التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {وفى الرقاب} {وفى سبيل الله}

          ░49▒ بَابُ: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{وَفِي الرِّقَابِ} {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:60].
          وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ. وَقال الْحَسَنُ: إِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ جَازَ، وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلَا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}الآية[التوبة:60] فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ. وَقال النَّبِيُّ صلعم: (إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ). وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لَاسٍ الخُزَاعِيِّ: (حَمَلَنَا النَّبِيُّ صلعم عَلَى إِبِلِ الصَّدقَةِ لِلْحَجِّ).
          1468- ثُمَّ ذَكَرَ حديثَ أبي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: (أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابنُ جَمِيلٍ) الحديث.
          تَابَعَهُ ابنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، وَقال ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: (هِيَ عَلَيهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) وَقَالَ ابْنُ جُرَيجٍ: حُدِّثْتُ عَنِ الأَعْرَجِ مِثْلَهُ.
          الشَّرح: أَثَرُ ابن عبَّاسٍ المعلَّق أسندَهُ ابنُ أبي شَيبةَ عن أبي جعفرٍ عن الأَعمشِ عن حسَّانَ عن مجاهدٍ عنهُ أَنَّهُ كان لا يَرَى بأسًا أنْ يعطيَ الرَّجُلُ مِنْ زكاتَه في الحَجِّ، وأن يُعْتِقَ النَّسمةَ منها، وفي «علل عبدِ الله بن أحمد» عن أبيهِ حدَّثَنَا أبو بكرِ بنُ عيَّاش حدَّثنا الأعمشُ عن ابنِ أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ قال ابنُ عبَّاسٍ: أعتِقْ مِنْ زكاتِكَ.
          وقال المَيمونيُّ: قيل لأبي عبدِ الله: يشتري الرَّجُلُ مِن زكاةِ مالِه الرِّقابَ فيُعتِقُ ويجعلُ في ابنِ السَّبيلِ؟ قال: نعم، ابنُ عبَّاسٍ يقولُ ذَلِكَ ولا أعلمُ شيئًا يدفعُهُ، وهو ظاهرُ الكتابِ، قال الخلَّال في «عللِه»: هذا قولُه الأوَّلُ، والعملُ على ما بيَّنَ عنه الجمَاعةُ في ضَعْفِ الحديثِ، أخبرنا أحمدُ بن هاشمٍ الأنطاكيُّ قال: قال أحمد: كنتُ أرى أن يُعتِقَ مِن الزَّكَاةِ ثُمَّ كَفَفْتُ عن ذَلِكَ لأَنَّي لم أرَ إسنادًا يصحُّ، قالَ حربٌ: فاحتُجَّ عليه بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ فقال: هو مضطربٌ.
          وأثرُ الحسن رَوَى ابنُ أبي شَيبة بعضَه عن حفصٍ عن أشعثَ بن سَوَّارٍ قال: سُئل الحسنُ عن رجلٍ اشترى أباه مِن الزَّكَاةِ فأعتقَه قال: اشترى خيرَ الرِّقاب.
          وتعليقُ حديثِ خالدٍ قد أسندَهُ في نفْسِ البابِ. وحديثُ أبي لاسٍ المعلَّقُ أخرجهُ الطَّبرانيُّ عن عُبيدِ بن غَنَّامٍ حدَّثَنا أبو بكر بن أبي شَيبة، وحدَّثنا أبو خليفةَ حدَّثنا ابنُ المَدينيِّ حدَّثَنا محمَّد بن عُبيدٍ الطَّنافِسيُّ حدَّثَنا محمَّد بن إسحاقَ عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث عن عمرَ بن الحَكم بن ثَوْبانَ عن أبي لاسٍ قال: حَمَلَنَا رسولُ الله صلعم على إبلٍ مِنْ إبِلِ الصَّدقةِ ضِعافٍ للحجِّ فقلنا: يا رسولَ الله ما نُرَى أَن تَحمِلَنا هذِه، فقال: ((ما مِنْ بعير إِلَّا وفي ذُروتِه شيطانٌ، فإذا ركبتموها فاذكروا نعمةَ الله عليكم كما أمركم الله ثُمَّ امتهِنُوها لأنفسكم فَإِنَّمَا يحمِلُ اللهُ)) وعزاه ابنُ المنذِر إلى روايةِ ابنِ إسحاقَ كما سقناه وتوقَّف في ثبوتِه كما سيأتي.
