التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافًا}

          ░53▒ بَابُ: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273]
          وَكَمِ الغِنَى؟ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ). {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} إِلَى قَولِهِ: {فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273].
          ذكر خمسةَ أحاديثَ:
          1476- أحدُها: حديثُ أبي هُريرةَ: (لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتَانِ، وَلَكِنِ المسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي، أَوْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا).
          1477- ثانيها: حديثُ ابنِ أَشْوَعَ _وهو سعيدُ بن عمرِو بن أَشْوَعَ الهَمْدانيُّ الكوفيُّ قاضِيها ماتَ في ولايةِ خالدِ بن عبد الله_ عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قال: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ رَسُولِ الله صلعم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُه يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ).
          1478- ثالثُها: حديثُ محمَّد بن غُرَيْرٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحٍ، عَن ابن شِهَابٍ عَنْ عَامِر بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلعم رَهْطًا) الحديث، وَفِي آخرِهِ: (إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغيْرُهُ أَحَبُّ إِليَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ).
          وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ محَمَّد عَنْ أَبِيهِ، فَقال فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثُمَّ قال: (أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ).
          وقال أَبُو عَبْدِ اللهِ: {فَكُبْكِبُوا} [الشعراء:94] فَكُبُّوا، {مُكِبًّا} [الملك:52] أَكَبَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ، فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتَ: كَبَّهُ اللهُ لِوَجْهِهِ، وَكَبَبْتُهُ أَنَا.
          1479- رابعُها: حديثُ أبي هُريرةَ: (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ) الحديث.
          1480- خامسُها: حديثُ أبي هُريرةَ / أيضًا: (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ).
          الشَّرح: أَمَّا قولُه: (لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ) فقد أسندَهُ في الباب مِنْ حديث أبي هريرة، وهو الحديثُ الرَّابع، وَأَمَّا الحديثانِ الأوَّلانِ فأخرجهُمَا مسلمٌ أيضًا، وسَلَفَ قطعةٌ مِنْ أوَّلِ الحديثِ الثَّاني في بابِ الذِّكْرِ بعد الصَّلَاةِ. و(كَاتِبُ المُغِيرَةِ) هو ورَّادٌ كَمَا سَلَفَ هناك.
          وَأَمَّا الثَّالثُ فالسَّندُ الأخيرُ أخرجهُ مسلمٌ عن الحسن بن عليٍّ الحُلْوانيِّ عن يعقوبَ عن أبيه عن صالحٍ عن إسماعيل بن محمَّد قال: سمعتُ محمَّد بن سعد يُحدِّث بهذا _يعني حديثَ الزُّهريِّ المذكورَ_ فقال في حديثِه: فضربَ رسولُ الله صلعم بيدِه بين عُنُقي وكَتِفي ثُمَّ قال: ((أَقِتَالًا أي سعدُ؟ إنِّي لأعطي الرَّجُلَ)) وفي «الجمع» للحُمَيديِّ في أفرادِ مسلمٍ عن إسماعيلَ بن محمَّد بن سعدٍ عن أبيه عن جدِّه بنحوِ حديثِ الزُّهريِّ عن عامر بن سعد.
          وَزَعَم خلفٌ أنَّ طريقَ إسماعيل بن محمَّدٍ هذا في البُخاريِّ في كتابِ الزَّكَاةِ عن محمَّد بن غُرَير كما سقناه، لكنْ زادَ بعدَ صالح عن إسماعيل بن محمَّد عن أبيه: عن سعد. وقال أبو نُعَيم وساقه مِن حديث الدُّورِيِّ عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد حَدَّثَنِي أبي عن صالح عن إسماعيل بن محمَّد سمعتُ محمَّد بن سعد يحدِّث بهذا يعني حديثَ الزُّهريِّ عن عامر. الحديث، ثُمَّ قال: رواهُ _يعني البُخاريَّ_ عن محمَّد بن غُرَيْر عن يعقوب. وقد سَلَفَ الحديثُ في كتابِ الإيمانِ [خ¦27].
          وأمَّا حديثُ أبي هُريرةَ الرابعُ فأخرجهُ مسلمٌ أيضًا، وأمَّا حديثُه الأخيرُ فسلفَ في بابِ الاستعفاف عن المسألة [خ¦1470].
          إذا تقرَّرَ ذَلِكَ فالآيةُ الأُولى اختَلف الْمُفسِّرُونَ في تأويلِها فقيل: يسألونَ ولا يُلحِفونَ في المسألةِ، وقيل: إنَّهم لا يسألونَ النَّاس أصلًا أي: لا يكونُ منهم سؤالٌ فيكونُ منهم إلحافٌ، وألحَفَ وأَحْفَى وألحَّ بمعنًى، والدَّليلُ على أَنَّهُم لا يسألونَ وصْفُ الرَّبِّ جلَّ جلالُه بالتعفُّفِ، ولو كانوا أهلَ مسألةٍ لَمَا كان التعفُّف مِنْ صفتِهم، ويشهدُ له حديثا أبي هُريرةَ في البابِ الأوَّلُ والرَّابعُ.
          واحتجَّ الأوَّلُ بالحديثِ الأوَّلِ، قالوا: والمسألةُ بغيرِ إلحافٍ مباحةٌ للمضطرِّ إليها، يدلُّ على ذَلِكَ ما رواهُ مالكٌ عن زيدِ بن أسلمَ عن عطاء بن يَسارٍ عن رجلٍ مِن بني أسدٍ له صحبةٌ أَنَّ رسول الله صلعم قال: ((مَنْ سألَ وله أُوقيَّةٌ أو عَدْلُها فقد سألَ إلحافًا)) فدلَّ ذَلِكَ أَنَّ مَن لم تكن له أُوقيَّةٌ فهو غير مُلحِفٍ ولا مَلومٍ في المسألة، ومَنْ لم يكن ملومًا في مسألتِهِ، فهو ممَّن يليقُ به اسمُ التعفُّفِ.
