التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري

          ░55▒ بَابُ: العُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وِالْمَاءِ الجَارِي.
          وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ فِي العَسَلِ شَيْئًا.
          1483- ذَكَرَ فيه عَن الزُّهريِّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ _وَهُوَ ابنُ عُمَرَ_ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قال: (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيِ بالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ).
          الشَّرحُ: تعليقُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز أخرجه ابنُ أبي شَيبَةَ عن وكيعٍ عن سفيان عن عُبيدِ الله عن نافع قال: بعثني عمرُ بن عبدِ العزيز على اليمن، فأردتُ أن آخذَ مِنَ العسلِ العُشرَ فقال مُغيرةُ بنُ حَكيمٍ الصَّنْعانيُّ: ليس فيه شيءٌ، فكتبتُ إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فقال: صَدَقَ هو عَدلٌ رَضِيٌّ.
          وَحدَّثنا / أبو أسامةَ عن عُبيدِ اللهِ عن نافعٍ قال: سألَني عمرُ بنُ عبدِ العزيز عن صدقةِ العسل، فقلتُ: أخبرني المُغيرةُ بن حَكيم أَنَّهُ ليس فيه صدقةٌ، فقال عمر: عدلٌ مُصَدَّقٌ، وقال الرَّبيعُ بن سليمان أخبرنا الشَّافعيُّ أخبرنا مالكٌ عن عبدِ الله بنِ أبي بكرٍ قال: جاء كتابُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز إلى أبي وهو بمنًى ألَّا يؤخذَ مِن الخيلِ ولا مِن العسلِ صدقةٌ.
          وفي بعضِ نُسَخِ التِّرمذيِّ مِن حديثِ عبيدِ الله بنِ عمرَ عن نافعٍ قال: سأَلَني عمرُ بنُ عبدِ العزيز عن صدقةِ العسلِ، قال: قلتُ: ما عندَنا عسلٌ ولكنْ أخبرَنا المُغيرة بن حَكيمٍ أنَّه ليسَ في العسلِ صدقةٌ، قال عمر: عَدْلٌ مَرْضِيٌّ، فكتب إلى النَّاسِ أنْ يوضعَ عنه، رواه عن ابنِ بشَّارٍ عن عبدِ الوَّهابِ الثَّقَفيِّ عنه.
          وقال البَيْهقيُّ: قال الشَّافعيُّ في القديم: الحديثُ في أنَّ العَسَل يُعشَّر ضعيفٌ، وفي أَنَّهُ لا يُؤخَذُ منه العشرُ ضعيفٌ إلَّا عن عمرَ بنِ عبدِ العزيز، قال: واختيارِي ألَّا يؤخذَ منه لأنَّ السُّننَ والآثارَ ثابتةٌ فيما يُؤخَذُ منه وليست فيه ثابتةً فكأنَّه عفْوٌ.
          لكنْ لابنِ حزمٍ مِن طريقٍ منقطعةٍ ما يخالفُه قال: رُوِّينا مِن طريقِ ابن جُرَيجٍ: كَتَبْتُ إلى إبراهيمَ بن مَيْسَرة أسألُهُ عن زَكَاةِ العسلِ فَقال: أخبَرني مَن لا أتَّهِمُ مِن أهلي أنَّ عروةَ بن محمَّدٍ السَّعديَّ قال لهُ: إِنَّهُ كَتَبَ إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيز يسألُه عن صدقةِ العسلِ، فَرَدَّ إليه عمرُ: قد وجدْنَا بيانَ صدقةِ العسلِ بأرضِ الطَّائِفِ فخذْ منه العُشرَ، وقال أبو محمَّد: ومِن طريقِ ابنِ أبي شيبةَ عن طاوس أنَّ معاذًا لَمَّا أتى اليمنَ أُتي بالعسلِ وأوقاصِ الغنم فقال: لم أُؤمَرْ فيها بشيء. قال: وبألَّا زَكَاةَ في العسلِ يقولُ مالكٌ والثَّوريُّ وابنُ حيٍّ والشَّافعيُّ وأبو سليمانَ وأصحابُه، زاد ابنُ قُدامةَ: وابنُ أبي ليلى وابنُ المنذر.