          فائدةٌ: أبو لاسٍ هذا خُزاعيُّ ويُقال حارثيٌّ، عبدُ الله بن غَنَمَةَ، وقيل: محمَّد بن الأسوَدِ، قالهُ أبو القاسم، وقيل زِيادٌ، مدنيٌّ له صُحبةٌ وحَدِيثٌ، له حديثانِ وليس لهم أبو لاسٍ غيرُه فهو فَرْدٌ، وهو بالمهمَلةِ. /
          وحديثُ أبي هريرة أخرجهُ مسلمٌ أيضًا، ومتابعةُ ابنِ أبي الزِّنَاد وابنِ إسحاق خرَّجهما الدَّارَقُطْنيُّ.
          وقولُه: (وَأَعْبُدَهُ) بالباءِ، والصَّحِيحُ كما قال عبدُ الحقِّ بالمثنَّاةٍ فوقُ، ولمسلمٍ: ((أَعْتَادَهُ)).
          إذا تقرَّرَ ذَلِكَ فاختَلفَ العلماءُ في المرادِ بالرِّقابِ في الآيةِ أي ملاكها على قولين:
          أحدُهما: أنْ يشتريَ رقبةً سليمةً فيُعتِقَ، قاله ابنُ القاسم وأصبغُ.
          والثَّاني: المكاتَبون، قاله الشَّافعيُّ وابنُ وَهْب، وروى مطرِّفٌ عن مالكٍ: لا بأس أن يُعطِي زكاةً للمكاتَب ما يُتِمُّ به عِتْقَه، وعنه كراهةُ ذَلِكَ لأَنَّهُ عبدٌ ما بقِيَ عليه درهمٌ فربَّمَا عَجَز فصارَ عبدًا، وعلى الأوَّلِ الولاءُ للمسلمين، ويُشترطُ فيها الإسلامُ على المشهور، وفي إجزاء المَعيبةِ قولان، وفي المكاتَب والمدبَّر قولانِ، والمعتَقِ بعضُه.
          ثالثُها: إنْ كمُلَ عِتْقُه أجزأَ وإلا فلا، والمشهورُ لا يعطِي الأسيرَ لعدمِ الولاءِ، ولو اشترى بها وأعتقَ عن نفسِه لم يُجزِئْهُ على المشهور، وعلى الآخَر الولاءُ للمسلمين، وما قاله الشَّافعيُّ مروِيٌّ عن عليٍّ والنَّخَعيِّ وسعيدِ بن جُبَير والزُّهريِّ والثَّوريِّ وأبي حنيفةَ واللَّيثِ، وروايةُ ابنِ نافعٍ وابنِ القاسمٍ عن مالكٍ، قال ابن قُدامة: وإليه ذهب أحمدُ، وقد أسلفْنا الاختلافَ عنهُ.
          والأوَّلُ سَلَفَ عن ابن عبَّاسٍ، وبه قال إسحاقُ وأبو ثورٍ والحسنُ وروايةٌ عن أحمدَ سَلَفَتَ.
          احتجَّ الثاني بأنَّ كلَّ صنفٍ أعطاهم اللهُ الصَّدَقَةَ بلام التَّمليكِ، فكذا الرِّقابُ يجبُ أن يكونَ المرادُ به مَنْ يملِكُها، والعبدُ لا يَملِكُها، ولأَنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ الأصنافَ الثَّمانيةَ وجمَعَ بين كلِّ صِنفين متقارِبَين في المعنى، فجمَعَ بين الفقراءِ والمساكين، وجمعَ بين العاملين والمؤلَّفةِ قلوبُهم، لأَنَّهُما يُستعان بهما إِمَّا في جباية الصَّدقةِ وإِمَّا في معاونةِ المسلمين، وجمَعَ بين ابنِ السَّبيلِ وسبيلِ الله لتقاربِهما في المعنى وهو قطعُ المسافةِ، وجمعَ بين الرِّقابِ والغارمين، وأَخْذُ المكاتَبِ لغُرْمِ كتابتِه كأَخْذِ الغارمينَ للدُّيونِ.
          وفي الدَّارَقُطْنيِّ مِن حديثِ البَراءِ قال رجلٌ: يا رسولَ الله، دُلَّني على عملٍ يقرِّبني مِنَ الجَنَّة ويباعدُني مِنَ النَّار، قال: ((أَعْتِقِ النَّسَمةَ وفُكَّ الرَّقبةَ)) قال: يا رسُول الله، أَوَلَيسا واحدًا؟ قال: ((لا، عِتقُ النَّسمةِ أن ينفردَ بعِتْقها، وفكُّ الرَّقَبَة أن يُعين في ثمنِها)) وفي التِّرمِذيِّ عن أبي هُريرةَ مرفوعًا: ((ثلاثةٌ كلُّهم حقٌّ على الله عَونُه: الغازي في سبيلِ الله، والمكاتَبُ يريدُ الأداءَ، والنَّاكِحُ المتعفِّفُ)).