          وليس قولُ مَن قال: لو كانوا أهلَ مسألةٍ لَمَا كان التعفُّفُ مِنْ صفتِهم بصحيحٍ؛ لأنَّ السُّؤالَ المذمومَ إنَّما هو لِمَنْ كان غنيًّا عنه بوجودِ أُوقيَّةٍ أو عَدلِها، فالحديثان مختلفانِ في المعنى لاختلافِ ظاهرِ ألفاظِهما، والأوَّلُ نَفَى الإلحافَ ودلَّ على السُّؤالِ، والثَّاني نَفَى فيه السُّؤالَ أصلًا وانتفَى فيه الإلحافُ بنَفْيِ السُّؤالِ.
          وإِنَّمَا اختلفَا لاختلافِ أحوالِ السَّائلِ؛ لأَنَّ النَّاسَ يختلفونَ في هذا المعنى، فمنهم مَنْ يصبر عن السُّؤال عندَ الحاجةِ ويتعفَّفُ ويدافعُ حالَه وينتظرُ الفرجَ مِن خالقِه، ومنهم مَن لا يصبِرُ ويسألُ بحسبِ حاجتِه وكفايتِه، ومنهم مَن يسألُ وهو يحبُّ الاستكثارَ، وهذا هو الْمُلحِفُ الَّذِي لا تنبغي له المسألةُ، ويحتمل أن يكونَ معناهما واحدًا في نفْيِ السُّؤالِ أصلًا. ويحتملُ أن يكونا متَّفقَي المعنى في إثباتِ السُّؤالِ ونَفْيِ الإلحافِ.
          فإن قُلْتَ: فكيفَ قال: (وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ)؟ قيل: في أكثرِ أَمْرِه وغالبِ حالِه ويُلزِمُ نَفْسَهُ التعفُّفَ عن المسألةِ حتَّى تغلبَه الحاجةُ والفقرُ ويقعَ سؤالُه نادرًا، كما قال صلعم: ((لا يضعُ عصاهُ عن عاتقِه)) أي غالبًا، وكما قال: ((لا تحلُّ الصَّدقةُ لغنيٍّ ولا لذي مِرَّةٍ سَويٍّ)) وقد تحلُّ لهم في بعضِ الأوقاتِ، ومَن كان سؤالُه عند الضَّرُورةِ وفي النَّادرِ فليسَ بمُلحِفٍ واسمُ التعفُّفِ أَولى به بدليلِ حديث عطاءِ بن يسار السَّالفِ.
          وقال قتادة: ذُكِرَ لنا أنَّ نبيَّ الله صلعم قال: ((إِنَّ الله تعالى يُبغِضُ الغنيَّ الفاحشَ البذيءَ والسَّائلَ الملحِفَ)) وقال أبو هُريرةَ: المسكينُ هو المتعفِّفُ في بيتِه لا يسأل النَّاس شيئًا حتَّى تصيبَه الحاجةُ، اقرؤوا إن شئتم: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273].
          وأَمَّا قولُ البُخاريِّ: (وَكَمِ الغِنَى؟) أي: كم حدُّه؟ وقد سلف فيه حديثُ عطاءٍ، ورَوَى ابنُ مسعودٍ: يا رسولَ الله، ما الغِنَى؟ قال: ((خمسون درهمًا)) وفي حديثِ أبي سعيدٍ: ((مَنْ سأل وله قيمةُ أوقيَّةٍ فقد ألحفَ)) وفي حديثِ سهلِ بن الحنظليَّةِ عند أبي داودَ: يا رسول الله، ما الغِنَى الَّذِي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: ((قَدْرَ ما يُغدِّيه ويُعشِّيه)) وفي لفظٍ: ((أن يكونَ له شِبْعُ يومٍ وليلةٍ)) وحديث عليٍّ: ما ظَهْرُ غِنًى يا رسول الله؟ قال: ((عشاءُ ليلةٍ)) وسيأتي في الباب إيضاحُ الخلافِ فيه.
          وأمَّا الآيةُ الثَّانيةُ وهي قولُه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِين أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:273] هم فقراءُ المهاجرينَ خاصَّةً، قاله مُجاهدٌ وابنُ أبي جعفرٍ عن أبيه والسُّدِّيُّ. ومعنى {أُحْصِرُوا} منَعَهم فرضُ الجهَادِ عن التَّصرُّفِ، وقيل: أحصرهم عدوُّهم لأَنَّ الله شَغَلَهم بجهادِهم، وقيل: شغلهم عدوُّهم بالقتالِ عن التَّصرُّفِ، واللُّغةُ توجِبُ أنَّ أُحصِرَ مِن المرض إِلَّا أنَّه يجوز أنْ يكونَ المعنى صُودِفوا في هذا الحالِ.
          وقولُه: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} أي تصرُّفًا عن المدينة. وقيل: ألزموا أنفُسَهُم الجهادَ كما يُقال: لا أستطيعُ أن أعصيَكَ أي قد ألزمتُ نفْسِي طاعتَك.
          وقولُه: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} ليس الجهلُ هنا ضدَّ العلمِ، وإِنَّمَا هو ضدُّ الخبرةِ، أي الجاهلُ بحالِهم ممَّا يرى بهم مِن التعفُّفِ لأَنَّهُم لا يسألون.
          وقولُه: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيِمَاهُمْ} يعني ما بهم مِنَ الخَصاصةِ كان أحدُهم يلبسُ البُردةَ إلى نصفِ السَّاقِ / والآخَرُ متَّزرُها. وقولُه: {فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي يعلمُهُ ويُجازِي على ما أُريد به وجهِه.