          قال ابن المنذر: ليس في وجوبِ الصَّدَقَةِ فيه خبرٌ يثبتُ ولا إجماعٌ فلا زكاةَ فيه، قال: ورُوِّينا ذَلِكَ عن ابنِ عمرَ وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيز، وفي «الحاوي» للماوَرْديِّ: أمَّا العسلُ فقد علَّق الشَّافعيُّ في القديمِ القولَ به، فجعلَ ذَلِكَ قولًا له في إيجابِ عُشْرِه، ثُمَّ قال: والصَّحيحُ على القديم، وصرَّح قولُه في الجدِيد أَنَّهُ لا زَكَاةَ فيهِ، قال: وبإيجاب عُشْرِه قال الأوزاعيُّ وأبو حنيفةَ وأحمدُ وإسحاق فيما أُخذ مِن غيرِ أرضِ الخَراج.
          قال ابن قُدامة: وبه قال مكحولٌ والزُّهريُّ وسليمانُ بن موسى، وفي «شرح الهداية»: ورَبيعةُ ويَحيى بن سعيد وأبو عُبيد بن سلَّام وابنُ وَهْبٍ صاحبُ مالكٍ، كأَنَّهُم استدلُّوا بما رواه عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّهِ أَنَّهُ صلعم أخَذَ العُشْرَ منه، أخرجه ابنُ ماجَهْ بإسنادٍ جيِّد وحسَّنَهُ ابنُ عبدِ البَرِّ في «استذكارِه» وأمَّا البخاريُّ وغيرُه فقال: لا يصحُّ في زكاةِ العسلِ حديثٌ، وقال ابنُ المنذِرِ: ليس في وجوبِ الزَّكَاةِ فيه خبرٌ يثبُتُ عن رسولِ الله صلعم ولا إجماع فلا زَكَاةَ فيه.
          قُلْتُ: وعلى تقديرِه فيُحمَلُ على أخْذِه بتطوُّعهم به أو على أنَّ ما دفعوهُ مقابلَةً لِمَا حصلَ لهم مِن الاختصاصِ بالحِمَى، ولهذا امتنعوا مِن دَفْعِه إلى عمرَ ☺ حين طالبَهم بتخلِيَةِ الحِمَى لسائرِ النَّاسِ، وعند الحنفيَّةِ أنَّ محلَّ الوجوبِ فيه إذا كان في أرضِ العُشْرِ، فإنْ كان في أرضِ الخَراجِ فلا شيءَ فيه كالثَّمَرَةِ كما قدَّمْتُه، وهذا على قاعدتِهم كما ستعلمُه.
          وذَكَر البُخاريُّ هذا الأثرَ للتَّنبيهِ على أَنَّ حديثَ البابِ ينفي العُشْرَ فيه لأَنَّهُ خصَّ العُشْرَ أو نصفَهُ بما سُقي، فأَفْهَمَ ذَلِكَ أنَّ ما لا يُسقَى لا يُعشَّرُ، ويقوِّي المفهومَ فيه تقديمُ الخبرِ على المبتدأ في حصرِ إيجابِ العُشْرِ فيه، وإن كان قد يُتخيَّل أنَّ النَّحل يَرعى ممَّا لا مُؤنةَ فيه ولا تعب.
          وأمَّا حديثُ ابن عمرَ فهو مِن أفرادِه، كما أنَّ حديثَ جابرٍ في مسلمٍ مِنْ أفرادِه أيضًا، ولأبي داود: ((ما سقت السَّمَاءُ والأنهارُ والعيونُ أو كان بعلًا العشرُ، وفيما سُقِيَ بالسَّواني أو النَّضْحِ نصفُ العُشْرِ)) وفي الدَّارَقُطْنيِّ: ((فَرَضَ فيما سقَت السَّمَاءُ...)) إلى آخرهِ.