          احتُجَّ لمالكٍ بعمومِ {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] وإطلاقُها يقتضي عِتْقَ الرِّقابِ في كلِّ موضعٍ أَطْلَق ذِكْرَها مثل كفَّارةِ الظِّهارِ قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] وكذلك في اليمينِ، ولو أراد المكاتَبينَ لاكتفى بذكر الغارمينَ لأَنَّهُ غارمٌ، قالوا: وشراءُ العبدِ ابتداءً أَوْلى مِن المكاتَبِ لأَنَّ المكاتَب حصلَ له سببُ العِتْق بمكاتبَةِ سيِّدِهِ له، والعبدُ لم يحصُلْ له سببُ عِتْقٍ، قالوا: ولو أَعطيْنَا المكاتَبَ فإنْ تمَّ عتقُهُ كان الولاءُ لسيِّدِه فيحصُلُ له المالُ والولاءُ، وإذا اشتريْنا عبدًا فأعتقناهُ كان ولاؤُه للمسلمين فكان أَولى لظاهرِ الآيةِ، ولا نسلِّمُ لهم ما ذكروهُ.
          وقولُ الحسن: إنِ اشترَى أباه مِن الزَّكَاةِ جازِ. قال ابنُ التِّين: لم يقل به مالكٌ. وقال ابنُ بطَّال: ينبغي أن يجوزَ على أصلِ مالكٍ، لأَنَّهُ يُجيز عِتْقَ الرِّقابِ مِنَ الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ يكرهه لِمَا فيه مِن انتفاعِه بالثَّناءِ عليه بأنَّه ابنُ حُرٍّ، ولا يجوز عندَ أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ.
          وقولُه قَبْلَ ذَلِكَ عن ابنِ عبَّاسٍ: (وَيُعْطِي) قال به ابنُ عمرَ أيضًا وأحمدُ، وقال: معنى قولِه تعالى: {فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:60] الحجُّ، وقال مالكٌ والشَّافعيُّ وجمهورُ الفقهاء: هو الغزوُ والجهادُ، ودليلُهم أَنَّ هذا اللَّفظَ إِذا أُطلِقَ كان ظاهرُه الغزو، ولذلك قال تعالى: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:218] ولا خلافَ أَنَّ المراد به الغزو والجِّهاد، وقال: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصَّف:4] وقال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:218] وقيل: المرادُ به المجاهدونَ والحُجَّاجُ.
          وقال أبو يوسُفَ: هم منقطعُو الغُزاةِ، وقالَ محمَّد بن الحسن: فقراءُ الحاجِّ، كذا في «المبسوط» وغيرِه، وعندَ ابنِ المنذرِ قولُهما وقولُ أبي حنيفة أَنَّهُ الغازي، وحكى أبو ثورٍ عن أبي حنيفةَ أَنَّهُ الغازي دونَ الحاجِّ، وزعمَ ابنُ بطَّالٍ أيضًا أَنَّ هذا قولُ أَبي حنيفةَ ومالكٍ والشَّافعيِّ وإسحاقَ وأبي ثورٍ، قال: إِلَّا أنَّ أَبا حنيفةَ وأصحابَه قالوا: لا يُعطَى الغازي إِلَّا أن يكونَ محتاجًا، وقال مالكٌ والشَّافعيُّ: يُعطَى وإن كان غنيًّا. وقال محمَّدُ بنُ الحسنِ: مَن أوصى بثُلُثِ مالِه في سبيلِ الله، فللوصِيِّ أَنْ يجعلَهُ في الحاجِّ المنقطعِ به.
          واحتجُّوا بأنَّ رجلًا وقف ناقةً له في سبيلِ الله، فأرادتِ أمرأتُه أن تحجَّ وتركبَها، فسألتْ رسولَ الله صلعم فقال: ((اركبيها فإنَّ الحجَّ مِنْ سبيل الله)) فدلَّ أنَّ سُبُلَ اللهِ كلَّهَا داخلةٌ في عمومِ اللَّفظِ، رواهُ شُعبةُ عن إبراهيمَ بن مُهاجرٍ عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن قال: أَرسلَ مروانُ إلى أمِّ مَعْقِلٍ يسأَلُها عن هذا الحديثِ.
          وإلى هذا ذهبَ البُخاريُّ، وكذلك ذَكَر حديثَ أبي لاسٍ أنَّ النَّبِي صلعم حَمَلَهُم على إبلِ الصَّدقةِ للحجِّ، وتأوَّلَ قولَه: (إنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أَنَّهُ يجوز أن يدخُلَ فيه كلُّ سُبُلِ الله الحجُّ والجهَادُ وغيرُه، وذَكَر قولَ الحسَنِ السَّالفَ. وأغربُ ما رأيتُ أَنَّهُم طَلَبةُ العلمِ، حكاه شارحُ «الهداية» مِن الحَنفيَّةِ.