          وَأَمَّا حديثُ أبي هريرة الأوَّلُ: فقولُه صلعم: (لَيْسَ الْمِسْكِينُ) أي ليسَ الشَّديدُ الْمَسْكَنَةِ قالَه ابنُ التِّين، وقال ابنُ بطَّالٍ: يريدُ ليس المسكينُ المتكاملُ أسباب المسكنةِ لأنَّهُ بمسألَتِه يأتيه الكَفافُ والزِّيادةُ عليه فيزولُ عنه اسمُ المبالغةِ في المسكنةِ، وإنَّما المسكينُ المتكاملُ أسباب المسكنةِ مَن لا يجدُ غِنًى ولا يُتصدَّقُ عليه كقولِه تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] أي ليس ذَلِكَ غايةَ البرِّ لأَنَّهُ لا يبلُغُ بِرَّ {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}الآية[البقرة:177].
          وقولُه: (الأُكْلَة وَالأُكْلَتَانِ) قال ابن التِّين: ضبَطَه بعضُهم بضمِّ الهمزةِ بمعنى اللُّقمةِ، فإذا فَتَحَها كانت الْمَرَّةَ الواحدةَ، قال الكِسائيُّ: يُقال في كلِّ شيءٍ: فعلتُ فَعلةً إلَّا في شيئين: حَجَجْتُ حِجَّةً ورأيتُ رُؤيةً، ذكرَهُ الهَرَويُّ. وفي «الفصيح» الأُكلة اللُّقمةُ، والأَكلة بالفتْحِ الغداءُ والعَشاءُ، وقال صاحبُ «المطالع» أيضًا: هما في الحديثِ بالضَّمِّ لأَنَّهُ بمعنى اللُّقمة، فإذا كانت بمعنى المرَّةِ الواحدةِ فهي بالفتح، إلَّا أنْ يكون فيها هاء فيكونُ مضمومًا بمعنى المأكولِ.
          واختَلفَ أهلُ اللُّغةِ في الفقيرِ والمسكينِ: مَن هو أسوأُ منهما؟ فقال ابنُ السِّكِّيتِ وابنُ قُتَيبةَ: المسكينُ أسوأُ حالًا مِنَ الفقيرِ لأَنَّهُ مشتقٌّ مِنَ السُّكونِ وهو عدمُ الحركة فكأنَّهُ كالميِّت، فالمسكينُ الَّذِي سَكَنَ وخشعَ، والفقيرُ له بعضُ ما يُقيمُه، واحتجُّوا بقولِ الرَّاعي:
أَمَّا الفَقِيرُ الَّذي كَانَتْ حَلُوبَتُه                     وَفْقَ العِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ
          فجَعَلَ له حَلوبةً، وجعلَها وفق عيالِه أي قَدْرَ قُوتِهم. وقال ابن سِيدَه: المِسْكِينُ والْمَسْكِينُ _الأخيرةُ نادرةٌ لأَنَّهُ ليس في الكلامِ مَفْعيل_ الَّذي لا شيء له، وقيل: الَّذي لا شيءَ له يكفِي عيالَه، وقال أبو إسحاق: هو الذي أسكنَه الفقرُ، فخرَّجَهُ إلى معنى مفعول.
          والفقرُ ضدُّ الغِنَى، وقدْرُ ذَلِكَ أن يكونَ له ما يكفي عيالَه، وقد فَقُرَ فهو فقيرٌ والجمعُ فقراء والأنثى فقيرةٌ مِن نسوةٍ فقائر، وحكى اللِّحيانيُّ: نسوةٌ فقراء، ولا أدري كيف هذا، وقال القَزَّاز: أصلُ الفقرِ في اللُّغة مِن فَقَارِ الظَّهْرِ كأنَّ الفَقْرَ كَسَرَ فَقارَ ظهرِه فبقِيَ له مِن جسمِه بقيَّةٌ، يدلُّ عليه الشِّعرُ السَّالف، والفَقْرُ والفُقْرُ والفتحُ أكثرُ، وأَمَّا ابنُ عُدَيسٍ فسوَّى بينهما.
          قال القزَّاز: والنَّاس يجعلون المسْكِين هو الَّذي معه شيءٌ، وليس كذلك ذاك الفقيرُ، وأمَّا المسكينُ فالذي لا شيءَ معه، والفرقُ في الاشتقاقِ لأنَّ الْمِسِكينَ مِفْعِيلٌ مِن السُّكون، وإذا انقطعتْ حركةُ الإنسانِ لم يَبْقَ له شيءٌ.
          واحتجَّ مَن جَعَلَ المسكينَ الَّذي له شيء بقولِه تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف:79] فجَعَلَ لهم سفينةً، ومعنى هذا عندَ قومٍ أَنَّهُ لم يُرِدْ فَقْرَهم ولكنْ جرى الخطابُ على معنى التَّرَحُّمِ عليهِم كما تقولُ: ما تصنعُ هاهنا يا مسكين؟ على معنى التَّرحُّمِ، وكما قال صلعم لقيلَةَ: ((يا مسكينة عليكِ السَّكِينَة)) وقال قومٌ: لم تكن السَّفينةُ لهم وإِنَّمَا كانوا فيها على سبيلِ الأُجرةِ للعملِ.