          وَقال النَّسائي: رواهُ نافعٌ عن ابنِ عمرَ عن عمرَ قولَه، واختَلفَ سالمٌ ونافعٌ عن ابن عمر في ثلاثةِ أحاديثَ هذا أحدُها، وثانيها: ((مَنْ باع عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ)) قال سالمٌ عن أبيهِ عن رسولِ الله صلعم، وقال نافعٌ عن ابن عمر عن عمر قولَه، ثالثُها: ((تَخْرُج نَارٌ مِن قِبَلِ الْيَمَنِ)) قال سالمٌ عن أبيه عن رسولِ الله، وقال نافعٌ عن ابن عمرَ عن كعبٍ قوله. قال: وسالم أَجَلُّ مِن نافعٍ وأنبَلُ، وحديثُ نافعٍ الثَّلاثةُ أولى بالصَّوَاب، ولِهَذَا الحديثِ وجوهٌ عن ابن عمرَ.
          قُلْتُ: قال الدَّارَقُطْنيُّ: رواهُ أيُّوبُ عن ابنِ عُقبةَ واللَّيثِ وابن جُرَيجٍ عن نافعٍ عن ابنِ عمر مرفوعًا كما رواه سالمٌ، قالَ: ووهِمَ في موضعينِ: في قولِه: عن ابن جُرَيجٍ عن نافعٍ وَإِنَّمَا رواهُ ابنُ جُرَيجٍ عن موسى بن عُقْبة، وفي رفْعِه وإِنَّمَا هو موقوفٌ، ورواه أيضًا مِن جهةِ عبدِ الله بن نافعٍ عن عاصم بن عمر عن عبدِ الله بن دينارٍ عن ابنِ عمرَ مرفوعًا، ولهُ غيرُ ذَلَكَ مِن الطُّرُقِ.
          إذا تقرَّرَ ذَلِكَ فالكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ:
          أحدُها: العَثَرِيُّ بعينٍ مهمَلَة ثُمَّ ثاءٍ مثلَّثَةٍ مخفَّفَةٍ ويجوزُ تشديدُها كما قاله الهَجَريُّ في «نوادره»، وحكاه ابن سِيدَهْ في «محكمِه» عن ابن الأعرابيِّ وردَّهُ ثعلبٌ، ثُمَّ راءٍ ثُمَّ ياءٍ مثنَّاةٍ مِن تحتُ. قال ابن سِيدَه: العَثْرُ والعَثَرِيُّ ما سقتْه السَّمَاءُ مِن النَّخلِ، وقيل: هو العِذْيُّ مِن النَّخْلِ والزَّرعِ، وفي «المثنَّى والمثلَّث» لابن عُدَيس ضمُّ العينِ وفتْحُها وإسكانُ الثَّاءِ فيهما.
          قال أبو عبيدٍ: العَثَريُّ والعِذيُّ ما سقتْهُ السَّماءُ، وما سقتْهُ الأنهارُ والعيونُ فهو سَيْحٌ وغَيْلٌ، والبعْلُ ما شَرِبَ بعروقِه مِن الأرضِ مِن غيرِ سقيِ سماءٍ ولا غيرِها، والنَّضْحُ ما سُقِيَ بالسَّواني ونحوِها. وقال ابن فارس: العَثَريُّ ما سُقي مِنَ النَّخْلِ سَيْحًا.
          ويردُّ على أبي عُبيدٍ وابنِ فارسٍ / وكذا الجوهريِّ وصاحبِ «الجامع» و«المنتهى» الحديثُ، فإنَّ لفظَهُ: (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا) وهو دالٌّ على أنَّ العَثَريَّ غيرُ ما سقتْهُ السَّماءُ والعيونُ، والصَّوابُ ما قالَهُ الخطَّابيُّ أَنَّ العَثَريَّ ما شَرِبَ بعروقِهِ مِن غيرِ سقيٍ، وعبارةُ الدَّاوديِّ: ((ما سقت السَّمَاءُ)) أي اكتفَى بسَقْيِ ماءِ السَّمَاءِ. والعَثَريُّ: ما يسيل إليْهِ مَاءُ المطرِ وتحملُه إليهِ الأنهارُ، سُمِّيَ بذلك لأَنَّهُ تكسر حولَه الأرضُ ويعثر جريُهُ إلى أصولِ النَّخلِ بتُرابٍ يرتفعُ هناك، قاله القُرطُبيُّ.