          وقال أبو عُبيدٍ: لا أعلم أحدًا أفتى أنْ تُصرَفَ الزَّكَاةُ إلى الحجِّ، وقال ابنُ المنذِر: لا يُعطَى منها في الحجِّ لأَنَّ الله تعالى قد بيَّنَ مَنْ يُعطاها إِلَّا أَنْ يثبُتَ حديثُ أبي لاسٍ، فإنْ ثبَتَ وجب القولُ به في مِثلِ ما جاء الحديثُ خاصَّةً.
          وأمَّا قولُ أبي حنيفةَ: لا يُعطَى الغازي مِنَ الزَّكَاةِ إِلَّا أن يكونَ محتاجًا، فهو خلافُ ظاهرِ الكتاب والسُّنَّةِ، فأمَّا الكتابُ فقولُه تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:60] فإذا غزا الغنيُّ فأُعطِيَ كان ذَلِكَ في سَبِيلِ اللهِ، وأمَّا السُّنَّةُ فرَوَى عبدُ الرَّزَّاق / عن مَعْمَر عن زيدِ بنِ أسلمَ عن عطاءِ بن يَسارٍ عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((لا تحلُّ الصَّدَقةُ لغنيٍّ إِلَّا لخمسةٍ: لعاملٍ عليها، أو لِغَازٍ في سبيلِ الله، أو غنيٍّ اشتراها بمالِه، أو فقيرٍ تُصدِّقَ عليه فأهدَى لغنيٍّ، أو غارمٍ)) وأخرجه أبو داودَ وابن ماجه والحاكمُ وقال: صحيحٌ على شرطِ الشَّيْخَيْنِ، ورواه أبو داودَ مرَّةً مُرسَلًا، ولأَنَّهُ يأخُذُ ذَلِكَ لحاجتنا إِلَيْهِ فجاز له أَخْذُها مع الغِنَى كالعاملِ.
          وقولُه: (فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ) كذا بخطِّ الدِّمْياطيِّ الألِفُ ملحقة، وذكرَهُ ابن التِّين بلفظ: (أَجْزَتْ) وقال: معناهُ قضتْ عنه، والمشهورُ في هذا جَزَأَ فعلٌ ثلاثيٌّ، فإذا كان رُباعيًّا هُمِزَ لغةُ بني تميم، وقيل جَزَأَ وأَجْزَأَ بمعنًى أي قَضَى مِثْلُ وَفَى وأَوْفى وقد سَلَفَ ذَلَكَ، ويتعلَّقُ بهذا مالكٌ وأبو حنيفةَ في الاقتصارِ على صنفٍ واحدٍ مِن الأصنافِ الثَّمانيةِ خِلافًا للشَّافعيِّ فإنَّه لا يُجزِئُ _مع وجودِ الأصنافِ_ الدَّفْعُ إلى بعضِهم.
          وأمَّا حديثُ أبي هريرة فالكلامُ عليه مِنْ أَوجُهٍ:
          أحدُها: المرادُ (بِالصَّدَقَةِ) الفرضُ، وأبعدَ مَن قالَ التَّطوُّعُ، وفي مسلمٍ: ((بَعثَ عمرَ على الصَّدقةِ)) وهو دالٌّ للأوَّلِ، وكذا قولُه (مَنَعَ) وهو قولُ الجمهور إذِ البعثُ إِنَّمَا يكون على الفَرْضِ.
          وادَّعى ابنُ القصَّارِ أَنَّ الأَلْيَقَ أن يكونَ في التَّطوُّعِ لأَنَّا لا نظنُّ بأحدٍ منهم مَنْعَ الواجبِ، فعُذْرُ خالدٍ أَنَّهُ لَمَّا أخرجَ أكثرَ مالِه حبْسًا في سبيلِ الله لم يحتمل التَّطوُّعَ، فعُذِرَ لذلك أو حُسِبَ له ذَلِكَ عِوَضًا عن الواجبِ وحَاصَّهُ بها، وابنُ جَميلٍ شحَّ في التَّطوُّعِ فَعَتبَ عليه الشَّارِعُ، وأخبَرَ عن العبَّاس أَنَّهُ سمحَ بما طُلِب منه ومثلَه معه، وأَنَّهُ ممَّا لا يمتنِعُ ممَّا حضَّهُ عليه رسُولُ الله صلعم بل يعدُّه كاللَّازم، وهو عجيبٌ منه ففي البَيْهقيِّ مِن حديثِ أبي البَخْتَريِّ عن عليٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((إنَّا كنَّا احتجنا فاستلفْنا للعبَّاسِ صدقةَ عامينِ)) وفيه إرسالٌ بين أبي البَخْتَريِّ وعليٍّ، قُلْتُ: ورُوي مِن حديثِ موسى بن طَلْحةَ عن طلحةَ أيضًا، ومِن حديثِ سليمانَ الأحول عن أبي رافعٍ، أخرجهما الدَّارَقُطْنيُّ.
