التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب زكاة الإبل

          ░36▒ بَابُ: زكاةِ الإِبِلِ.
          هي بكسْرِ الباءِ وتُسكَّنُ للتَّخفيفِ ولا واحدَ لها مِنْ لفظِها.
          ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          هذِه الأحاديثُ سَلَفَ ذِكْرُها عندَه مسندَةً.
          1452- ثُمَّ ساقَ حديثَ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي ابن شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقال: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا لَشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟) قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحارِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا).
          هذا الحديثُ ذَكَرَهُ في العاريَّةِ أيضًا معلَّقًا بلفظِ: وقالَ محمَّد بن يوسُفَ حدَّثنا الأَوزاعيُّ حدَّثنا ابنُ شِهابٍ [خ¦2633] ولَمَّا رواهُ الإسماعيليُّ مِن حديثِ الحسنِ بن عبَّاسِ بن الوليد حدَّثنا محمَّد بن يوسف ومحمَّد بن عيسى قالا: حدَّثنا الأوزاعيُّ، قال فيه البخاريُّ: قال محمَّد بن يوسف لم يذكر الخبر. وقال أبو نُعَيم: حدَّثنا سليمان بن أحمد حدَّثنا عبدُ الله بن محمَّد بن سعيد حدَّثنا الفِرْيابيُّ حدَّثنا الأَوزاعيُّ، فذَكَرَهُ. وأمَّا أصحابُ الأطرافِ فذَكَرُوا أَنَّ البُخاريَّ رواه في هذا البابِ _أعني العاريَّةَ_ عن محمَّد بن يوسف. قال خلَفٌ وأبو مسعودٍ: قال البخاريُّ: رواه محمَّد بن يوسف به.
          إذا تقرَّرَ ذَلِكَ فهذا القولُ كان مِنْه قبْلَ الفتْحِ كما قالَ المهلَّب، لأَنَّهُ لو كان بعدَهُ لقالَ: ((لا هجرةَ بعدَ الفتحِ)) قُلْتُ: الحديثُ مؤوَّلٌ إِمَّا لا هجرةَ مِن مكَّةَ، أو لا هجرة فاضلةٌ كما كانتْ قبْلَها كما ستعلمُهُ في موضعِهِ، وقدْ سَلَفَ في أوَّلِ الكتابِ أيضًا في حديثِ: ((إِنَّمَا الأعمالُ بالنِّيَاتِ)) [خ¦1] الإحالةُ عليهِ.
          قال: ولكنَّه صلعم عَلِمَ أَنَّ الأعرابَ قلَّما تصبرُ على المدينةِ لشدَّتِها ولَأْوَائِها ووبائِها، ألا ترَى قلَّةَ صبْرِ الأعرابيِّ الَّذي استقالَهُ بيعتَه حينَ مسَّتْه حُمَّى المدينةِ، فقال للَّذِي سأله عن الهجرةِ: إذا أدَّيتَ الزَّكَاةَ الَّتي هي أكبرُ شيءٍ على الأعرابِ، ثُمَّ مَنَحْتَ منها وحلَبْتَها يومَ وُرُودِها مَن ينتظِرُها مِن المساكينِ فقدْ أدَّيْتَ المعروفَ مِن حقوقِها فَرْضًا وفضلًا مِن وراءِ البِحارِ، فهو أقلُّ لِفِتْنَتِكِ كما افتُتِنَ المستقيلُ للبيعةِ لأَنَّهُ قد شَرَطَ صلعم ما يَخشَى مِن مَنْعِ العَرَبِ الزَّكَاةَ التي افتُتِنوا فيها بعدَه.
          وقد ذَكَرَ البُخاريُّ هذا الحديثَ في بابِ المنحة والهجرة، وقال فيه: ((فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا؟)) فقال: نعم، قال: ((فَهَلْ تَحْلُبُهَا بَعْدَ وُرُودِهَا؟)) فقال: نعم [خ¦2633] [خ¦3923] ويحتملُ _كما قال القُرْطُبيُّ_ خصوصيَّةَ ذَلِكَ بالأعرابيِّ المذكورِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حالِه وضعفِه عن المقامِ بالمدينةِ، وقال بعضُ العلماءِ: كانتِ الهجرةُ على غيرِ أهلِ مكَّة مِنَ الرَّغائبِ ولم تكن فرضًا، دليلُهُ حديثُ البابِ فإِنَّهُ لم يوجِبْها عليهِ.
          قال أبو عُبيدٍ في «أموالِه»: كانتِ الهجرةُ على أهلِ الحاضرةِ دونَ أهلِ الباديةِ، وقيلَ: إِنَّمَا كانتِ الهجرةُ واجبةً إذا أسلمَ بعضُ أهل البلدِ دونَ بعضٍ لئلَّا يجريَ على مَن أسلمَ أحكامُ الكفَّارِ، ولأنَّ في هجرتِه توهينًا لِمَن لمْ يُسلِمْ وتفريقًا لجماعتِهم وذلك باقٍ إلى اليومِ، وإذا أسلمَ في دارِ الحربِ ولم يمكنْهُ إظهارُ دِينِه وجبَ عليه الخروجُ، فأمَّا إذا أسلم الكلُّ فلا هجرةَ عليهم لحديثِ وفدِ عبدِ القيس، والهجرةُ باقيةٌ كما سَلَفَ فلا تنقطعُ الهجرةُ ما قُوتِلَ الكفَّارُ، وكذا مَنْ هاجرَ ما نُهي عنهُ.