          وقال صاحبُ «المطالع»: قيل له ذَلِكَ لأَنَّهُ يُصنَعُ له شِبْهُ السَّاقيةِ يُجمَعُ فيه الماءُ مِن المطرِ إلى أصولِه، ويُسمَّى ذَلِكَ العَاثورَ، وحكى ابنُ المرابِطِ إسكانَ الثَّاءِ وقد سَلَفَ، والأوَّلُ أعرَفُ. وفي «المغيث» لأبي موسى: هو الَّذِي يشربُ بعروقِه مِن ماءٍ يجتمعُ في حَفِيرٍ، وسُمِّي به لأَنَّ الماشيَ يتعثَّرُ به، وقيل: إِنَّهُ ما ليس له حَمْلٌ. قال: والأوَّلُ أشهرُ وأصحُّ لأَنَّ ما لا حَمْلَ له لا زكاةَ فيه، وقد أوجبَ الشَّرعُ فيه الزَكَاةَ.
          وما أسلفناهُ في تفسيرِ البعْلِ في «الموعَب» لابن التَّيَّانِّي خلافُه حيث قال: قيل للنَّخلِ إذا كان يشربُ ماءَ السَّمَاءِ بَعْلٌ لأنَّ الغيث يأتيه مِنْ عَلٍ، وفي «البارع» لأبي عليٍّ القالِي كَمَا سَلَفَ، وكَذَا قالهُ يعقوبُ. وَخالفَ أبو عُبيدةَ فقالَ: البعلُ مِن النَّخلِ ما سقتْهُ السَّمَاءُ، وعن الكِسائيِّ وأبي عمرٍو: البعلُ العِذيُّ. وفي «العينِ»: البعْلُ الذَّكَرُ مِن النَّخلِ وهي أيضًا المرتفعةُ التي لا يصيبُها المطرُ إلَّا مرَّةً واحدةً في السَّنَةِ. وقال أبو حنيفة: كلُّ شجرٍ أو زرعٍ لا يُسقى فهو بَعْلٌ.
          و(العُشرُ) بضمِّ العينِ ويجوزُ إسكانُ ثانِيه وضمُّهُ، والعشُور بضمِّ العين وبفتحٍ أيضًا، قالهُ ابن بَزيزةَ، وَقال القُرطُبيُّ: أكثرُ الرُّوَاة على فتْحِ العينِ، وهو اسمُ القَدْر الْمُخرَجِ، وقالَ الطَّبَرِيُّ: العُشْرُ بِضَمِّ العينِ وسكونِ الشِّين ويكونُ العُشُورُ جمعَ عُشْرٍ، قال: والحكمةُ في فرضِ العُشْرِ أنْ يُكتَبَ بعشرَةِ أمثالِه، فكأنَّ الْمُخرِجَ للعُشْرِ تصدَّقَ بكلِّ مالِه.
          ثانيها: هذا الحديثُ أصلٌ في أنَّ لِشِدَّةِ النَّفَقَةِ وخِفَّتِهَا تأثيرًا في الزَّكَاةِ، فَمَا لا مُؤنةَ فيه أو كانت خفيفةً العشرُ، وفيما فيه مُؤنةٌ نصفُهُ، واختلف أهلُ العلمِ في هذا على تسعةِ أقوالٍ:
          أحدُها: ذَهَبَ أبو حنيفةَ إلى أَنَّ العُشْرَ يُخرَجُ في قليلِ ما أخرجتْهُ الأرضُ وكثيرِها ولا يُعتَبَرُ النِّصَابُ؛ لعمومِ الحديثِ وعمومِ قولِه تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] وقولِهِ تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَانَ} [الأنعام:141] وقولِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] إِلَّا الحطبَ والقَضْبَ والحشيشَ، وهو مذهبُ النَّخَعيِّ ومجاهدٍ وحمَّادٍ وزُفرَ، وبهِ قالَ عمرُ بن عبدِ العزيز ورُوي عن ابن عبَّاسٍ، وهو قولُ داودَ وأصحابِه فيما لا يوسَّقُ، وحكاه يَحيى بنُ آدمَ عن عطاءٍ، وقاله أيضًا حفصُ بنُ غياثٍ عن أشعثَ عن الحكمِ عن أبي بُردةَ: في الرَّطبَةِ صَدَقَةٌ، وَقال بعضُهم: في دَسْتَجَةٍ مِنْ بَقل.