          ثانيها: (ابْنُ جَمِيلٍ) قالَ ابنُ مَنْدَهْ وغيرُه: لا يُعرَفُ اسمُهُ، وَقال ابن بَزِيزةَ: اسمُه حُمَيدٌ، ووقعَ في «تعليق القاضي الحُسَينِ» و«بحْرِ الرُّويانيِّ» في متنِ الحديثِ: عبدُ الله بن جَميل، ووقعَ في «غريب أبي عُبيدٍ»: منعَ أبو جَهْمٍ ولم يذكُرْ أباهُ. قال المهلَّبُ: وكان منافِقًا فمنَعَ الزَّكَاةَ تربُّصًا، فاستتابَهُ اللهُ في كتابِه فقالَ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74] فقال: استتابَنِي ربِّي، فتاب وصَلَحتْ حالُهُ، وذَكَرَ غيرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ في ثَعْلَبةَ.
          و(يَنْقِمُ) فيه بفتْحِ أوَّلِه وكَسْرِ ثالثِهِ، ويجوزُ فتْحُه أيضًا، ومعناهُ يُنكِرُ أو يكرَهُ أو يَعيبُ، أي لا عُذْرَ لهُ في المنْعِ إذا لم يكن موجبُهُ (إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ) وذلك ليس بموجِبٍ له، فلا موجِبَ أَلبتَّةَ.
          ثالثُها: نصُّ روايةِ البُخاريِّ أنَّه تَرَكَها له ومِثْلَها، وذلك لأَنَّ العبَّاسَ كان استدانَ في مُفاداةِ نفسِهِ ومُفادَاةِ عَقيلٍ، فكان مِن الغارمين الَّذِينَ لا تَلزمُهم الزَّكَاةُ، وإِلَيْهِ يُردُّ قولُه: (فَهِيَ لَهُ وَمِثْلُها مَعَهَا) وذكرهُ ابنُ بطَّالٍ أيضًا، وقال أبو عُبيدٍ في روايةِ ابنِ إسحاقَ: (هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) نرى واللهُ أعلمُ أَنَّهُ أخَّرَ عنه الصَّدَقَةَ عامينِ مِن أجْلِ حاجةِ العبَّاس، فإنَّهُ يجوزُ للإمامِ أن يؤخِّرَها على وجهِ النَّظَرِ ثُمَّ يأخذَها منه بعدُ، كما أخَّر عمرُ صدقتَه عامَ الرَّمادةَ فَلَمَّا حَيِيَ النَّاسُ في العامِ المقبلِ أخذَ منهم صدقةَ عامينِ.
          وأَمَّا الحديثُ الَّذِي يُروَى: ((إنَّا قد تعجَّلْنَا منه صدقة عامين)) فهو عندي مِن هذا أيضًا، إِنَّمَا تعجَّل منه أنَّهُ أوجبَها عليه وضمَّنَها إيَّاهُ، ولم يَقبِضْها منه، فكانتْ دَينًا على العبَّاسِ، ألا ترى قولَه: (هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) وحديثَ حُجَيَّةَ عن عليٍّ: ((أَنَّ العبَّاسَ سألَ رَسُولَ الله صلعم أَن يُعجِّلَ صدقتَهُ للمساكينِ قَبْلَ أن تَحِلَّ، فأَذِنَ له)) أخرجه أبو داودَ والتِّرمذِيُّ وابنُ ماجَهْ والحاكمُ وقال: صحيحُ الإسنادِ، وخالفَ الدَّارَقُطْنيُّ وغيرُه فقال: إرسالُهُ أصحُّ.
          فيكون معنى قولِه: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) أي فهي عليه واجبةٌ فأدَّاها قَبْلِ مَحِلِّهَا (وَمِثْلُهَا مَعَهَا) أي قد أدَّاها أيضًا لعامٍ آخرَ كما سَلَفَ، وهذا أيضًا معنى روايةِ مَن رَوَى: ((فهي عليه)) ولم يذكُرْ: (صَدَقَةٌ) وفي روايةٍ لعبدِ الرَّزَّاق عن ابن جُرَيجٍ عن يزيدَ أبي خالدٍ، أَنَّ عمر قال للعبَّاسِ لِإِبَّانِ الزَّكَاة: أدِّ زكاةَ مالِكَ، فقال: قد أدَّيتُها قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عمرُ لرسولِ الله صلعم فقال: ((صَدَقَ قد أدَّاها قَبْلُ)).