          وقال الجوهريُّ: المسكينُ الفقيرُ، وقد يكون بمعنى الذِّلَّةِ والضَّعفِ، يُقال: تسكَّن الرَّجُلُ وتمسْكَنَ وهو شاذٌّ، وكان يونس يقول: المسكينُ أشدُّ حالًا مِن الفقيرِ، قال: وقلتُ لأعرابيٍّ: أفقيرٌ أنتَ؟ قال: لا واللهِ بل مسكين، والمرأةُ مسكينةٌ، وقوم مساكينُ ومِسْكِينُون والإناثُ مسكينات، وقال الأخفشُ: الفقيرُ مشتقٌّ مِن قولِهم: فَقَرْتُ له فقرةً مِن مالي، وقال نِفْطَوَيْهِ: الفقيرُ عندَ العربِ المحتاجُ، والمسكينُ الَّذِي قد أذلَّه الفقرُ.
          إذا عرفْتَ ذَلِكَ فقد اختلفَ العلماءُ فيهما بناءً على ذَلِكَ، فقال مالكٌ وأبو حنيفة: المسكينُ أسوأُ حالًا مِنَ الفقيرِ، وعَكَسَ الأصمعيُّ وابنُ الأنباريِّ والشَّافعيُّ.
          احتجَّ الأوَّلُونَ بهذا الحديثِ، واحتجَّ الآخَرونَ بالآيةِ السَّالفةِ {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}الآية[البقرة:273] وبالآيةِ السَّالفةِ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف:79] قالوا: والفقرُ هو استئصالُ الشَّيءِ، يُقالُ: فَقَرَتْهُم الفاقرةُ إذا أصابتْهم داهيةٌ أهلكتْهُم، والفقيرُ عندَ العرَبِ: الَّذي قد انكسَرَ فَقَارُ ظهرِه كما سَلَفَ، ومَنْ صار هكذا فقد حلَّ به الموتُ.
          وقد يقالُ مسكينٌ لغيرِ الفقيرِ ولكنْ لِمَن نَقَصَتْ حالُه عن الكمالِ في بعضِ الأمور كما قال صلعم: ((مسكينٌ مسكينٌ مَنْ لا زوجةَ له، ومسكينةٌ مسكينةٌ مَنْ لا زوجَ لها)) قالوا: وقد قال الشَّارعُ: ((اللَّهمَّ أحيِني مسكينًا وأمِتْني مسكينًا واحشُرْنِي في زمرةِ المساكين)) رواه الحاكم مِن حديث أبي سعيد الخُدْريِّ وقال: صحيحُ الإسنادِ، وتعوَّذَ بالله مِن الفقر، فعُلِمَ أَنَّهُ أسوأُ حالًا وأشدُّ مِنَ المسكنة، قال ابنُ التِّينِ: وأهلُ اللُّغةِ جميعًا على هذا القولِ.
          وقالت طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ: الفقيرُ الَّذي لا يَسألُ، والمسكينُ الَّذي يسألُ، رُوي عن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ وعِكرمةَ وجابرِ بن زيدٍ والزُّهريِّ، ورُوي عن عليِّ بن زيادٍ عن مالكٍ أَنَّ الفقيرَ الَّذي لا عِيالَ له ويتعفَّفُ عن المسألةِ، والمسكينَ الَّذي لا عيالَ له ويَسألُ.
          واختلفوا أيضًا كم الغِنَى الذي لا يجوز لصاحبِه أَخْذُ الصَّدقةِ وتحرم عليه المسألةُ؟ فقال بعضُهم: هو بوجودِ المرْءِ قوتَ يومِه لغدائِه وعَشائِه، وهذا قولُ بعضِ المتصوِّفَةِ الَّذين زعموا أَنَّهُ ليسَ لأحدٍ ادِّخارُ شيءٍ لغدٍ، وهو مردودٌ بما ثبتَ عن الشَّارعِ وأصحابِه أَنَّهُم كانوا يدَّخرونَ. وَقال آخَرونَ: لا تجوزُ المسألةُ إِلَّا عندَ الضَّرُورَة وأحلُّوا ذَلِكَ محلَّ الميتةِ للمضطرِّ.
          وقال آخرونَ: لا تَحِلُّ المسألةُ بكلِّ حالٍ، واحتجُّوا بما رُوي عنه صلعم أنَّهُ قال لأبي ذرٍّ: ((لا تسألِ النَّاسَ شيئًا)) وجعلوا ذَلِكَ نهيًا عامًّا عن كلِّ مسألةٍ، وبما رواه ابنُ أبي ذئبٍ عن محمَّد بن قيس عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن معاوية، عن ثَوبان مرفوعًا: ((مَنْ تكفَّل لي بواحدةٍ تكفَّلتُ له بالجَنَّة)) قال ثَوبان: أنا، قال: ((لا تَسأل النَّاسَ شيئًا)) فكان سوطُه يقعُ فما يقولُ / لأحدٍ: ناولْنِيهِ فينزِلُ فيأخذُه، وقال قيس بن عاصم لبنيهِ: إيَّاكم والمسألة، فإنَّهَا آخرُ كسْبِ المرءِ، فإنَّ أحدًا لن يسألَ إلَّا تَرَكَ كَسْبَهُ.
          وقالت طائفةٌ: لا يأخُذُ الصَّدَقةَ مَن له أربعونَ درهمًا لقولِه صلعم: ((مَنْ سألَ وله أُوقيَّةٌ أو عَدلُها فقد سأل إلحافًا)) وقد سَلَفَ، وممَّن قال بذلك أبو عُبيد. وقالت طائفةٌ: لا تَحِلُّ لِمَنْ له خمسونَ درهمًا، وهو قولُ الثَّوريِّ والنَّخَعيِّ وأحمَدَ وإسحاقَ، واحتجُّوا بحديثٍ يُرَوى عن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا بذلكَ وأعَلَّهُ يَحيى بنُ سعيدٍ وشُعبةُ فقالا: يرويه حَكيمُ بن جُبيرٍ وهو ضعيفٌ.
