التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه

          ░17▒ بَابُ مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ.
          قَالَ أَبَوْ مَوْسَى عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ).
          1425- وذَكَرَ فِيهِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عائِشَةَ قالتْ: قال رَسُولُ اللهِ صلعم: (إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا).
          أَمَّا التَّعليقُ فيأتِي مسنَدًا قريبًا [خ¦1438] وحديثُ عائشةَ أخرجه مسلمٌ والأربعة، ولَمَّا رواه التِّرمِذيُّ مِن حديثِ أبي وائلٍ عن عائشةَ وحسَّنَهُ قال: حديثُ أبي وائلٍ عن مسروقٍ أصحُّ فإِنَّهُ لا يَذكُرُ في حديثِه عن مسروقٍ، وقالَ الدَّارقُطنيُّ: رُوِيَ مِن حديثِ أبي وائلٍ الأسود وهو وهمٌ والصَّحيحُ عن أبي وائلٍ عن عائشةَ.
          إِذَا تَقَرَّرَ ذلكَ فكأَنَّ البُخاريَّ أرادَ بالتَّرجمةِ معارَضةَ ما رَوَى ابنُ أبي شَيبةَ عن وكيعٍ عن موسى بن عُبيدةَ عن عبَّاسِ بن عبد الرَّحمن المدنيِّ قال: خَصلتانِ لم يكُنِ النَّبيُّ صلعم يَكِلُهُما إلى أحدٍ مِن أهلِه: كان يُناولُ المسكينَ بيدِهِ ويضعُ الطَّهورَ لنَفْسِه، وكان الحسينُ يفعلُه. ورَوَى الجُوزِيُّ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: كان النَّبيُّ صلعم لا يَكِلُ طَهورَه ولا صدقتَه الَّتي يتصدَّقُ بها إلى أحدٍ، يكونُ هو الَّذي يتولَّاهُما بنفْسِه، وفيه: كان ابنُ أمِّ مكتومٍ إذا تصدَّقَ قامَ بنفْسِه. والتَّرجمةُ تُتَّخذ مِن قولِه في الحديثِ: (وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ) والمرادُ الخادمُ كما ستعلمُه لأَنَّ الخادمَ لا يجوزُ أن يتصدَّقَ مِن مالِ مولاهُ إلَّا بإذنِه.
          وقولُه: (أَحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ) هو بالتَّثنيةِ، ذَكَرَ القُرطُبيُّ أَنَّهُ لم يُروَ إلَّا بالتَّثنيةِ، ومعناهُ أَنَّهُ بما فَعَلَ متصدِّقٌ، والَّذِي أخرجَ الصَّدقةَ بما أخرجَ متصدِّقٌ آخَرُ فهما متصدِّقانِ، ويصحُّ أن يُقالَ على الجمعِ ويكونُ معناهُ أَنَّهُ متصدِّقٌ مِن جُملةِ المتصدِّقِينَ، وبنحوهِ ذكرَهُ ابنُ التِّين وغيرُه.
          وفي البابِ أحاديث في إنفاقِ المرأةِ والمملوكِ منها حديثُ أبي هريرة الآتي في البيوعِ: / ((إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ)) [خ¦2066] وفي أبي داودَ بإسنادٍ جيِّدٍ مِن حديثِ سعدٍ: لَمَّا بَايَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم النِّسَاءَ قالتِ امْرَأَةٌ: يا رسُولَ اللهِ إِنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائنَا وأزواجِنا فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَقالَ: ((الرَّطْبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ)) قال أَبُو دَاوُدَ: الرَّطْبُ الخُبْزُ وَالْبَقْلُ وَالرُّطَبُ. قال ابنُ المدينيِّ: سعدٌ ليسَ بابنِ أبي وقَّاصٍ فهو مرسلٌ، قلتُ: بل هو، كما ذكرهُ البزَّارُ وغيرُه.