          وروى وَرقاءُ عن أبي الزِّناد: ((فهيَ عَلَيَّ)) فالمعنى أَنَّهُ أراد أن يؤدِّيَها عنه برأيِه لِقولِه: ((أَمَا علمْتَ أنَّ عمَّ الرَّجُلِ صنوُ أبيه)) ومَن حمَلَهُ على التَّطوُّعِ قال: المعنى (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) أي أَنَهُ سيتصدَّق بمثلِها لأَنَّهُ لا يمتنعُ مِن شيءٍ أُلْزِمُهُ إيَّاه مِن التَّطوُّعِ بل يَعُدُّهُ كاللَّازمِ.
          وطعَنَ جماعاتٌ في هذِه اللَّفظةِ أعني قولَه: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) قال البَيْهقيُّ: روايةُ شُعيبٍ هذِه عن أبي الزِّناد يبعُدُ أن تكونَ محفوظةً لأنَّ العبَّاسَ كانَ مِن صَلِيبَةِ بني هاشمٍ ممَّن تحرُمُ عليهِ الصَّدَقةُ، فكيفَ يجعلُ ◙ ما عليه مِن صدقةِ عامينِ صدقةً عليه؟ وأجاب المنذريُّ بأنَّهُ لعلَّ ذَلِكَ قبْلَ تحريمِ الصَّدَقَةِ على الآلِ فرأَى إسقاطَ الزَّكاةِ عنه لوجهٍ رآهُ، وقال الخطَّابيُّ: هذِه لفظةٌ لم يُتابَع عليها شُعيب / بن أبي حمزة، وليس ذَلِكَ بجيِّدٍ ففي البُخاريِّ متابَعةُ أبي الزِّنَادِ عليها لكن بحذْفِ لفظةِ (صَدَقَةٌ) وتابعهُ موسى بن عُقبةَ أيضًا عن أبي الزِّنادِ في النَّسائيِّ.
          وقال ابن الجَوزيِّ: قال لنا ابنُ ناصرٍ: يجوزُ أن يكونَ قد قال: (هِيَ عَلَيَّهْ) بتشديدِ الياءِ ولم يبيِّن الرَّاوي، وأمَّا روايةُ مَن رَوَى ((فهي له، ومثلُها معها)) فهي روايةُ موسى بنِ عُقبةَ والمرادُ: عليه، وهُمَا بمعنًى، قال تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر:52] وقال: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيهَا} [فصلت:16] ويحتملُ أن يكونَ ((فَهِيَ لَه)) أي عَلَيَّ، ويحتملُ أَنَّهَا كانت له عليه إذْ كانَ قد قدَّمَهَا كما سَلَفَ، وبه احتجَّ مَنْ رأى تقديمَها، وسيأتِي.
          وأمَّا روايةُ مَن رَوَى: ((فهي عَلَيَّ ومثلُها معها)) فقيل فيه: إِنَّهُ ◙ كان تعجَّلَها كَمَا سَلَفَ. فالمعنى على النَّبِيِّ صلعم، ويحتملُ أن يكونَ عَلَيَّ أنا أؤدِّيها عنه لِمَا له عَلَيَّ مِنَ الحَقِّ خصوصًا له، ولهذا قال: ((أما علمتَ أنَّ عمَّ الرَّجُل صِنْوُ أبيه)) أي أصلُهُ وأصلُ أبيه واحدٌ، وأصلُ ذَلِكَ أنَّ طَلْعَ النَّخلاتِ مِنْ عِرقٍ واحدٍ، قال البَيْهقيُّ: وهذِهِ الرِّوايةُ أَولَى بالصِّحَّةِ لموافقتِها الرِّوَاياتِ الصَّحِيحَةَ بالاستسلافِ والتَّعجيلِ.
          وقال الدَّاوديُّ: المحفوظُ (هِيَ لَهُ) أي إِنَّهُ قد تصدَّقَ بصدقَتِه ومثلِها معها، وهي أَوْلى لأَنَّهُ رجُلٌ مِن صُلْبِ بني هاشمٍ لا تَحِلُّ له الصَّدَقَةُ، وقد رواه ورقاءُ عن أبي الزِّنادِ: ((فهي عليَّ ومثلُها معها)) كأنَّهُ قال: كان يُسْلِفُ منه صدقةَ عامينِ ذَلِكَ العامُ وعامٌ قبلَهُ، كذا قالَ، وروايةُ: ((فهي له)) هي روايةُ موسى بن عُقبةَ يمكن حملُها على هذا أيضًا، وقد يُحمَلُ على التَّأويلِ الأوَّلِ لأَنَّ ((له)) بمعنى عليهِ كما سَلَفَ، قال ابنُ التِّينِ: والصَّحِيحُ أَنَّ معنى هَذِهِ الروَايَةِ أَنَّهُ قدَّم صَدقةَ عاميْنِ كما سَلَفَ.