          وقالت طائفةٌ: مَن مَلَكَ مئتي درهمٍ حَرُمَ عليه الصَّدَقَةُ المفروضةُ، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، ورواه المغيرةُ عن مالكٍ، وقال المغيرةُ: لا بأسَ أن يُعطَى أقلَّ ما تجبُ فيه الزَّكَاةُ، ورُوِيَ عن مالكٍ: يُعطَى مَن له أربعونَ دِرهمًا إذا كان له عيالٌ، واحتجَّ أصحابُ أبي حنيفةَ بقولِه صلعم: ((أُمرتُ أنْ آخُذَ الصَّدقةَ مِنْ أغنيائِكم وأَرُدَّهَا في فقرائِهم)) فجَعَلَ المأخوذَ منه غيرَ المردودِ عليه، ومَن معه مئتا درهم تُؤخَذُ منه الزَّكَاةُ فلم تَجُزْ أن تُردَّ عليه لِما فيه مِنْ إبطالِ الفرْقِ بين الجنسينِ، بين الغنيِّ والفقيرِ.
          وقال الطَّحَاويُّ: قولُه صلعم: ((أَمَا وجدَ عنها مندوحةً بما يُقِيمُ به رمقَه مِنْ عيشٍ وإن ضاق، وأَمَّا مَنْ سألَ وله أوقيَّةٌ أو عَدلُها)) منسوخٌ بقولِه صلعم: ((مَنْ سأل وله خمسُ أَواقٍ فقد سألَ إلحافًا)) فجعلَ هذا حدًّا لِمَن لا تحلُّ له الصَّدقةُ، قال بعضهم: وكلُّ مَن حدَّ مِن الفقهاء في الغِنَى حدَّا أو لم يحدَّ فإنَّمَا هو بَعْدَ ما لا غِنَى به عنه مِن دارٍ تحمِلُه ولا تفضلُ عنه، وخادمٍ هو محتاجٌ إليها، ولا فضْلَ له مِن مالٍ يتصرَّفُ فيه، ومَن كان هكذا، فأجمع الفقهاءُ أَنَّه يجوزُ له أن يأخذَ مِن الصَّدَقَةِ ما يحتاجُ إليه.
          قال الطَّبريُّ: والصَّوابُ عندَنا في ذَلِكَ أَنَّ المسألةَ مكروهةٌ لكلِّ أَحَدٍ إِلَّا لمضطرٍّ يخافُ على نفْسِه التَّلَفَ بِتَرْكِها، ومَنْ بلغَ حدَّ الخوفِ على نفْسِه مِن الجوعِ ولا سبيلَ إلى ما يَرُدُّ به رَمَقَه ويُقيم به نفْسَهُ إلَّا بالمسألةِ فالمسألةُ عليه فرضٌ واجبٌ، لأَنَّهُ لا يَحِلُّ له إتلافُ نفْسِه وهو يجدُ السَّبيلَ إلى حياتِها.
          والمسألةُ مباحةٌ لِمَن كان ذا فاقةٍ وإنْ كرِهْنَاهَا ما وَجَدَ عنها مندوحةً ممَّا يُقيمُ رَمَقَهُ مِنْ عيشٍ وإنْ ضاق، وإِنَّمَا كرهْنَاهَا له لقولِه صلعم: ((اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى)) ولا مأثم عليه إِلَّا على سائلٍ سألَ عن غنًى متكثِّرًا بها فالمسألةُ عليه حرامٌ، قُلْتُ: وقد أسلفْنا فيما مضى أقسامَ المسألةِ فراجعْهُ.
          وَأَمَّا حديثُ المغيرة ففيه الكِتابُ بالسُّؤالِ عن العلمِ والجوابُ عنه. وفيه قَبولُ خبَرِ الواحدِ، وقَبولُ الكتابة، وهو حُجَّةٌ في الإجازة. وفيه أخْذُ بعض الصَّحابة عن بعضٍ.
          والمرادُ بِـ (قِيلَ وَقَالَ) هنا حكايةُ شيءٍ لا يعلَمُ صحَّتَه، فإنَّ الحاكي يقول: قيل وقال، قاله ابنُ الجوزيِّ، وعن مالكٍ: هو الإكثارُ مِن الكلامِ والإرجافُ نحوُ قولِ القائلِ: أُعطِيَ فلانٌ كذا ومُنع مِنْ كذا والخوضُ فيما لا يعني. وقال ابن التِّين: له تأويلان:
          أحدُهما: أَنْ يُرادَ به حكايةُ أقوالِ النَّاسِ وأحاديثِهم والبحثُ عنها لِيَنْمِي فيقولُ: قال فلانٌ كذا وفلانٌ كذا ممَّا لا يَجُرُّ خيرًا، إِنَّمَا هو وُلوعٌ وشَغَفٌ وهو مِنَ التَّجسُّسِ المنهيِّ عنه.
          والثَّاني: أن يكونَ في أَمْرِ الدِّين فيقولُ: قيل فيه كذا وقال فلانٌ، فيقلِّدُ ولا يحتاطُ لموضِعِ الإخبارِ بالحُجَجِ.
          وفي لفظٍ آخَرَ: ((نهى عن قيلٍ وقالٍ)). قال أبو عبيدٍ: فيه تجوُّزٌ، وذلك أَنَّهُ جعل القالَ مصدرًا كأنَّهُ قال: عن قِيلٍ وقَولٍ، يُقال: قلتُ قولًا وقِيلًا وقَالًا، فعلى هذا يكونُ: ((إنَّ الله كرِهَ لكم قيلًا وقالًا)) منوَّنًا لأَنَّهُما مصدران، وقال ابن السِّكِّيتِ: هما اسمانِ لا مصدرانِ، وقال غيرُه: مَن رَوَى غيرَ منوَّنٍ قال: إِنَّهُمَا فعلان، والأوَّلُ على أَنَّهُمَا اسمان، وفي حرفِ عبدِ الله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ تَمْتَرُونَ} [مريم:34].