          وقولُه: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ) يريدُ إذا كنتَ تؤدِّي فرْضَ اللهِ عليكَ في نفْسِكَ ومالِكَ فلا تُبالِ أن تقيمَ في بيتِكَ وإن كانتْ دارُك مِن وراءِ البِحارِ ولا تهاجر؛ فإنَّ الهجرةَ في جزيرةِ العربِ ومَن كانت دارُه مِن وراءِ البِحارِ لن يصلَ إليها.
          والمرادُ بِـ (البِحَارِ) البلادُ، قيل في قولِه تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم:41] إِنَّهُ القُرى والأمصارُ، يوضِّحُه: اصطلحَ أهلُ هذِه البُحَيْرَةِ _يريدُ المدينةَ_ أن يُعَصِّبُوهُ. يعني ابنَ أُبيٍّ [خ¦4566] وفي حديثٍ آخرَ: ((كَتَبَ لهم بِبَحْرِهِم)) أي ببلْدَتِهم وأرْضِهم، وقيل: البِحارُ نفسُها. وعند صاحبِ «المطالع»: قال أبو الهيثم: مِنْ وراء التُّجَّار، وقالَ: هو وهَمٌ.
          وقولُه: (لَنْ يَتِرَكَ) هو بفتْحِ المثنَّاةِ تحتُ وكسْرِ المثنَّاةِ فوقُ وفتحِ الرَّاء، قيل: لن ينقُصَكَ مِن ثوابِكَ شيئًا، يُقال: وَتَرَهُ يَتِرُهُ تِرَةً، وقيل: لن يَظلِمَكَ، قال تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35] ومِثْلُهُ: {لَا يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14] يعني لن ينقُصَكُمْ. وفيه لُغَتانِ: أَلَتَ يألِتُ أَلْتًا، ولاتَ يَلِيتُ لَيْتًا، قاله اليزيديُّ، ورواهُ بعضُهم فيما حكاه المنذِريُّ بإسكانِ التَّاءِ مِن التَّرْكِ، وهو ظاهرٌ إن صحَّ، وضُبِطَ في رواية أبي الحَسَنِ بتشديدِ التَّاءِ، قالَ ابنُ التِّين: وصوابُه بالتَّخفيفِ، وعند الإسماعيليِّ: وقال الفِرْيابيُّ: بالتَّشديدِ.
          وفي الحديثِ _كما قال الدَّاوديُّ_ دليلٌ على قَبولِ الأعمالِ مِن قولِه تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:7] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] فمَنْ عمِلَ عملًا أرادَ به وجهَ الله وماتَ مسلمًا وَجَدَ عملَه في المَعادِ مُحضَرًا.
          قال: وقولُه: (إِنَّ شَأْنَهَا لَشَدِيدٌ) كانَ قَبْلَ الفتحِ قَبْلَ انقضاءِ الهجرةِ، ويدلُّ أَنَّ غيرَ أهلِ مكَّةَ لمْ يكن عليهم أن يُقيمُوا بالمدينةِ إذا هاجرُوا، ودلَّهُ على ما يُطيقُه مِن العملِ، ويَدلُّ أنَّ مَن بايَعَ مِنْ غيرِ أهلِ مكَّةَ على المُقام لزِمَه، ولذلك أبى أن يُقيلَ الأعرابيَّ بَيْعتَه وقالَ حينَ خرجُوا مِن المدينةِ: ((إنَّ المدينة تَنفي النَّاسَ)).
          وكلامُ الدَّاوديِّ هذا الآخِرُ هو الَّذي ذَكَرَه العلماءُ كما نَقله عنهم ابنُ التِّين في هذا الخَبَرِ أَنَّهُ يفيدُ أَنَّ الهجرةَ على مَنْ هو / مِنْ غيرِ أهل مكَّةَ غيرُ واجبةٍ، وقد سَلَفَ ما فيه.
          فائدة: قال الدَّاوديُّ: وَيْح كلمةٌ تُقال عند الزَّجْرِ والموعظةِ والكراهةِ لفعلِ المقولِ له أو قولِه، قال: ويدلُّ عليه أنَّه إنَّمَا سألَه أن يبايعَه على ذَلِكَ على أن يُقيمَ بالمدينةِ، ولم يكن مِنْ أهل مكَّة الَّذين وجبتْ عليهم الهجرةُ قبْلَ الفتحِ وفُرضَ عليهم إتيانُ المدينةِ والمُقام بها إلى موتِه ◙، وأَنَّهُ ألحَّ في ذَلِكَ، قُلْتُ: الَّذي ذَكرهُ أهلُ اللُّغة في وَيْحٍ أَنَّهَا كلمةُ رحمةٍ أو توجُّعٍ إنْ وقعَ في هَلَكَة لا يستحقُّها.
          قال الدَّاوديُّ: وسألَه أن يُبايعَه على ذَلِكَ على أن يُقِيمَ بالمدينةِ، وظاهرُ الحديثِ أَنَّهُ صلعم ظهَرَ له أَنَّ الرَّجلَ لا يُهاجِرُ، وتقييدُه الهجرةَ بموتِه صلعم فيه نظرٌ لأَنَّ القائلَ قائلانِ: إمَّا بسقوطِها بالفتْحِ عن جميعِ النَّاسِ مَن هاجَرَ ومَن لمْ يُهاجِرْ، وإِمَّا بعدَمِ السُّقوطِ بالفتحِ لِمَنْ هاجَر، نبَّهَ عليه ابنُ التِّينِ في الهجرةِ، قال: واختُلِفَ في الفتْحِ هل هو فتحُ مكَّةَ أو بيعةُ الرِّضوان؟