          وعن الزُّهريِّ قال: ما كان سوى القمحِ والشَّعِير والنَّخْلِ والعِنَبِ والسُّلْتِ والزَّيْتُونِ فإنِّي أرى أن تُخرَج صدقتُهُ مِن أثمانِهِ، وحديثُ البابِ بعدَهُ يرُدُّ عليهِ ويقضي، وهو مقيِّدٌ له كَمَا سيأتي عن البُخاريِّ، وهو قولُ مالكٍ والثَّوريِّ والأوزاعيِّ واللَّيْثِ وأبي يوسفَ ومحمَّد والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثورٍ.
          قال ابنُ بطَّال: وقولُ أبي حنيفةَ خلافُ السُّنَّةِ والعلماءِ، قال: وقد تَناقَضَ فيها لأَنَّه استعمَل المجمَلَ والمفسَّر في قولِه صلعم: ((في الرِّقَةِ ربعُ العشرِ)) مع قولِهِ: ((ليس فيما دون خمسِ أواقٍ صدقةٌ)) ولم يستعملْهُ في حديثِ الباب مع ما بعدَه، وكان يلزَمُهُ القولُ به.
          قُلْتُ: وفي حديثِ جابرٍ: ((لا زكاةَ في شيءٍ مِن الحرْثِ حتَّى يبلُغَ خمسةَ أوسُقٍ، فإذا بلغَها ففيه الزَّكَاةُ)) ذَكَرَهُ ابنُ التِّينِ وقالَ: هي زيادةٌ مِن ثِقَةٍ فقُبِلَتْ، وفي مسلمٍ مِن حديثِ جابرٍ: ((وليس فيما دون خمسةِ أوساقٍ مِن التَّمرِ صَدَقَةٌ)) وفي روايةٍ له مِن حديثِ أبي سعيدٍ: ((ليس فيما دونَ خمسةِ أوساقٍ مِن تمرٍ ولا حَبٍّ صدقةٌ)) وفي روايةٍ: ((ليسَ في حَبٍّ ولا تمرٍ صدقةٌ حتَّى يبلُغَ خمسةَ أوسُقٍ)).
          وأيضًا حديثُ البابِ بيانٌ للقَدْرِ المأخوذِ دونَ المأخوذ منهُ، وحديثُ أَبَان بن أبي عيَّاشٍ عن أنسٍ أَنَّهُ ◙ قال: ((فيما سقت السَّمَاءُ العشرُ، في قليلِه وكثيرِه)) غيرُ محفوظٍ وفيه رجلٌ مجهولٌ وليس هو عن أنسٍ، رواهُ أبو مطيعٍ البلْخِيُّ _وهو مجهولٌ_ عن أبي حنيفةَ عن أَبَان _وهو متروكٌ_ عن رجُلٍ عن رسولِ الله صلعم.
          المذهبُ الثَّاني: يجبُ فيما له ثمرةٌ باقيةٌ إذا بَلَغَ خمسةَ أوسُقٍ عند الصَّاحبينِ، ولا يجب في الخُضَرِ ولا في البِطِّيخِ والقِثَّاءِ والخِيار، ونصَّ محمَّدٌ على أَنَّهُ لا عُشْرَ في السَّفَرْجَلِ ولا في التِّينِ والتُّفَّاحِ والكُمَّثْرى والخَوخِ والمِشْمِش والإجَّاصِ، وتجبُ في كلِّ ثمرةٍ تبقى سنةً كالجَوزِ واللَّوزِ والبُنْدقِ والفُسْتُق على قولِ أبي يوسُفَ، وعلى قولِ محمَّد: لا تجب.