          وقولُه: (وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) هذا على وجوهٍ جِماعُها الإسرافُ ووضْعُهُ في غيرِ موضِعِه كالأبنيةِ واللِّباس والفُرُش وتمويهِ الأبنيةِ بالذَّهبِ وتطريزِ الثِّيابِ به أو سقوفِ البيتِ فإِنَّهُ مِن التَّضييعِ والتَّصنُّعِ، ولا يمكنُ تخليصُه منه وإعادتُه إلى أصلِه حتَّى يكونَ أصلًا قائمًا، ومِن إضاعتِه تسليمُه لغيرِ رشيدٍ.
          وفيه دِلالةٌ على إثباتِ الحَجْرِ على المفسِدِ لمالِه، ومِن الحَجْرِ احتمالُ الغَبْنِ في البَيَاعاتِ، وقسمةُ ما لا يُنتفَعُ بقِسمتِهِ كاللُّؤلُؤَةِ، وتركُه مِن غيرِ حفظٍ له فيضيع، أو يتركُهُ حتَّى يفسُدَ أو يرمِيهِ إذا كان يسيرًا كِبْرًا عن تناولِه أو يُسرِفُ في النَّفَقَةِ أو يُنفِقُهُ في المعاصي، وأن يتخلَّى الرَّجُلُ مِن مالِه بالصَّدقاتِ وعليه دَينٌ لا يرجو له وفاءً، ولا صبرَ له على الضُّرِّ والإضاقَةِ، ولا يَرِدُ على فِعْلِ الصِّدِّيقِ حيثُ تصدَّقَ بمالِه كلِّه لغِنَاهُ بقوَّةِ صبرِهِ، ومَن في الأُمَّةِ مثلُه يُقاسُ به؟! وانظر مَن أنفقَه عليه.
          ويحتمل أن يتأوَّل معنى: (إِضَاعَةِ الْمَالِ) على العكس ممَّا سَلَفَ أنَّ إضاعتَه حبسُه عن حَقِّهِ والبخلُ به على أهلِه، كما قال:
وَمَا ضَاعَ مَالٌ أَوْرَثَ المَجْدَ أَهْلَهُ                     وَلَكِنَّ أَمْوَالَ البَخِيلِ تَضِيعُ
          وقال الدَّاوديُّ: إضاعةُ المالِ تؤدِّي إلى الفقرِ الَّذي يُخشَى منه الفِتنةُ، وكان الشَّارعُ يتعوَّذُ مِنَ الفقرِ وفتنتِه، قال: وفيه دليلٌ على فضْلِ الكَفافِ على الفقْرِ والغِنَى، لأَنَّ ضياعَ المالِ يؤدِّي إلى الفتنةِ بالفقْرِ وكثرةِ السُّؤال، وربَّمَا خُشي مِن الغِنَى الفتنةُ، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67] فنَهَى عمَّا يؤدِّي إلى الحالتينِ.
          وألَّفَ قومٌ في تفضيلِ الغِنَى على الفقرِ وعَكَسَ قومٌ، واحتجَّ كلٌّ وسكتوا عن الحالِ الَّتي هي أفضلُ منهما وهي التي دعا اللهُ ورسولُه إليها، وإِنَّمَا الفقرُ والغِنَى مِحنتان وبليَّتانِ كان الشَّارعُ يتعوَّذُ منهما، ولا يتعوَّذُ مِن حالةٍ فيها الفضلُ غيرَ أَنَّ الغِنَى أضرُّ مِن الفقْرِ على أكثرِ / النَّاسِ، وَإِنَّمَا توصَفُ الأشياءُ بأكثَرِهَا.
          وقال المهلَّب في (إِضَاعَةِ الْمَالِ): يريد السَّرَفَ في إنفاقِه وإنْ كان فيما يحِلُّ، أَلَا ترى أَنَّهُ صلعم ردَّ تدبيرَ الْمُعْدِم لأَنَّهُ أسرفَ على مالِه فيما يحِلُّ ويؤجَرُ فيه لكنَّه أضاعَ نفْسَه، وأجرُه في نفْسِه آكدُ مِن أجرِه في غيرِه.
          ومِن هنا اختَلف العلماءُ في وجوبِ الحَجْر على البالغِ المضيِّعِ لمالِه، فجمهورُ العلماء يوجبُ عليه الحجرَ صغيرًا كان أو كبيرًا، رُوي ذَلِكَ عن عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ الزُّبَيرِ وعائشَةَ، وهو قولُ مالكٍ والأوزاعيِّ وأبي يوسفَ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثورٍ، وقال النَّخعيُّ وابنُ سيرين وبعدَهما أبو حنيفةَ وزُفَرَ: لا حَجْرَ عليه، يدلُّ لهم حديثُ الَّذي يُخدَعُ في البُيوعِ ولم يَمنَعْهُ الشَّارعُ مِن التَّصرُّفِ، وللأوَّلِينَ حديثُ معاذٍ، ولعلَّ يكونُ لنا عودةٌ إليه في موضعِه إن شاء الله تعالى.
          وأمَّا (كَثْرَةَ السُّؤَالِ) ففيه وجهان ذُكِرَا عن مالكٍ:
          الأوَّلُ: سؤالُ الشَّارعِ فإِنَّهُ قال: ((ذروني ما تركتُكُم)) الثَّاني: سؤال النَّاسِ وهو ما فهِمَهُ البُخاريُّ وبوَّبَ عليه.
          وقال ابنُ التِّين فيه وجوهٌ:
          أحدُها: التَّعرُّضُ لِمَا في أيدي النَّاسِ مِن الحُطامِ بالحرْصِ والشَّرَهِ وهو تأويلُ البخاريِّ.
