَبَ ثُمَّ اغتسلَ ثُمَّ أَسلمَ هل يجبُ عليه إعادةُ الغُسلِ أم لا؟ وبالَغَ بعضُهم فقالَ: يصحُّ مِنْ كلِّ كافرٍ كلُّ طهارةٍ مِن غُسلٍ ووُضوءٍ وتيمُّمٍ فإذا أَسلمَ صلَّى بها. وقال القُرطُبيُّ: الإسلامُ إذا حَسُنَ هَدَمَ ما قَبْلَهُ مِنَ الآثامِ وأَحرزَ ما قبلَهُ مِن البرِّ. وقال الحربيُّ: معنى الحديثِ ما تقدَّمَ لكَ / مِن الخيرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هو لكَ، كَمَا تقولُ: أسلمتُ على ألْفِ درهمٍ على أن أحوزَها لِنَفْسِي، قال القُرطُبيُّ: وهذا الَّذي قاله الحربيُّ هو أشبَهُهَا وأَوْلَاها.
          فرعٌ: طلَّقَ امرأتَهُ أو أعتقَ عبدَه ولم يَبِنْ عن يَدِه فلا يلزمُه ذلكَ في المشهورِ مِنْ مذهبِ مالكٍ، وقال المغيرة: يلزمهُ، فإِنْ حَلَفَ بذلكَ وهو نَصرانيٌّ ثم أسلمَ فحَنِثَ قال مالكٌ: لا يلزمُه، وقال أشهب: نعم، ورُدَّ هذا بقولِه: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38].