          وفي مسلمٍ مِنْ حديثِ عُمَيرٍ مولى آبي اللَّحْمِ: أتصدَّقُ يا رسولَ الله مِنْ مالِ مولايَ؟ قال: ((نعم، والأجرُ بينكُمَا نصْفَان)) وللتِّرمِذيِّ مِنْ حديثِ أبي أُمامة الباهليِّ: سمعتُ رسولَ الله صلعم في خُطبتِه عامَ حَجَّةِ الوداعِ: ((لا تنفق امرأةٌ شيئًا مِنْ بيتِ زوجِها)) قيل: يا رسولَ اللهِ ولا الطَّعام؟ قال: ((ذلك أفضلُ أموالِنا)).
          ولأبي داودَ مِن حديثِ أبي هُريرة في المرأةِ تصَّدَّقُ مِن بيتِ زوجِها قال: لا إلَّا مِن قُوتِها، ثُمَّ قال: هذا يضعِّف روايةَ أبي هُريرة. وقال الشَّعبيُّ لمملوكٍ سألهُ يكَسِبُ ويتصدَّقُ: الأجرُ لمواليكَ، وقال إبراهيم: لا بأسَ أن يتصدَّقَ العبدُ مِن الفضْلِ. وقال الحسن: يتصدَّقُ مِن قُوْتِه بالشَّيءِ الَّذي لا يُضِرُّ بهِ. وَقال ابن جُبيرٍ: يتصدَّقُ بثلاثةِ دراهمَ أو أربعةٍ. وقال ابنُ المسيَّب: يتصدَّقُ مِن مالِه بالصَّاعِ وشِبْهِه. وقال إبراهيمُ: بما دونَ الدِّرهمِ. وقال عمرُ وعليٌّ: بالدِّرهم، زاد عمرُ: والرَّغِيفِ، وعن الشَّعبيِّ وخَيْثَمة: لا يتصدَّق بما فوقَ الدِّرهمِ.
          واختلفَ النَّاسُ في تأويلِ هذا الحديثِ على قولينِ كما قال ابنُ العربيِّ، فمنهم مَن قال: إِنَّهُ في اليسيرِ الَّذي لا يؤبَهُ إلى نُقصانِه ولا يَظهَرُ، ومنهم مَنْ قال: إِذَا أذِنَ فيه الزَّوْجُ، وهو اختيارُ البُخاريِّ. قال: ويحتملُ أن يكونَ محمولًا على العادةِ يوضِّحُه قولُه: ((بِطِيبِ نَفْسٍ)) و(غَيْرَ مُفْسِدَةٍ) وهو محمولٌ على اليسيرِ الَّذِي لا يُجحِفُ به، فإِنْ زادَ على المتعارَفِ لم يَجُزْ، وذَكَرَ الطَّعامَ لأَنَّهُ يُسمح به في العادةِ بخلافِ الدَّراهمِ والدَّنانيرِ في حقِّ أكثر النَّاسِ.
          وزعم بعضُهم أنَّ المرادَ بنفَقَةِ المرأةِ والعبدِ والخازنِ النَّفقةُ على عيالِ صاحبِ المالِ وغِلمانِه ومصالحِه، وكذا صدقتُهم المأذونُ فيها عُرفًا أو تصريحًا، وقال بعضُهم: هذا على طريقةِ أهل الحجاز وما جانَسَهُم، وذلك أنَّ ربَّ البيتِ قد يأذنُ في مِثْلِ ذلكَ وتَطيبُ به نفْسُه، وليس ذلك بأَن تَفْتَاتَ المرأةُ والخازنُ على ربِّ البيتِ، وفرَّقَ بعضُهم بين الزَّوجةِ والخادِمِ بأَنَّ الزَّوْجةَ لها حقٌّ في مالِ الزَّوجِ ولها النَّظرُ في بيتِها فجاز لها أن تتصدَّقَ ما لم يكن إسرافًا، وأَمَّا الخادمُ فليس له تصرُّفٌ في متاعِ مولاهُ ولا حُكمٌ فيُشترَطُ الإِذنُ فيه دونَ الزَّوجةِ.