          ثانيها: أنْ يكونَ في سؤالِ المرءِ عمَّا نُهِيَ عنه مِن مُتَشابِهِ الأمورِ على مذهبِ أهلِ الزَّيغِ والشَّكِّ وابتغاءِ الفتنةِ، أو يكونَ على ما كانوا يسألونَ الشَّارعَ عن الشَّيءِ مِن الأمورِ مِن غيرِ حاجةٍ بهم إليه، فتنزِلُ البلوى بهم كالسَّائلِ عمَّن يجدُ مع امرأتِه رجلًا، و((أشدُّ النَّاسِ جُرمًا في الإسلامِ مَن سألَ عن أمرٍ لم يكن حرامًا فحُرِّم مِنْ أَجْلِ مسألتِه)) كما رُوي.
          وجاءت المسائلُ في القرآنِ على ضربينِ: محمودة مثل: {يَسْأَلُونَكَ عَن الْأَنْفَالِ} [الأنفال:1] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ونحوه، وبذلكَ أمرَ الرَّبُّ جلَّ جلالُه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] ومذمومة مثل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحُ} [الإسراء:85] و{عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات:42] وإليه يرجعُ قولُه: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة:101].
          وَأَمَّا حديثُ سعدٍ فتقدَّم بفوائدِه في كتابِ الإيمانِ في بابِ إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة [خ¦27] وأسلفْنَا هناكَ أَنَّ (أَرَاهُ) بفتْحِ الهمزةِ وأَنَّهُ ضُبط بضمِّهَا، وعليه اقتصر ابنُ التِّين هنا، أي أظنُّه.
          وقولُه: (أَوْ مُسْلِمًا) إِنَّمَا نهاهُ أنْ يقطَعَ بما لا يَعلمُ غَيبَه، ومعنى (مُسْلِمًا) مستسلِمًا يُظهِرُ بلسانِه ما لا يعتقدُه بقلبِه، وليس هذا المسلم الَّذي في قولِه تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78] والنَّبيُّ صلعم مع هبوطِ الوحي عليه لم يكن يعلمُ بحقيقةِ إيمانِ أحدٍ إِلَّا بوحْيٍ، وقد خفِيَ عليه بعضُ المنافقينَ، قال تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]
          وقولُه: (فَضَرَبَ بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي) سَبَبُهُ ليُنَبِّهَهُ لاستماعِ ما يقولُ له.
          وأسلفْنا أَنَّ (يَكُبُّهُ) بضمِّ الكافِ لأَنَّهُ ثلاثيٌّ مُتَعَدٍّ، وإذا كان رُباعيًّا كان غيرَ مُتَعَدٍّ، وهو شاذٌّ لأَنَّ سائرَ الأفعالِ إِنَّمَا يُؤتَى بالهمزِ فيها والتَّضعيفِ للتَّعدية.
          وقولُه تعالى: {فِكُبْكِبُوا فِيهَا} أي كُبُّوا على رؤوسِهم، وقال أبو عُبيد: طُرِحَ بعضُهم على بعضٍ، والأصلُ كُبِّبُوا قُلِبَ مِن الباءِ كافًا استثقالًا للتَّضعيف، وقيل: معناه فجُمِعُوا مشتقٌّ مِنَ الكَبْكَبَةِ وهي الجَماعَة.
          وقد أسلفنا هناك أَنَّ فيه فوائد: الشَّفَاعَةُ للرَّجُل مِن غيرِ أن يسألَها ثلاثًا في الصَّدَقَاتِ وغيرِها. وفيه أنَّ العالِم يُحَبُّ له أن يدعوَ النَّاسَ إلى ما عندَهُ وإلى الحقِّ والعلمِ بكلِّ شيءٍ حتَّى بالعطاءِ. وفيه أَنَّ الحرصَ على هدايةِ غيرِ المهتدي آكدُ مِن الإحسانِ إلى المهتدِي. وفيه أَنَّهُ يُعطي مِن المالِ أهلَ النِّفاقِ ومَن على غيرِ حقيقةِ الإسلامِ على وجهِ التَّألُّفِ إذا طمعَ بإسلامِه. وفي أحاديثِ البابِ كلِّهَا الأمرُ بالمعروفِ والاستفتاءُ وتركُ السُّؤالِ.
          وفي الآيةِ الثَّانيةِ وهي قولُه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:273] ودليلِ قولِه (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ) الحديث، بيانُ قولِه: ((لا تحلُّ الصَّدَقَة لغنيٍّ ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ)) رواه ابنُ عمر وأبو هريرة، أنَّ معناه خصوصٌ لقولِه تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}الآية[البقرة:273] تدلُّ على أَنَّهُ لو زال عنهم الإحصارُ لَقَدَرُوا على الضَّربِ في الأرضِ، ودلَّ ذَلِكَ على أَنَّهُم ذوو مِرَّةٍ أقوياءُ، وقد أباحَ لهم تعالى أَخْذَ الصَّدقةِ بالفقرِ خاصَّةً، وكذلك قولُه: (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلَهُ فَيَحْتَطِبَ) يدلُّ على هذا المعنى لأَنَّهُ لا يقدِرُ على ذَلِكَ إِلَا ذو الْمِرَّةِ السَّويُّ، ولم تحرُمْ عليه المسألةُ.