          رابعُها: اختَلفَ أهلُ العلمِ في تعجيلِ الزَّكاةِ قَبْلَ مَحِلِّهَا، فرأيُ طائفةٍ منهم أَنَّهَا لا تُعجَّلُ وبه قالت عائشةُ وسفيانُ والحسنُ وابنُ سِيرين، وقال أكثرُ أهلِ العلمِ: تَجوزُ، وبه قال عطاءٌ وسعيدُ بن جُبير وإبراهيمُ والحسنُ والضَّحَاكُ والحَكمُ وابنُ سيرين والنَّخَعيُّ والأَوزاعيُّ والزُّهريُّ وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ. وعندَ مالكٍ في إخراجِها قَبْلَ الحولِ بيسيرٍ قولان، وحدَّ القليلَ بشهرٍ ونِصْفِ شهرٍ وخمسةِ أيَّامٍ وثلاثةٍ.
          وقال ابنُ المنذرِ: كَرِهَ مالكٌ واللَّيثُ إخراجَها قَبْلَ وقتِها، قال: ولا يجزئه أن يعجِّلَ، قالوا: وهو كالَّذِي يصلِّي ويصومُ قَبْلَ الوقتِ. قال الطَّبَرِي: والَّذِي شبَّه الزَّكَاةَ بالصَّلاةِ والصِّيامِ فليس بِمُشْبِهٍ؛ وذلك أَنَّهُ لا خلافَ بين السَّلَفِ والخَلَف في أَنَّ الصَّدَقَةَ لو وجبَتْ في ماشيتِه فهرَبَ بها مِنَ المتصدِّق فَظَهَر عليه المصدِّقُ فأَخذَ زكاتَها وربُّهَا كارهٌ أَنَّها تُجزِئُ عَنْهُ، ولا خلافَ بينهم أَنَّهُ لو امتنعَ مِن أداءِ صلاةٍ مكتوبةٍ فأُخِذَ بأدائها كُرْهًا فصلَّاها وهو غيرُ مريدٍ قضاءَها أَنَّهَا غيرُ مُجزئةٍ عنه، فاختلَفَا.
          والعجبُ ممَّن زَعَمَ عدمَ الإجزاءِ لأَنَّهُ تطوَّعَ به ولا يقعُ عن الفرضِ، وليس كما ظنَّ لأَنَّ الَّذي تعجَّلَهُ لا يعطيهِ بمعنى الزَّكَاةِ، وَإِنَّما يعطيه مَن يُعطيهِ دَينًا له عليه على أَنْ يحتَسِبَه عند مَحِلِّه زكاةً مِن مالِه. وعلى هذا الوجهِ كان استسلافُ الشَّارعِ مِن العَبَّاسِ صدقتَه قبلَ وجوبِها في مالِه، ومَن قاسَ ذَلِكَ على الصَّلَاةِ والصَّومِ فقد أفحشَ الخطأَ لأَنَّهُمَا عِبادةٌ بدنيَّةٌ بخلافِها، وبدليلِ أخْذِها مِن مالِ المجنونِ واليتيمِ، فإن قلتَ: فحديثُ أبي هريرة في التَّطوُّعِ؟ قُلْتُ: صحَّ في التَّعجيلِ كما سَلَفَ.
          فرعٌ: رجَّحَ الرَّافعيُّ أَنَّهُ لا يجوزُ تعجيلُ صَدَقَةِ عامينِ، والأصحُّ خلافُه كما قرَّرتُه في الفروعِ، وتؤيِّدُه الرِّوايةُ السَّابِقَةُ.
          خامسُها: قد أسلفْنَا أَنَّ قولَه: (وَأَعْتُدَهُ) بالتَّاء المثنَّاة فوقُ على الصَّحيح، وأَعْبُدٌ جَمْعُ عبْدٍ، وأعتُدٌ بالتَّاءِ جَمْعُ عَتَدٍ وهو الفَرَسُ، وقد أسلفْنَا أَنَّ عند مسلمٍ: ((أَعْتَادَه)) وهو رواية أبي داودَ، وهو شاهدٌ لصحَّةِ روايةِ: (أَعْتُدَهُ) جَمعِهِ، والمعروفُ مِن عادةِ النَّاسِ في كلِّ زمانٍ تحبيسُ الخيلِ والسِّلَاح في سبيلِ الله، وقال صاحبُ «العين»: فَرَسٌ عَتدٌ وعَتِيدٌ أي مُعدٌّ للركوبِ، وبذلك سُمِّيَتْ عَتِيدةُ الطِّيبِ، وقال غيرُه: الذَّكَرُ والأنثى فيه سواء، وممَّا يدلُّ على أَنَّهُ عَتَدٌ بفتِحِ التَّاءِ مجيئُه للذَّكر والأنثى بلفظٍ واحد، هذا حكمُ المصادر.