          وجزم ابنُ التِّين بأَنَّ قولَه: (غَيْرَ مُفْسِدَةٍ) يريدُ فعلَتْ ما يلزمُ الزَّوجَ مِن نفقةِ عيالٍ وإعطاءِ سائلٍ على ما جرتْ به العادةُ أو صِلَةِ رحمٍ أو مواساةِ مضطرٍّ، فهذِهِ لها أجرُها بما صرفَتْ عنه مِن شُحِّ النَّفْسِ.
          وقولُهُ: (وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ) يريدُ الخادِمَ إذا كانَ طيِّبَ النَّفْسِ، وقيل: معناهُ إذا فَعَلَ مِثْلَ المرأةِ كان له مِثْلُ أجرِها، ويُبَيِّنُه حديثُ أبي موسى الآتي: ((طَيِّبٌ بِهِ نَفْسَهُ)) [خ¦1438] ونَفَّذَ ما أمَرَهُ به كاملًا مُوفَّرًا، وعليه يدلُّ تبويبُ البُخاريِّ أَخَذَهُ مِن قولِه: (وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ) لأنَّ الخازنَ لا يجوزُ لَهُ أَنْ يتصدَّقَ إِلَّا بِإِذنِ مولاهُ بخلافِ الزَّوجةِ على قَوْلِ مَنْ أباحَ لها ذلكَ؛ لأَنَّ الخازِنَ إِنَّمَا هُوَ أمينٌ فَقَطْ.
          ثُمَّ ظاهِرُ الخبَرِ أَنَّ أَجرَ الجميعِ متساوٍ، وقال بعضُهم: لا يَعلمُ مقدارَ أجرِ كلِّ واحدٍ منهم إِلَّا اللهُ غيرَ أَنَّ الأظهرَ أَنَّ الكاسبَ أكثرُ أجرًا كما قاله ابنُ بطَّالٍ، وقد أسلفْنا مِن حديثِ أبي هُريرةَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ أجْرِه، وقال بعضُهم: النِّصفُ مَجازٌ وهما سواءٌ في المثُوبَةِ لكُلٍّ منهما أجرٌ كاملٌ، ويحتملُ أَنَّهُمَا مِثْلَانِ فأشبَه الشَّيْءَ المنقسمَ بنصفينِ.
          ثُمَّ اعلمْ أَنَّ البُخاريَّ ترجمَ على هذا الحديثِ تراجم: تَرْجَمَ عليه ما نحنُ فيه، وترجم عليه باب أجر الخادم إذا تصدَّقَ بأمْرِ صاحبِه غيرَ مُفسِدٍ، وزاد فيه حديثَ أبي مُوسى كما ستعلمُه، وترجَمَ عليه إِثْرَهُ باب أجْرَ المرأَةِ إذا تصدَّقَتْ أو أطعمَتْ مِن بيتِ زوجِها غيرَ مُفسِدةٍ، وساقَهُ عن عائشةَ مِن طُرُقٍ.
          وهو مِن بابِ المعاونة الَّتي أَمَرَ بها الرَّبُّ جلَّ جلالُه حيثُ قالَ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وهي دالَّةٌ على اشتراكِ المتعاونِينَ على الخيرِ في الأجرِ وجاءَ هذا المعنى في هذِهِ الأحاديثِ، إِلَّا أَنَّهُ لا يجوزُ لأحدٍ أن يتصدَّقَ مِن مالِ أحدٍ بغيرِ إذنِهِ لكنْ لَمَّا كانت امرأةُ الرَّجُلِ لها حقٌّ في مالِهِ كان لها النَّظَرُ في بيتِها جازَ لها الصَّدَقَةُ بما لا يكونُ إضاعةً للمالِ ولا إسرافًا لكنْ بمقدارِ العرفِ والعادةِ وما تَعْلَمُ أَنَّهُ لا يؤلِمُ زوجَها وتطيبُ به نفْسُه، فأَخبَرَ أَنَّها تُؤجَرُ على ذلكَ ويُؤجَر زَوْجُهَا بما كَسَبَ ويُؤجَر الخادمُ الممسكُ كذلك هو والخازن المذكورُ في الحديثِ كما سَلَفَ، إِلَّا أَنَّ مقدارَ أجْرِ كلِّ واحدٍ منهم متفاوتٌ كَمَا سَلَفَ.