          الثالثُ: يجبُ فيما يُدَّخر ويُقتاتُ اختيارًا كالحِنطةِ والشَّعِيرِ والدُّخْنِ والذُّرَةِ ونحوِها مِن القطنَيَّاتِ، وهو قولُ الشَّافعيِّ، ولا زكَاةَ عندَهُ في التِّينِ والتُّفَّاحِ والسَّفَرْجَلِ والرُّمَّانِ والخَوْخِ واللَّوزِ والمَوزِ وسائِرِ الثِّمَارِ سوى الرُّطَبِ والعِنَبِ، ولا يجب عنده في الزَّيتونِ والوَرْسِ في الجدِيدِ، ولا يجبُ في التُّرْمُس ولا في الخَضْراوات لحديثِ: ((ليس في الخُضَرِ والبُقولِ صدقةٌ)) لهُ طرقٌ لا تصحُّ، قال التِّرْمِذيُّ: لا تصحُّ وليس في هذا البابِ عن رسولِ الله صلعم، وإِنَّمَا يُروى / عن موسى بن طلحة عن رسولِ الله صلعم مرسَلًا.
          الرَّابعُ: قولُ مالكٍ مثلُ قولِ الشَّافعيِّ بزيادةِ يجبُ في التُّرْمُس والسِّمْسِم والزَّيتونِ وبَزْرِ الكَتَّان وبَزْر السَّلْجَم لعمومِ نفعِها بمصرَ والعراق.
          الخامسُ: قولُ أحمدَ يجبُ فيما له البقاءُ واليُبسُ والكيلُ مِن الجَوزِ والثِّمَارِ، سواءٌ كان قوتًا كالحنطةِ والشَّعِير والسُّلْتِ والأَرُزِّ والدُّخْنِ ونحوِه، أو كانَ مِنَ القطنيَّاتِ كالعَدَسِ والباقِلَّاءِ، أو مِنَ الأبازيرِ كالكُزْبَرةِ والكَمُّونِ والكَراويا، أو مِن البُزورِ كَبَزْرِ الكَتَّانِ والقِثَّاءِ والخِيارِ ونحوِه، أو مِن حَبِّ البُقولِ كالرَّشَادِ والفُجْلِ والقُرْطُم وسائر الحبوبِ.
          ويجب عندَه في التَّمرِ والزَّبيبِ واللَّوزِ والبُنْدُقِ والجَوزِ والفُسْتُقِ والتِّيِن والمِشْمِش والتُّفَّاحِ والكُمَّثْرى والخَوخ والإجَّاصِ والباذنجانِ والقثَّاءِ والخِيارِ والجَزَرِ، ولا يجبُ في ورَقِ السِّدْرِ والخَطْميِّ والأُشنانِ ولا في ثمرِهِ، ولا في الأزهارِ كالزَّعْفَرانِ والعُصْفُرِ، ولا في القُطْنِ.
          السَّادسُ: تجبُ في الحبوبِ والبُقولِ والثِّمَارِ، قالهُ حمَّادُ بنُ أبي سليمان.
          السَّابعُ: ليسَ في شيءٍ مِنَ الزُّروعِ زَكَاةٌ إِلَّا في التَّمرِ والزَّبيبِ والحِنطةِ والشَّعِيرِ، حكاهُ العَبْدَريُّ عن الثَّوريِّ وابنِ أبي ليلى، وابنُ العربيِّ عن الأوزاعيِّ وزاد الزَّيتونَ.
          ثامنُها: تُؤخذُ مِن الخضراوات إذا بَلَغَتْ مِئَتَيْ دِرهم، وهو قولُ الزُّهريِّ والحسنِ.
          تاسعُها: أنَّ ما يوسَّقُ يجبُ في خمسةِ أوسُقٍ منه، وما لا يوسَّقُ يجبُ في قليلِه وكثيرِه وهو قولُ داودَ.