          سادسها: اعتَذَرَ عن خالدٍ بقولِه: (احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي تبرُّرًا وذلك غيرُ واجبٍ عليه، فكيف يجوزُ أن يَمنَعَ واجبًا! وقيل: إِنَّهُ طولِبَ بالزَّكَاةِ عن أثمانِ الأَدْراعِ والأعتُدِ على معنى أَنَّهَا كانت للتِّجارةِ، فأخبَرَ أَنَّه لا زكاةَ عليه فيها إذْ قد جعلَها حَبْسًا في سبيلِ الله، وفي ذَلِكَ إثباتُ زكاةِ التِّجَارةِ، وبه قال جميعُ الفقهاءِ إلَّا داودَ وبعضَ المتأخِّرِينَ.
          وقيل: إنَّهُ احتبَسها أي جعَلَها في سبيلِ الله ليحاسب بها، ولو كان حبَسَها ولم ينوِ الزَّكاةَ لَلَزِمَتْهُ الزَّكاةُ، وإِنَّمَا أجزأهُ ذَلِكَ لأَنَّ أحدَ الأصنافِ المستحقِّينَ للزَّكَاةِ: في سبيلِ الله، وهم المجاهدونَ فصرْفُها في الحال إليهم كصرفِها في المآلِ فعلى هذا يكونُ دليلًا على إخراجِ القِيَمِ في الزَّكَاةِ، وعلى جوازِ إخراجِ الزَّكَاةِ قبل مَحِلِّها وقد سَلَفَ، وعلى وضْعِ الزَّكَاةِ في جنسٍ واحدٍ مِن الثَّمانيةِ خِلافًا للشَّافعيِّ في غيرِ الإمام وقد سَلَفَ أيضًا.
          وفيه تحبيسُ آلاتِ الحربِ والثِّيَابِ وكلِّ ما يُنتفعُ به مع بقاءِ عينِه، والخيلُ والإبلُ كالأعبُدِ. وفي تحبيسِ غيرِ العقارِ ثلاثةُ أقوالٍ للمالكيَّةِ: المنعُ المطلَقُ، ومُقَابِلُهُ، الخيلُ فقط. وقيل: يُكرَهُ في الرَّقِيقِ خاصَّةً، وجهُ المنعِ أنَّ الوقفَ وَرَدَ في العقارِ دونَ غيرِه فلَمْ يَجُزْ تَعدِّيهِ، ووجهُ الجوازِ حديثُ خالدٍ هذا، ورُوِيَ أنَّ أبا مَعْقِلٍ وقفَ بعيرًا له، فقيل لرسُولِ الله صلعم فلم يُنكرْهُ. وقال أبو حنيفةَ: لا يلزمُ الوقفُ في شيءٍ إِلَّا أن يحكُمَ به حاكمٌ، أو يكونَ الوقفُ مسجدًا أو سقايةً أو وصيَّةً مِن الثُّلُثِ.
          سابعها: فيه / بعثُ الإمامِ العمَّالَ بجبايةِ الزكَوات. وأن يكونوا فقهاءَ أُمَناءَ ثِقاتٍ عارفينَ حيثُ بَعَثَ عليها عمرَ. وتعريفُ الإمامِ بمانعيها ليُعينَهُم على أَخْذِها منهم أو يبيِّنَ لهم وجوهَ أَعذارِهم في مَنْعِها. وتعريفُ الفقير نعمةَ الله عليه في الغِنَى ليقومَ بحقِّ اللهِ فيه. وعيبُ الإمامِ على مَن مَنَعَ الخيرَ _وإنْ كان منعُه مندوبًا_ في غَيْبَتِه وحضورِه. وصحَّةُ الوقفِ. وصحَّةُ وقْفِ المنقولِ وبه قالت الأُمَّةُ بأَسْرِها إِلَّا أبا حنيفةَ وبعضَ الكوفيِّين. وأَنَّهُ لا زكاةَ في الوقفِ. ووجوبُ زكاةِ التِّجارةِ على ما سَلَفَ. والتَّصريحُ باسْمِ القريبِ.
          وفيه غيرُ ذَلِكَ ممَّا أوضحتُه في «شرح العُمدة» فراجعْهُ منه تجدْ نفائسَ.