          فذهب قومٌ إلى الأخْذِ بالحديثِ السَالِفِ: ((لا تحلُّ الصَّدقة لغنيٍّ...)) إلى آخرِه وقالوا: لا تحلُّ لذي مِرَّة سويٍّ كالغَنِيِّ، هذا قولُ الشَّافعيِّ وإسحاقَ وأبي ثورٍ وأبي عُبيدةَ، ذكرهُ ابنُ المنذِر، وخالفهم آخرون فقالوا: كلُّ فقيرٍ مِن قويٍّ وزَمِنٍ فالصَّدقةُ له حلالٌ، وتأوَّلُوا الحديثَ أنَّ معناه الخصوص، هذا قولُ الطَّبريِّ لأَنَّهُ لا خلاف بين جميعِ الأُمَّةِ أنَّ الصَّدقةَ المحرَّمَةَ التي يكون أصلُها محبوسًا وغلَّتُها صدقةً على الغنيِّ والفقير أَنَّهُ يجوزُ للأغنياءِ أخْذُها وتملُّكها، فالحديثُ في الفرضِ لا في التَّطوُّعِ.
          وكذا أجمعوا على أَنَّ غنيًّا في بلدِه لو كان في سفرٍ فذهبتْ نفقتُه له أن يأخذَ مِن الصَّدَقَةِ المفروضةِ ما يحمِلُه إلى بلدِه، فالحديث مخصوصٌ إذن، وأنَّه مَعْنِيٌّ به بعضُ المفروضةِ، ولأنَّ الله تعالى جعلَ في المفروضةِ حقًّا لصُنُوفٍ مِن الأغنياءِ كالمجاهدِ والعاملِ وابن السَّبيلِ العاجزِ حالًا وإنْ كان غنيًّا ببلدِهِ. وكذا ذو المِرَّة السَّوِيُّ في حالِ تعذُّرِ الكسبِ عليه جائزٌ له الصَّدَقةُ المفروضةُ، وأمَّا التطوُّع منها ففي كلِّ الأحوال.
          وقال الطَّحاويُّ: لا تحرمُ الصَّدقةُ بالصِّحَّةِ إذا أرادَ بها سدَّ فقرِه، وإِنَّمَا تحرُمُ عليه إذَا أراد بها التكثُّرَ والاستغناءَ، يدلُّ على ذَلِكَ حديثُ سَمُرَةَ السَّالفُ: ((المسائِلُ كُدوحٌ...)) إلى آخره فأباح فيه المسألة في كلِّ أمرٍ لا بدَّ مِن المسألةِ فيه، وذلك إباحةُ المسألة في الحاجةِ لا بالزَّمَانةِ.
          ورَوَى يَحيى بن سعيدٍ عن مُجالِدٍ عن الشَّعبيِّ عن وهب بن خَنْبَشٍ قال: جاء رجلٌ إلَى رسولِ الله صلعم / وهو واقفٌ بعرفةَ، فسألَهُ رداءَه فأعطاه إيَّاه فذهب، ثُمَّ قال رسولُ الله صلعم: ((إنَّ المسألةَ لا تحِلُّ إِلَّا مِن فقرٍ مُدقِع، أو غُرْمٍ مُفظِع، ومَنْ سأل النَّاس لِيثرَى به فإنَّهُ خُموشٌ في وجهِه، ورَضْفٌ يأكلُهُ مِن جهنَّم، إنْ قليلٌ فقليلٌ، وإنْ كثيرٌ فكثيرٌ)) فأخبرَ في هذا الحديثِ أنَّ المسألةَ تحلُّ بالفقرِ والعُدْمِ، ولا تختلفُ في حالِ الزَّمِنِ والصَّحِيحِ.
          فكانت المسألةُ الَّتي أباحَها هي للفقيرِ لا لغيرِه، وكان بصحيحِ الأخبارِ عندنا يوجِبُ أَنَّ مَن قَصَدَهُ صلعم بقولِه: ((لا تحلُّ الصَّدقةُ لِذِي مِرَّةٍ سويٍّ)) هو غير مَن استثناهُ في هذِهِ الآثار، وأنَّ الَّذي تحرُمُ عليه الصَّدَقةُ مِن الأصحَّاءِ هو الَّذي يريد أن يتكثَّر مالَه بالصَّدَقةِ، حتَّى تصحَّ هذِه الآثار وتتَّفقَ معانيها ولا تتضادَّ وتوافقَ معنى الآيةِ الْمُحكَمَةِ وهي قولُه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}الآية[التوبة:101] لأَنَّ كلَّ مَنْ وقع عليه اسمُ صنفٍ مِن تلك الأصنافِ فهو مِن أهلِ الصَّدَقَةِ الَّتي جعلَها اللهُ تعالى لهم في كتابِه وسنَّةِ رسولِه، زَمِنًا كان أو صحيحًا، فهذا الَّذي حملْنَا عليه وجوهَ هذِه الآثار هو قولُ أبي حنيفةَ وأبي يوسفَ ومحمَّدٍ، قال ابنُ بطَّالٍ: وهو قولُ مالكٍ أيضًا فيما رواه المغيرةُ عنه أَنَّهُ يُعطَى القويُّ البَدَنِ مِن الزَّكَاةِ ولا يُمنَعُ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ.
          خاتمة: في بعضِ نسخِ البُخاريِّ عَقِبَ الحديثِ الأخيرِ: <وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَدْ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ> ومشى عليها ابنُ التِّينِ فقطْ فقالَ: قولُ البُخاريِّ: <صالح...> إلى آخرِه هو كما قال: وقد ذُكِرَ أنَّ الزُّهريَّ أدركَ ابنَ عمرَ ورَوَى عنهُ. قُلْتُ: وجماعاتٌ غيرُه ذكرتُهم في «المقنع في علومِ الحديث» وذِكْرُها عَقِبَ الثَّالثِ أَنْسَبُ. والزُّهريُّ اسمهُ محمَّدُ بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شِهاب، إمامٌ جليلٌ أعلمُ أهلِ زمانِه بهذا الفنِّ.